|
ياأخا الطير في طشقند:عشرة ايام قرب الجواهري
فاروق سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 2420 - 2008 / 9 / 30 - 09:02
المحور:
سيرة ذاتية
ارح ركابك من اين ومن عثر كفاك جيلان محمولا على خطر كفاك موحش درب رحت تقطعه كأنّ مغبرّه ليلا بلا سحر هذا الحلم الطالع من بين نخلات بحر النجف ، وهو يختصر الفسحة المتربة في ظلال النخل من اطراف - الحيرة - المنطوية هناك ،نحو فضاء الحضرة الحيدرية المطلة بأفقها الفسيح واواوينهاالمشرعة.. وفضائها الواسع .. وهذا الحلم الطالع من درابين المدينه القديمة ،وذاكرتها وثقافتها ، يرمي الينا بسيرة البلاد والأسماء والصفات والقصائد .. وحين يختصر هذا الرجل الكبير تاريخ القصيدة العربية بثرائها اجمعه.. يكون اللقاء به تاريخا حتى لو كان مصادفة مرسومة من تلك التي ترميها الأقدار بأتقان مثير .. * نافذة على الكرملين .. رمتنا الطائرة المرهقة من تراب الحرب في ربيع عام 1984 في مطار موسكو ، وكنا اربعة ، د. محسن الموسوي ، ود بدرخان السندي والمرحوم عبد الأمير معلّة وانا ،وكنا اعضاءا بصفات شتى في الهيئة الأدارية لأتحاد الأدباء مدعوين لحضور مؤتمر ادباء اسيا وافريقيا .. كنت احمل كآبة الحرب في اعماقي ، ولم تكن الرحلة تلك تحمل اية متعة بالنسبة الي ، حيث كانت الحرب في ذلك العام تأخذ منحى جنونيا .. لايكتفي بالفقد المرسوم بالشهادة بل بالمجهول الذي يلف غياب العشرات من البشر و الأصدقاء .. والمدن .. والمحطات. اخذتنا العربة الليموزين من مدخل المطار الى الطريق الفسيح عبر ضواحي موسكو ، وكنت يومها اتساءل حقا هل ستستطيع هذه المجموعة ان تنقل واقع الأدباء العراقيين في مؤتمر ادباء اسيا وافريقيا الذي احتضنه الأتحاد السوفياتي يومذاك .. استقبلنا الأدلاء في احد مداخل فندق راسيا الكبير المطل على الساحة الحمراء امام قصر الكرملين ، هذا الفندق المدهش في تصميمه وسعته .. وتاريخه الطويل في استضافة الآلاف من الوفود التي كان السوفيات يستقبلونهم في دورة لانهائية من الدعاية و العلاقات العامة غير المجدية كما ثبتت الأيام .. تسلمنا مفاتيح الغرف ، وتيقّنا من معرفة مواقع بعضنا ثم افترقنا .. لنغفو قليلا من اعباء الطريق ..وحين ابتدأت اقلب اوراق الحلقة الدراسية وبعض مايتطلبه وجودنا فاجأني وجه امرأة يطل من باب الغرفة الموارب متسائلة بعربية خاصة مااذا كانت هذه غرفة الوفد العراقي .. قلت نعم ، وانا اتطلع الى وجه ملائكي .. وعينين فيروزيتين .. وملامح امرأة .... قدمت نفسها برفق وقالت : اسمي ( للّيلا ) بتشديد اللام ، وساكون مترجمتكم . بدأت لحظتها اتساءل مااذا كان وجود امرأة بهذا الجمال رفقة وفدنا الرباعي سيحافظ على وحدة الفريق .. وادائه !! ولكن ماهي الآ لحظات مثل لمح البصر حتى دخل غرفتي اربعة من الرجال الروس .. قالوا هناك خطأ فرئيس الوفد العراقي هو الذي سترافقه هذه المترجمة ، تساءلت دون تحسب عن المقصود بكلمة رئيس الوفد .. قالوا الرجل الشيخ الذي وصل للتو الا تعرفه ؟ . والحقيقة لم يدر بخلدي اي حدس حول من يكون هذا الشخص ، بسبب جهلي بالمدعوين او بسبب الأرهاق الذي تسببت به الرحلة الطويلة يوم كانت الطائرات تغيّر مساراتها بعيدا .. وبرغم ذلك نهضت و رافقت المجموعة والمترجمة الجميلة ( لليلا )لأعرف سر هذه الجلبة التي تخفي جوهر المشكلة المجهولة .. وعبر الممرات الطويلة لفندق راسيا ذي الغرف التي تتجاوز بضعة آلاف كما يروى لنا عنه كل مرّة ، وصلنا جناحا ركنيا يطل على نهر الفولغا ، فقال الرجال الروس هذه غرفة رئيس الوفد ، وتوجهت بفضول غامرلأ فتح الباب دون ان اطرقه .. و بهدوء لأرى نفسي مأخوذا امام قامة الشاعر .. الجواهري .. ووجهه الحاني .. وطلعته الجادة ..وسيكارته التي بين اصابعه .. وحييت ( ابا فرات ) بأرتباك وتردد لفرط المفاجأة .. وحين مد يديه سألني برفق .. من اكون ، فعرفته باسمي وقلت له انا شاعر ضمن الوفد العراقي لحظتها وضع يده على كتفي وانا اشرح له الحكاية مرتجلا حلآ لتلك المشكلة التي وقع فيها اداريو العلاقات العامة حين ارسلو مرافقة الجواهري الينا لترافقنا خطأ فيما وجهو مترجمنا الشاب الى غرفة الجواهري وقلت ياابا فرات هذه اخطاء الأداريين وان تعرف شغلة العلاقات العامة .. .. عندها ضحك الجواهري واشار الى شاب من احدى جمهوريات الأتحاد لسوفييتي الجنوبية يجلس في ركن الغرفة .. قائلا : هذا كاظم مرافقكم .. وهويبتسم بجلال الشاعر . صافحته ضاحكا وضغط على يدي كمن يودعني سرا.. ومنذ تلك اللحظة احسست ان ثمة الفة نمت بيننا مذ خاطبته باحترام وعناية جاعلا ذلك الخطا مزحة قابلة للحل دون عناء .. واستاذنته تاركا الشاعر الكبير يسترخي من الأجهاد وقد وصل للتو من براغ .. المدينة التي أختارها منفى واحتضنته بأهتمام خاص منذ الستينات .. * الذي يتسلق جدار الحياة كنت مأخوذا بتلك اللحظة التي صنعت المصادفة تفاصيلها .. وكان شعورا غامرا بالاستغراق يتملكني ، فقد كانت كفي للتو تمسك بكف الجواهري .. ذلك الذي يلخص البحتري وابي تمام والمتنبي وعروة .. والشنفرى .. مثلما يلخص تاريخ بلادي الثقافي والشعري والنضالي .. كان وجود الشاعر سليمان العيسى ضمن الوفد السوري قد حقق نقلة اخرى في الأقتراب من الجواهري .. فقد توطت معرفتي بأ بي معن من قبل طالما كنا نكتب للأطفال ونحضر المؤتمرات الخاصة بالطفولة في مختلف العواصم ولعقود طويلة ..و كنا معا في موسكو والمدن الروسية الأخرى التي انتقلت اليها وفود مؤتمر ادباء اسيا وافريقيا ، حيث نستيقظ باكرا لنفطر معا ونتمشى باحثين بين سلال الفاكهة والخضار في اسواق موسكو الشعبية - والمدن الأخرى فيما بعد - عن غذاء يسد الرمق طالما عزفنا عن تقبل الطعام المختلف في تلك الفنادق الراقية ، رغم كثرته وتعدد انواعه .. وفي الفجر عبر الممر المعتم فاجأنا الجواهري بقهقهته وهو يخاطب سليمان العيسى قائلا : ما معقولة ماعلمتك بغداد التي درست وعشقت فيها ان تكتب قصيدة غزل عظيمة . واحتضنا بعض في تناغم صداقي وضحك حميم .. قال له العيسى ، انا اتعلم منك ياابا فرات و هذا شاعر من بغداد شاهد علي - وهو يشير الي - فرد الجواهري ( هذا خوش شاب وكأنه ابنناّ .. وهو يذكرني كيف كنت مندفعا يوم نشرت قصيدتي -الشاعر المقبور- وانا في الثامنة عشرة ) في لمسة منه اضفت احساسا حميما خاصا . وهكذا بدأت تفاصيل الأيام العشرة التي امتدت الى بلروسيا وطاشقند وسمرقند وموسكو حيث تواصلت فعاليات مؤتمر منظمة ادباء اسيا وافريقيا .. وكان الجواهري فيها شاعرا وانسانا .. ضيفا شرفيا يتسلم جائزة المنظمة وتكرمه ادارة المهرجان .. ويحتفي به اتحاد الأدباء الروس .. وفي احد الصباحات رايناه باكرا في الفجر كعادته .. فحيينا - ابا فرات- ودمدمت بيتا من شعره في تردد بيّن : ويا اخا الطير في ورد وفي صدر في كل يوم له عش على شجر فقال العيسى : مثل الطائر المبكر يستيقظ ابو فرات .. فينفث دخانه ويقول : ان الحياة غلاّبة .. وهي لعينة تتسلقك اذا لم تتسلق حائطها انت لذلك يجب ان استيقظ من الفجر لكي لانعطيها فرصة فتغلبنا .. وهذه طريقتي من ( الجهل ) قالها بنبرة الراوي العريق مانحا تلك الكلمة مغزاها العراقي الخاص .. قلت له وبألامس كنت مثل صبي عاشق تستجيب للدعوة الى حلبة الرقص في حفل اتحاد الأدباء الروس ، فتبسم وهو يرمي سليمان العيسى بنظرة معبرة : لا ..لا.. عاد هاي اخلاق ، قالها بعراقية ثم واصل : فعندما تدعوك امرأة اجنبية الى الرقص الهاديء فهذا يعني انها تكرمك .. وقد فعلت ذلك لأن الشاعر هو ابو الأصول .. مثلما هو يكسر كل قوانين التمنّع الكاذب ، ها مولانا – ملتفتا الى العيسى حيث يضحك الشيخان في بهجة الشعراء .. ثم يغادر خارجا رفقة مساعديه .. ولقد اخذتنا الأيام خلال المهرجان الى مسافات طويلة عبر القطارات والترحال بين جمهوريات الأتحاد السوفياتي .. وكان ابا فرات يحرص على النوم المبكر . اما مستلقيا في عربة القطار او في غرف الفنادق التي حللنا بها . ( مرحبا ايها الأرق ) كنا نحن اعضاء الوفد العراقي نحس بحرج خفي امام ابي فرات في ظروف الحرب تلك وقد حملته المنافي وهو محمول على سفر دائم ، ولكن الجواهري الكبير تصرف وكأنه عضو في الوفد او مثلما كان من قبل عقود على رأس اتحاد الأدباء ومؤسسه اصلا .. كان حانيا وشفوقا رغم كل اشكالات الحرب والظرف السياسي حينئذ .. طاشقند وبخارى التف حول الجواهري ادباء المغرب العربي من تونس اولا والمغرب وموريتانيا .. وتجولوا من حوله بين مساجد المدن الأسلامية وآثارها واحاط به الأدباء العراقيون و المصريون ، والجزائريون وهويرسم من حولهم دوائر الشعر والذكريات .. وحين وقف تلك الليلة وسط فسحة المبنى الأسلامي القديم في قلب طاشقند قرا قصائد شتى من براغ الى بغداد الى مقاطع من قصائد عاطفية حولت الأمسية الى لون خاص تقاسم فيها المترجمون الروس تحديات الترجمة الى كل اللغات فيما صفق ادباء اسيا وافريقيا لشيخ القصيدة العربية وهو يمنح الشعر هيبته في الألقاء والتجلي .. والأقتراب الحميم . كان بكل مايمتلكه من مكانة مضيافا ومباشرا وصديقا رغم العمر – 1899 - 1997 وبخاصة في تلك الدعوات الخاصة التي ضيفنا فيها المزارعون والفلاحون .. وقدمو لنا الطعام والشراب والموسيقى .. وحين تعقد حلقات الرقص كان الجواهري مستجيبا بلطف ورشاقة لتلك الدعوات معبرا بحق عن اخلاق الشعراء الكبار .. كما قال لنا ذلك الصباح .. لقد مرت الأيام خفافا وسط تجليات مؤتمر ادباء اسيا وافريقيا - 1984 - وكان الجواهري بينهم كبيرا وخلاّقا يملأ المكان .. ومايزال منذ اختاره الرب عام 1997 موحيا ومتجذرا وتلك صورته حاضرة وشعره يحكي سيرة رجل اختصر فيه الحبوبي والكاظمي والشرقي والرصافي والزهاوي والبحتري وابي تمام والمتنبي وكأنه اليوم بعد عقد من وفاته يقول : ستبقى ويفنى نيزك وشهاب عروق ابيات الدماء خضاب
#فاروق_سلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سور الصين .. وهادي العلوي ونحن الثلاثة
-
مراجل الوطنية الجديدة
-
ويأتيك كل غد بما فيه
-
ومثقفون يتاجرون بالعراق
-
مثقفون عراقيون في طهران
-
خازوق يرسم شكل المرحلة - شاشه 3
-
الحرّة .. يأكلها الدود - شاشة 2
-
أمة ضاحكة..شاشة 1
-
الذي في يديك .. في الكلمات
-
كل شيء معتم ..كل شيء بائر
-
الشرق البعيد يمضي ..الشرق يغيب
-
طائر الحصى
-
طائر اسود وسط بياض الحديقة
-
ابراهيم الكوني : عزلة السرد بكل اللغات
-
اوراق الدفتر لاتكفي لكلمة
-
امنية ثالثة للوليتا
-
البنفسجة التي في بلادي
-
ناشطات عراقيات ودعوة .. وارتجالات
-
مارك جينكنز : تماثيل الشارع ..امتداد للفن الشعبي
-
عاموس عوز : روايتي تقول ..لن يزول الفلسطينيون
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|