تقتضي شمولية الطاغية أن يكون مالك أقدار رعيته , فيكون مفتاح الموت والحياة بيديه , يكون سفّاحا حين يقتضي وجوده ذلك أو يكون رحميا. وفي سبيل ذلك ينفصل عن الناس من أجل أن ينبني في ذهن ومخيلة كل منهم كائنا خارقا بقدراته , ساميا بتناقضاته. أمّا عملية الانبناء هذه فتتم في بوتقة خوف الكائن البشري وأوهامه وضعفه ورجائه. فيخرج سيده منها جبّارا قويا. تكون الأشياء بأمره , ويكون قادرا على سد ما في تابعه من عجز.
وهكذا , فكلما ازداد الإنسان ضعفا ازداد مالك قدره قوة. فثمة علاقة يكون التكيف مع الضعف فيها على صورةِ قوةٍ عكسية مكافئة منفصلة. إن كانت في الشخص نفسه وقع فعلها على غيره فكان حلقة في سلسلة الاضطهاد يعوّض فيها عن عجزه بممارسة السلطة على الآخرين , كما هو فلح في سجن أبو غريب , فلح الذي يقول عنه رفعة الجادرجي في (جدار بين ظلمتين)(دار الساقي , 2003) " كان قاسيا مع الضعيف ويستمتع بإهانة النزلاء , ويسعى دائما إلى خلق الظروف ليتمكّن من إظهار موقعه الأمني المتميّز , وقدرته على إهانة السجناء " (ص284), وإن كانت في غيره كنا أمام خيارين من طبيعة واحدة: أن تُمنح هذه القوة المكافئة لسلطة غيبية أو تمنح لمالك سلطة أرضية. بيد أن هناك علاقة وثيقة بين هذين الخيارين , علاقة تتأتى من حتمية العيش في ظروف أرضية تحكمها سلطة بشرية. ولذلك قد يقول المنفصل عن ضعفه لصالح قوة الآخر بأولوية سلطان الأرض , من خلال تحكّم الأخير بمفاصل الحياة اليومية , فيهبه القوة محتفظا لنفسه بالضعف. بينما يجد منفصل آخر نفسه أمام تراتبية خارجية تحكم القوة والضعف , تراتبية يكون الحاكم الأرضي فيها أضعف من السماوي. وهذه وضعية تقود القائل بها , في أحايين كثيرة , إلى إقالة نفسه من الصراع القائم بين حاكم ظالم وإله عادل. وبانتظار أن يأتي عقاب السماء يعيش الطاغية , بينما رعاياه في الزنازين يشيرون " إلى الله , كما لو كان رئيس القبيلة أو راعي أفرادها "(ص 313) راعيا لا بد أن يعمل على إخراج رعيته من محنتهم. على أنّ هناك مِنَ الناس مَنْ يعادل ضعفه بقوة عقلية وروحية , أي بقوة إرادة تضعه خارج سياق اضطهاده للآخرين أو الاستسلام لاضطهاد الطاغية , أو انتظار العون من قوة سماوية خارقة. يقول رفعة جادرجي لحمدان في (جدار): " مشكلتي ليست مع الله , وإنما مع صدّام , هو الذي يطلعني "(ص307) . وفي هذه الحالة , حالة وضع النفس في تضاد مع مركز الشر الأرضي , يقع فعل القوة المكافئة على النفس , فتكون النتيجة , غالبا , التضحية بها لصالح قيم الخير والحقيقة والعدالة والحرّية.
أما انفصال الطاغية عن رعيته واتصاله بهم فيكون بما يضمن انبناءه كلاًّ يكون منه الخير والشر كما يكونان به , يسجن حين يشاء ويعتق حين يريد , يحكم بالموت إذا شاء وينعم بالحياة متى أراد , يحبس النعمة عن عباده أو يغدقها عليهم على هواه. وهو هو في جميع الحالات , لا يكون نصفه دون نصفه الآخر , فلا تكون مكرمة الحرية ما لا يكون السجن , ولا تكون النعمة ما لا يكون حبسها.. وكإله وثني يكون على المشمولين بسلطانه أن يقدّموا له الضحايا البشرية طمعاً برضاه , ثم تعبيرا عن الشكر لكرم عطاياه. ولذلك يعمل المجتمع بحماس على حشر المزيد من أبنائه في المعتقلات " ليلوكهم المولوخ " كما يقول شالاموف في (كلمة تأبينية) , ولذلك , أيضا , يخرج سجناء (الأحكام الخاصة) في (جدار بين ظلمتين) إلى ساحة السجن يهتفون بحياة صدام حين تلوح طائرة مروحية في الفسحة السماوية فوق السجن. " كان صدّام رئيس الجمهورية , يتجوّل في دور الناس وفي المدارس ويعفو عن هذا وذاك , وقيل إنه طار بهليكوبتر إلى كركوك [..] وإذا بطائرة هليكوبتر تمر فوق السجن ولسبب من الأسباب أخذت تحوم حوله , فركض جمهور السجناء يستقبلون الهليكوبتر , وبدأت الهتافات بحياة الرئيس , وكلما انتقلت الهليكوبتر إلى جهة من الساحة ركضوا باتجاهها , وكلما تأخر هبوطها , علت أصوات الهتافات صخبا , وأصبحت نصوصها أطول وأكثر توسّلا "(ص280) ذلك ما رآه رفعة في سجنه , أمّا ما رأته بلقيس خارج السجن من أحوال الناس مع جلاّدهم الرحيم , فعبّرت عنه بالتالي: " ولما ازدادت حوادث اعتقال الناس الاعتباطي من قبل السلطة , أصبحت زيارته أمنية من الأماني , وسرت العدوى بين أهالي المعتقلين والمسجونين. ومنهم من تحققت أمنيته بتلك الزيارة "(ص230).ولم لا ؟! إذا كان الاعتقال يتم عشوائيا , بهدف إرهاب الناس وكسب طاعتهم العمياء , فلم لا يتم إيهام الناس بقيمة التمني والتوسل والرجاء والسكوت على المظالم !؟ ذلك أن من شأن صيغ الاحتجاج , مهما كانت متواضعة , أن تزيد الوضع سوءا , بخلاف الرجاء الذي قد يثمر مكرمة إفراج , أو لا يعقّد أمور المعتقل في أسوأ الحالات. فكم من الناس يسكتون عن المظالم الواقعة عليهم وعلى ذويهم وأصدقائهم خوفا من الانتقام. فيحجمون حتى عن الاحتجاج أمام المنظمات الحقوقية الدولية , أو عن إعلان ما تعرضوا له على الملأ. فاستباحة القوانين , الجائرة أصلا , عملية تهدف إلى إشعار الناس بالمزيد من العجز , فلا يبقى أمامهم , والحال كذلك , إلا السجود أمام صاحب السلطان على القوانين والبشر. ولذلك يغدو طبيعيا أن يُعفَى عن سجين بعد قليل من صدور حكم بالسجن المؤبّد عليه من قبل محاكم البعث الثورية فيُهَلَّل للعفو الكريم وصاحب الحق الوحيد بإطلاقه , أو أن يُحتَفظ بشخص حتى الموت دون محاكمة فيُسكت عن الموت , ويصرف النظر عن التأبين والعزاء , أو أن يعاد ثالث إلى أقبية المخابرات بعد انتهاء مدة حكمه بانتظار موجة رحمة تأتي من مكان ما. وإذا كان إخضاع القوانين لإرادة الطاغية يشكّل نهجا يجرّد الإنسان من آخر سلاح لديه خلا وحشيته , فإن في حرمان الناس لقمتهم واستباحة حيواتهم ما يعيدهم إلى حيوانيتهم فيصبح البقاء هاجسهم , وتصبح غريزة البقاء موجّه سلوكهم. فيصبح من أنزل بهم المصيبة " المنقذ لهم من المصيبة التي أصابتهم" (ص 231). وهذه المقولة يراد لها أن تتأصل في الوعي العام , بحيث يصير واحدٌ أحدٌ مرجعَ كل الأشياء , فيكون يهوه في عليائه ويكون بيلاطس في تماسه مع البشر , يُرسل المُبَشِّر إلى الصلب ويعفو عن المجرمين. وعلى مقولة (صاحب الحق الوحيد) أن تتأصل في ممارسات المؤسسة الحقوقية للسلطة الشمولية. أّما حدود هذا الحق فلا تتعين بالقوانين , بمقدار ما تتحدد بأشياء يكتنفها الغموض , بل يجب أن تبقى غامضة. فثمة سلطة تتحقق بالغموض والإبهام , سلطة تكون بتناقض الأسباب و وحدة الأحكام , أو بوحدة الأسباب وتناقض الأحكام , فمن سواه يكون بالأضداد ! ومنه , فها هو حاكم التحقيق يقول لرفعة بعد إعلان الحكم المؤبد ضده :" الذي أدخلك , سيطلعك "(ص180). وإذا كان لذلك أن يفعل شيئا في السجين فإن أهم ما يفعله هو خلخلة حياته وجعل السجن مفتوحا على احتمالات تتراوح بين الإعدام والعفو. يعبّر رفعة عن القلق الذي يصيب السجين المطلوب إلى الإدارة :" إن المسافة التي أقطع بها الممر للوصول إلى الإدارة طويلة. والسجين لا يعلم ما ستكون نتيجته , هل هي (مكرمة عفو) أو إحالة إلى محكمة صورية أخرى , أو تعذيب , أو إعدام. جميع هذه الاحتمالات على النزيل أن يفكّر بها ويتوقعها. إنها رحلة طويلة من الشك والقلق , فهي حالة مرعبة "(ص287). هذه الحالة المعلّقة المتقلقلة التي يعانيها السجين تترافق مع حالة مشابهة يعانيها المجتمع , تجعل الجميع يعيشون حالة انتظار وترقب مدمّرة للأعصاب ينهار فيها الفرد والمجتمع لصالح الاستبداد.
وكما هو الابن صدّام , يكون ستالين في رواية(الثياب البيضاء) لفلاديمير دودينتسيف , الصادرة بالروسية عن دار (الكاتب السوفيتي) عام 1988 والتي تدور حول مأساة علم الوراثة السوفيتي , حاضرا بصفته حَكَماً تحتكم إليه جهتان متناقضتان , جهة تقول بالحقيقة العلمية وأخرى لا ترى حقيقة فيما يناقض الأيديولوجيا. والتضاد المربك خاصية طالما يكرّسها نظام الطاغية. فصاحب السلطة المطلقة هو الوحيد الذي يمكن أن يصدر في قضية واحدة حكمين متناقضين ويكون كلاهما صحيحا وعادلا. ذلك أن عدالة الحكم لا تأتي من القوانين أو من القضية أو من توافق هذه مع تلك , إنما تأتي من الحاكم الذي كل ما يقوله صحيح وعادل وملهم وعقلاني حتى عندما يخالف منطق العقل. بيد أنّ هناك مِنَ الناس مَنْ لا يقبلون التضحية بعقولهم لصالح أي شيء. في (الثياب البيضاء) يقول ستريغاليف المتخفّي أثناء إحدى زياراته لديجكين: " لو أن ستالين بنفسه قال لي يجب خدمةً للدولة والشعب أن أتخلى عن هذه التجارب..وهم تقريبا قالوا لي ذلك .. تقريبا باسم ستالين ..فما كنت لأقضي عليها ولأكملت رغما عن كل شيء , مستعدا لكل شيء"(ص 255). ولكن إذا وجدّتَ مستميتا في دفاعه عن الحقيقة كستريغاليف , فليس كمثله يكون الآخرون. فها هو ديجكين نفسه , ديجكين الذي نذر نفسه واعيا لمقاومة التعسف , يفكّر بكتابة رسالة إلى ستالين بعد أن تُعتقل زوجته لينا: " ماذا عساي أفعل ؟ ما العمل ؟ رسالة ! رسالة إلى ستالين !" (ص 214). لعل أبا الشعب يقضي على أولئك الذين يقفون في وجه الحقيقة ويأمر بالإفراج عن لينا.. الأمر الذي سترفض أن يشملها دون رفاقها الآخرين المعتقلين. وذلك ما يجعل ديجكين يتردد فهو لا يثق ببلوغ نتيجة كهذه , من جهة , ولا يثق بقبول لينا لخلاص فردي: " هكذا حريّة ستكون أصعب عليها من حكم بالإعدام"(ص215). لكن رغبة جامحة كانت تدفعه إلى محاورة لينا في دخيلته:" لينَتشكا ! دعيني بطريقة مات أساومه على إطلاق سراحك [فيأتيه صوتها] لا تجرؤ , لا تجرؤ على التفكير بذلك .. سأتحوّل لو فعلت إلى أثير وأذهب باحثة عن فيدور الحقيقي , عن فيدور الذي كان , فيدور الذي لا يسمح لنفسه بأن تراوده فكرة تحريري وحدي , تحرير ما يعود إليه من أجل نفسه"(ص 216). ومع ذلك يبقى ستالين بالنسبة له كائنا متعاليا , قائما على علل فوقية , خارج دائرة الصراعات , القائمة بين أنصار الحقيقة وأنصار الأيديولوجيا , على الأرض المدنّسة بممارسات تتم في غفلة عنه هو المنشغل بالأسمى والأهم. يحاول ديجكين طرق أبواب سماء ستالين مرتين ؛ في المرّة الأولى يضع , ذهنيا , ذباب الدروسوفيلا بين يدي الحاكم العظيم ويجعله ينظر إلى ما يحصل في أنبوب الاختبار بعيني عالم , فإذا بصفات الذباب تنقسم وفق مندل وإذا بالويسمانيين الذين زُجَّ بهم في السجون على حق , وإذا بستالين يتبين الحقيقة وينتصر لها , منزلا العقاب بالمضللين. يقوم ديجكين , هنا , باستخدام ستالين كأداة لإرهاب العجوز الشرير الأكاديمي ريادنو , وليسوّغ تجاربه , هو ديجكين , مع الذباب الذي صار العمل عليه جرما سياسيا يستوجب العقاب: " يخيل إلي أن عراكا ينتظرنا في المستقبل. يمكنهم أن يضعوا بين يدي الرفيق ستالين لعبة. ذبابات في أنبوب اختبار. بلا أجنحة وحمراء العيون.[فيجيبه الأكاديمي] لا يستطيعون , فجماعتنا في كل مكان.. , ثم , ليكن ! وماذا بعد ؟ [فيجيب ديجكين] يلعب الرفيق ستالين بهذه الذبابات , فاللعبة ممتعة , فتكون النتيجة واحدة إلى ثلاث , فيقرر عقد اجتماع لمناقشة الأمر.." (ص 151). أمّا ما يكون بعد ذلك , ما يضمره ديجكين في خطابه , فلا بد أن يكون لصالح الحقيقة , ذلك أن مقولة العدالة العليا تقتضي ذلك. وليس من السهل أن يتخلى المرء عن الإيمان بها. وهذا بالذات ما يجعل ديجكين يفكر بوضع صنف البطاطا الذي وصل إليه ستريغاليف بواسطة علم (غربي ممنوع) أودى بصاحبه إلى المعتقل ثم الموت .. وَضْعِهِ بين يدي ستالين , أملا بأن يأمر الأخير بتسجيل الصنف باسم الضحية. فيثير اقتراح ديجكين استغراب العقيد في المخابرات العارف والمتعاطف مع الويسمانيين , والباحث عن طريقة لتسهيل عملهم وإطلاق سراح المعتقلين منهم , العقيد الذي يرى في متابعة البحث العلمي والحصول على نتائج قاطعة طريقا وحيدا للخلاص. يتساءل ديجكين: " وماذا لو لجأت إلى ستالين.. " فيجيبه العقيد مستغربا: " فيدور إيفانوفيتش ! تجعلني أشعر بالحرج من سماعي هذا منك. [يرد ديجكين] :هي مجرد فكرة , وما الممكن غير ذلك [فيأتيه الرد واضحا]: سيُلقى بكم حالا تحت مخالب كاسيان , ومنه ستحوّلون إلينا.."(ص297). وفي غير مرّة يكون العقيد أكثر وضوحا حيال مسألة الكتابة لستالين وبالتالي دور الأخير المضمر فيما يحصل:" الكتابة للرفيق ستالين ! كتبوا ولم يُفِد , ولولا قليل لازداد الأمر سوءا.."(ص373). كما أن العم بوريس كان , بدوره , أكثر تبصرا في حقيقة ستالين من معلّمه ديجكين. فها هو العم بوريس يخرج من جيبه أوراقا يسلّمها ساخرا لديجكين فيقرأ الأخير:" هل أنتم على علم بأن الرفيق ستالين يهتم بالعلوم البيولوجية ؟ ثم , ما هو موقفكم من أنَّ التقرير قبل عرضه على مؤتمر آب نال موافقة ستالين ؟" (ص317) فقد استدعِي العم بوريس إلى المخابرات وحقق معه بصفته نصيرا للويسمانيين. أمّا مؤتمر آب فهو المؤتمر الذي تم بنتيجته تصفية الكثير من علماء الوراثة السوفييت الذين قالوا بعدم مطاوعة الوراثة للأيديولوجيا.
وبين صدّام وستالين تجد في جعبة كل منا الكثير من الأمثلة عمن هتفوا بحياة جلاّدهم ويهتفون , عمّن رأوا في استبداده رحمة ومن يرون , عمّن رجوا فيه الخلاص ومن يرجون , عمّن رفّعوه عن الشرور ومن يُرفّعون , عمّن فَصَلوه عن منظومة الشر ومن يفصلون , عمّن وجدوا له في ضعفهم عذرا ومن يجدون , عمّن انتظروا من حابس الغيم غيثا ومن ينتظرون .. قُلْ إنهم ضحايا , من يعلمُ منهم ومن لا يعلمون. فبين انفصال الطاغية عن الناس واتصاله بهم تنثني الركب وتنحني الظهور ويغشى على الأبصار فيُصنَع الراكعون , وفي أرحام الراكعين يرتسم الطغاة ومن بطونهم يولدون , وعلى رؤوسهم المطأطأة تنبني العروش... ومن روح الخاتمة أختتم بـ (اللهم لا تجعلنا من صنّاع الطغاة الظالمين!)
-انتهى-