•- إذا قبّلت حذاء الطاغية فستكون عبداً لأي طاغية، سواء أكان عربياً أو مسلماً أو أجنبياً
- هل سمعتم إسم طه حسين في الفضائيات العربية مؤخراً؟ هل سمعتم بواحد إسمه أمين الخولي؟ أبداً
أقامت رابطة الرافدين الثقافية في أمستردام ندوة فكرية للباحث والمفكر المصري د. نصر حامد أبو زيد. وقد انضوت المحاضرة تحت عنوان (هل هناك نظرية في التأويل القرآني؟). ويشير هذا العنوان من طرف غير خفي إلي إحتمالات الشك، أو الطعن بوجود نظرية محددة للتأويل. وإذا كان القرآن حمّال أوجه فإن هذا الأمر يستدعي بالضرورة تعدد التأويلات بتعدد المؤولين الأمر الذي يضعنا في نهاية المطاف بمواجهة إشكال شديد الحساسية يتعارض مع النظرية القائلة بإن القرآن الكريم مخلوق، أو أزلي، أو مسطور في اللوح المحفوظ مما يفضي إلي وجوب تطابق التأويلات مع المعاني القارة، الثابتة في هذا الكتاب المُنزّل.
وقد تضمنت محاضرة أبو زيد عدداً كبيراً من المحاور الهامة التي لا يمكن تفاديها، أو إهمالها، أو غض الطرف عن البعض منها، آخذين بنظر الإعتبار أن بعض هذه الطروحات جاءت بصيغة الأسئلة المنطقية المفتوحة المؤُرقة التي تنتظر من الباحثين، والمفكرين، والمنظرِّين أجوبة قاطعة أو مُطَمْئِنة تشفي الغليل. ولأن د. نصر أبو زيد يُدرِك الفرق الشاسع بين كلمتي التفسير و التأويل وما يكتنفهما من تشويش، والتباس، وسوء فهم لابد من تداركه، وتصحيحه، ثم ترويجه بعد إعادة تداوله وفق محمولاته المعنوية الدقيقة التي لا تحتمل الشك، أو القصـــور، أو عدم الأهلية.
الجمع بين المعتزلة والصوفية
طارق النعمان: كيف يجمع أبو زيد بين النقيضين فهو إبن المعتزلة وإبن المتصوفة في آن معاً. أي أنه يشتمل علي سعة العقل وسعة الروح. هل نحن بحاجة فعلاً إلي نظرية تأويل؟ أم نحن بحاجة لمزيد من فوضي التأويل؟
هذا السؤال يتمحور حول أمر حاسم وهو: هل نحن بحاجة إلي نظرية أم مزيد من الفوضي؟ يبدو أن كلمة نظرية تعني بناءً محكماً يكتشف الحقيقة بطريقة نهائية، وهذا ضد مفهوم التأويل. نظرية التأويل بالمعني المعاصر هي نظرية تحاول أن تبرز هذه العلاقات المركبة والمعقدة بين النص من حيث تاريخيته وبنيته وبين القراءات من حيث إنعدام البراءة في القراءات، وتفتح المجال لأنه ليست هناك قراءة صحيحة. يعني فقط هي تنظم الفوضي، لأن الفوضي بدون تنظيم تؤدي إلي ما نراه الآن من قتل بإسم الإسلام، ومن إضطهاد إلخ، لكن الفوضي المنظمة وهي الديمقراطية، لأن الديمقراطية هي فوضي، ولكنها تنظم هذه الفوضي، وكما نعلم نشأت من الحروب، سواء الحروب الداخلية أو الخارجية، وإدراك الشعوب أنها يمكن أن تفني بعضها البعض. مثل الأشهر الحرم التي هي من إختراع العرب لكي يوقفوا القتل من أجل التجارة. نحن نحتاج إلي أن نخلق نظرية تشبه الأشهر الحرم، ولكن ليس لمدة محددة. فالنظرية هنا ليست نظرية لكي نقول إن هذه هي الطريقة الوحيدة والمثلي لكي نصل إلي المعني، لأنه إذا صيغت هذه النظرية فهي نوع من دوغما جديدة. ونظرية التأويل بطبيعتها هي ضد الدوغما، بما أنها تدخل عناصر متعددة منها عنصر، الوعي، العقل، الإنسان، الموقع، ومثلما يقول أصحاب التأويل ليست هناك قراءات بريئة، وليست هناك قراءات نهائية. كيف ننظم هذه الفوضي؟ أنا لا أزغم أنني سأستطيع أن أصوغ نظرية. أنا أتكلم لأن صياغة نظرية يستلزم جهد باحثين ومؤسسات تخرج عن وسع أي باحث فرد أو مجموعة باحثين، لأن النص القرآني لم يخدش. كل التفاسير التي ذكرت صحيحة، لكنها كلها من تفسير الطبري حتي تفسير السيد محمد حسين الذهبي تعاملت مع النص بنفس المنطق. أي من خلال تناول النص في بنيته الحالية من سورة الفاتحة حتي سورة النفس. وهذا يتضمن مشاكل عديدة، مشاكل وقع فيها الطبري، ووقع فيها غيره. أي أنه حين يكون في سورة البقرة فسيفسر المفرد أو العبارة بمعني معين، ويعمم هذا المعني علي القرآن كله مع أن في السور التي هي في نهايات المصحف قد يكون المعني فيها مخالفاً له في بداية المصحف، لأنه لا ينتمي إلي منطقة زمنية واحدة. إذاً، تعدد التفاسير وارد. النظرية لا تسعي إلي إقامة دوغما ولا إغلاق النص، بل إلي فتح النص إلي أكثر من ذلك.
علي شايع: سؤالي ينصب حول النظرية التأويلية القادمة التي تحاول من خلالها أن تستولد مناطق حيوية جديدة، في متناقضات المعتزلة من جانب والمتصوفة من جانب. أؤكد علي المتصوفة هنا لأن الفردانية شيء يختلف عن منهجية المعتزلة. حول مراحل نمو التفسير لو أردنا أن نقارن هذه الفترة وفترة المعتزلة وسقوط بغداد مع ما يحدث الآن ما هي التداعيات. هم لم يكونوا في الظل، لكن نظريتهم ولدت في الظل. هل النظرية القادمة تحتاج إلي هذا الظل، وتحتاج إلي المواجهة؟
قصة المعتزلة
المعتزلة قصة ثانية، عندما قرر المأمون أن يفرض رأي المعتزلة في خلق القرآن علي الناس وعلي الفقهاء، علي الباحث أن يسأل سؤالاً. لماذا قضية خلق القرآن هي التي كانت تعجب المأمون. لماذا؟ ولماذا كان يريد أن يقهر الحنابلة؟ ويجب أن ينظر لهذه القضية في إطار أوسع من مجرد الخلاف الفقهي. كانت الدولة العباسية في أوج قوتها وأرادت أن تستولي علي المؤسسات بما فيها مؤسسة الفكر. في عصر المأمون تحولت الحسبة أو المحتسب الذي كان عملاً تطوعياً تحول إلي وظيفة حكومية. أرادت الدولة أن تأخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيدها، وأرادت أن تأخذ الفكر الديني بيدها، وقاوم الحنابلة هذا الأمر. وهنا موقف الحنابلة من حيث المقاومة موقف نبيل لأن التحليل لإبن حنبل كان يقول لا ليس أنت الذي يقول ان القرآن مخلوق أو غير مخلوق، ليست الدولة التي تقول هذا. موقف الحنابلة موقف نبيل. وهنا لابد للباحث أن يقرأ التاريخ. الحنابلة الذين تعرضوا للإضطهاد والسجن. نفس الأسماء كانوا هم الحنابلة في بغداد حين كان المأمون في مرو مع أخيه، وتركت بغداد لنهب العسكر، وتصدي الحنابلة، وعملوا ميليشيات لحماية بغداد من العسكر. فالمأمون كان ينتقم للعسكر الذين وقف ضدهم الحنابلة. موقف أحمد إبن حنبل هو موقف نبيل لأنه لم يكن يقول إن القرآن مخلوق وقديم، كان يقول إن القرآن كلام الله وكفي. فكيف يعذب لأنه يقول كلام الله وكفي. هنا قضية سياسية، السلطة أرادت الإستيلاء علي الفكر. هذا كان خطأ المعتزلة الذين إندرجوا في السلطة، وكان أمر طبيعي أن يسقط هذا بعد في وقت المتوكل. فلابد أن ننظر إلي التاريخ نظرة نقدية. طبعاً له علاقة بسقوط بغداد حين يتحول الدين إلي أداة إثارة وقمع. كيف يدافع الناس عن بغداد وهم مقهورون؟ سقوط بغداد القديمة أو سقوط بغداد الحديث للأسف الشديد أنا لم أذهب إلي العراق أبداً. أنا عرفت العراق في المنفي من العراقيين. عرفت كل شيء عن بغداد من أصدقائي العراقيين. دعيت إلي المربد لكنني لم أذهب. وبغداد بالنسبة لي مدينة عربية، ليست بغداد المأمون، لم يحصل لي هوس بغداد الرشيد والمأمون. إنها عاصمة عربية مثل القاهرة أو أية عاصمة عربية أخري. لكن عندما شاهدت بغداد وهي تسقط لا أدري لماذا إفتكرت بغداد؟ قلت، لنفسي ماذا جري لك يا بني؟ لماذا بغداد؟ ليس بغداد وحسب، لكن المدن العربية. أهم من المدن العربية هو الإنسان. أنا حينما رأيت في حرب الخليج الثانية الجندي العراقي يقبل حذاء صدام قلت هذا الجندي سيقبل حذاء العسكري الأمريكي، وهذا ما حصل في الحرب الأخيرة.
إذا قبلت حذاء الطاغية فستكون عبداً لأي طاغية، سواء أكان هذا الطاغية عربياً أو مسلماً أو أجنبياً. وطبعاً نحن كلنا لأسباب مختلفة شوفينية عروبية يجب أن ننقد تاريخنا الحديث. هذا التاريخ يمتد حين ننظر إلي معركة الخليج الأولي بإعتبارها القادسية، أو معركة البوابة الشرقية، وفي وقتها أنا كنت في أمريكا. وكنت أستغرب، يعني لم أشترِ مثل هذا الكلام الفرس والعرب. وللأسف ما تزال هذه المسائل موجودة فرس وعرب، يعني إثارة النعرات القومية. والذي أخشي منه هو إنتصار النعرات الإقليمية مرة أخري، والخطر الذي نخشي منه هو عزلة المثقفين العراقيين عن المثقفين العرب بسب إتهامات وإدانات لأن السياسة كانت تفرقنا دائماً بينما الثقافة تجمعنا. فإذا إستطاع عدونا أن يفرقنا ثقافياً فإن علينا أن ننتظر طويلاً، لا نظرية تأويل، ولا أي شيء آخر، لأن نظرية التأويل هي جزء من هذا السياق كله. أنا أتمني أن يمد الله في عمري، لكي أكتب تفسيراً للقرآن، لكن نحن نعمل وهناك صعوبات شاقة، يعني ما يمكن أن يقال في محاضرة أتعجب هل يمكن أن يكتب في كتاب؟ هناك مشكلات حتي في اللغة العربية، لكن نظرية التأويل ليست من أجل خلق دوغما جديدة، وإنما من أجل تنظيم الفوضي، وتبليغ رسالة. ان كل التأويلات مفتوحة، وأن الإختيار للبشر، لسلطة هذا المؤول أو لسلطة هذه المؤسسة أو تلك.
باحث بثلاثة مليم
الأمريكان يريدون أن يرجّعوا سلطة المؤسسة الدينية من جديد. إلغاء قانون الأحوال الشخصية الذي كان يعطي المرأة العراقية حقوقها، لكن هم يريدون أن يرجعوا أمرها من جديد إلي العلماء.
أنا أعرف الباحث الأمريكي الذي عمل الخدعة العجيبة ، وهو باحث بثلاثة مليم، صاحب دكتوراه في الفقه، وعندما يقوم بهذا الأمر فأنه يدغدغ حواس المسلمين. وللأسف الشديد أنه لم يقف ضد هذا القرار غير المرأة، ليس هناك مثقف أو فضائية عربية إهتمت بهذا القرار، أو كرست له برنامجاً واحداً. أن تغيير هذا القانون سيفسد علي المرأة كثيراً من الحقوق، وهو قانون كان قد صدر قبل مجيء صدام حسين، وكان يعطيها هذا الحق. أين الفضائيات العربية؟ آلأن هذه قضية أحوال شخصية، وبالتالي فهي ليست قضية إعلامية، هذا شيء مؤسف في ثقافتنا، لكن هذا هو الوعد الأمريكي بالديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، المرأة العراقية تتعرض للحرمان من حقوقها الآن، وتتعرض للإنتهاك. هذه أسئلة مهمة جداً جداً، وبدون هذه الأسئلة يبدو وكأن الإنسان يفكر صامتاً، لكن حين تخرج الأفكار إلي العلن تتحاور مع أفكار أخري، تحقق بعض أهدافها وغاياتها، وتبدو أكثر دقه ومصداقية وإكتمالاً.
نظرية التأويل مثالية
عمر رياض: إن نظرية التأويل للدكتور نصر هي مجرد نظرية مثالية، ولكن الفكرة قد تبدأ مثالية، وقد تأتي بالأمر الواقع عملية تطبيقية. ان نظرية التأويل قد تكون عنصراً أو عاملاً لحل مشاكل فكرية ثقافية إقتصادية وهذا قد ينطبق إلي حد ما في أوروبا. هل يمكن لواقعنا العربي أن يستفيد من التجربة الأوروبية التي قد بدأت بهذا الشكل تنظيرا لكن مازلنا إلي عصر. المسألة أعقد من وضع نظريات وقوانين ومعايير؟
أية نظرية تبقي مثالية حتي تنزل إلي أرض الواقع، لكن كنت أتكلم هل يمكن في تاريخ الفكر الإنساني كما حدث في تاريخ الفكر الأوروبي إيجاد نظرية للتأويل، نظرية قائمة علي أسس ديمقراطية، وحرية. ومن هنا تبقي نظرية وصفية أكثر منها معيارية. أنا لم أتحدث عن نظرية معايير، وإنما نظرية تصف، أي إزاء نظرية لمعرفة ما يحدث. طبعاً لست أنا الذي يقوم بهذه النظرية، وإنما تحتاج إلي مؤسسات. هناك نظريات للتأويل، المعتزلة عندهم نظريات للتأويل، إبن رشد عنده نظرية للتأويل، الشيعة عندهم نظرية للتأويل، لكن هذه النظريات جميعاً حتي سيد قطب، محمد حسين الذهبي، هذه النظريات تعتمد علي مفهوم كلاسيكي للعالم والمعرفة، والعقل، مفهوم تخطته المعرفة البشرية، وبالتالي تحتاج هنا إلي أي مصادر للمعرفة، ليس بالضرورة النقد العالي للكتاب المقدس، لأن الكتاب المقدس يختلف جوهرياً عن تاريخ القرآن. كيف نستفيد من كل إمكانيات المعرفة وبذلك نستعيد نهضتنا مرة أخري. النهضة التي قامت علي أساس أن المفكرين العرب، سواء باحثي اللغة أو البلاغة أو المفسرين كانوا متأثرين بالفلسفة اليونانية بأرسطو، بالفلسفة الهندية، وبالفارسية، أي كانوا منفتحين علي العالم، ولم يحسوا إن إنفتاحهم علي العالم يضر بالقرآن. نحن نتحدث الآن ان هذه نظريات غربية وأنه القرآن لا يصح، يعني تقسيم النظريات إلي غربية وشرقية، وإستعادة توظيف المعرفة، ودعوة للمعرفة أكثر مما وضع معايير تصل إلي المعني يكون هو المعني النهائي. في هذا الإنفتاح يجب أن يوظف فيه ليس تاريخ الثقافة وحسب، وإنما أنثروبولوجية اللغة، اللغة كظاهرة إنسانية، سوسيولوجيا المعرفة إلي جانب ما يسمي علم آليات النص، علم الدلالة السيمانتك، إلخ هنا نحن نتحدث عن العلوم الإنسانية كيف تتظافر، ونتحدث عن مؤسسات علمية، وليس عن بحث واحد. أنا أتصور أن دراسة علمية ناجزة لسورة البقرة تحتاج إلي مؤسسة. نحن نتكلم عن أسباب النزول. ماذا عندنا من أسباب النزول؟ عندنا مرويات متضاربة، وعندنا مرويات لا تغطي القرآن كله. كيف نستطيع أن نستل هذه المادة من أضابير التاريخ؟ لا شك أننا نحتاج إلي باحثين. هل يمكن ترتيب القرآن ترتيباً تاريخياَ ليس فقط السور وإنما الآيات؟ هذا السؤال لم يتطرق إليه أحد. ما هي العلاقة بين الترتيب التاريخي للقرآن وترتيبه الحالي؟ ما يسمي ترتيب التلاوة، وترتيب النزول. ولماذا تم هذا الترتيب علي هذا الأساس، علي أي قانون؟ ماذا كان في عقل المسلمين الأوائل، وفي عقل النبي حين تمت إعادة ترتيبه علي هذا الشكل؟ وماذا أنتجت إعادة الترتيب هذه من تعقيد المعني؟ كل هذه الأسئلة مسكوت عنها، مهجورة، وأية محاولة لنظرية التأويل عليها أن تتعامل مع هذه الأسئلة. وهنا نحتاج إلي اللغويين، ونحتاج إلي علماء الإجتماع والمؤرخين والفلاسفة إلخ. نحتاج إلي مؤسسات. هنا أنا لا أطرح مشروعاً علي أساس أنا الذي سأقوم به. هناك فروق جوهرية بين السنة والشيعة، ربما أشرت إلي بعضها في تاريخ الفكر الإسلامي الفتوي ليست ملزمة، الفتوي شيء غير الحكم، هذا المبدأ ما يزال مطبقاً في إطار الحياة الشيعية. أنك عندك مرجعيات، المرجعية غير مقلد لكن يمكن أن تقلد هذه المرجعية في هذا الأمر، وتقلد مرجعية أخري في أمر آخر، وهذا يعطي مساحة. الحوزة ما تزال حية كمؤسسة، وأنها قادرة علي التطور كمؤسسة بعكس مؤسسة الأزهر مثلاً التي هي غير قادرة علي التطور بناءً علي هذه البنية التعددية. وما إلي ذلك مما أشرت إليه لم يحدث في تاريخ الحوزة إن غابت الفتاوي، لا بمعناها الكلاسيكي ولا بمعناها الحديث. معرفة اللغات. كم من علماء الدين عندنا يعرفون اللغات؟ وإن كانوا يعرفون بعض اللغات كم يقرأون بها، وفي أي مجال من المجالات يقرأون؟ هذا جزء من تشويه الفكر كأن يقال انه متأثر بالفكر الغربي مع أن هذا يجب أن يكون مصدر فخر، وليس مصدر تشويه. الإنفتاح علي معرفة العالم كما وصل إليه هو نفس الإنفتاح الذي نجده عند عبد القاهر الجرجاني مثلاً وإن لم يصل إلي صياغة نظرية في الإعجاز تقوم علي البنية اللغوية التي سماها النص. الإنفتاح هذا هام جداً.
انا مدين لأساتذتي
داوود: هل إعتمدتَ في تأويلك للنص علي أحد؟ هل كنت مقلداً لأحد من المفسرين؟
أنا لست مقلداً، ولكني لا أستطيع أن أحصي لك عدد الذين أثروا فيَّ، ليس فقط من أساتذتي وإنما من تلامذتي. يعني أنا مدين لأساتذتي والأسماء كثيرة، وأقصد بأساتذتي ليس الذين درسوني، وإنما الذين قرأت لهم، ولم أرهم، وهم كثيرون، وتلامذتي أثروا فيَّ كثيراً ولا أستطيع أن أنكر تأثيرهم. التدريس متعته ولذته أنه عملية إعطاء وأخذ، وليس عملية إعطاء فقط، والأستاذ الذي لا يعرف كيف يأخذ من تلامذته تأكد أنه أستاذ مسكين. العمل بالنسبة له شقاء. أنتم الآن تطرحون عليَّ أسئلة بعضها مكتوبة والبعض الآخر يؤرق منامي، لأنها أسئلة جادة، وهذا ما نحن نحتاجه في المناخ العام. العلاقة مع النص الديني علاقة ثانية. يعني أنا أتعامل مع القرآن كإنسان بسيط. فأنا لا أحلل كلما أمسك المصحف. أنا أقرأ القرآن تعبداً أيضاً، وأستمتع به. العلاقة التعبدية لها تأويلها الخاص. العلاقة الشخصية بالنص، هي علاقة إنسانية أيضاً، وليس من الضروري أن يعرف أي إنسان نظرية اللغة أو التأويل حتي يتعبد. لكن حين نتحدث في التأويل نتحدث عن إمكانية ردم الفجوة بين الخاصة والعامة في المعرفة. فالتلفزيونات تقوم بدورها المعرفي الذي قامت به الصحافة في عصر النهضة. من قرأ كانت وديكارت؟ ليس اوروبا كلها قرأته. لأنه ليس كل اوروبي قرأ كانت وديكارت، هذا أمر أكيد، لكن كل أوربي عرف واحداً إسمه كانت وديكارت عن طريق أحد الكتاب أو الصحافيين الذين كتبوا عنه مقالة في الصحيفة. لكن من يكتب مقالة عن طه حسين الآن؟ لا أحد هل سمعت إسم طه حسين في الفضائيات العربية مؤخراً؟ هل سمعت بواحد إسمه أمين الخولي؟ أبداً.
هناك فجوة بين الخاصة والعامة مسؤول عن ردمها المؤسسات التي تسمي مؤسسات التثقيف. وأين نحن من مؤسسات التثقيف التي تنزل المعرفة من مستواها الفلسفي العالي إلي مستوي العامة. الذين هدوا الدوغما في الكنيسة ليس الفلاسفة، وليست نظرية دارون، وليس دارون شخصياً. دارون شخصيا عمره لم يمس الكنيسة بكلمة. الذين نشروا أفكار دارون، وقالوا أنها ضد الكنيسة هم البوبيولست. عمر دارون لم يقل كلمة ضد الإنجيل، إذاً الوسائط التي تحول المعرفة إلي قوة حدس في وعي المواطنين بما يسمي البوبيولرايزيشن. نحن عندنا أجهزة الإعلام التي تقوم بهذه المهمة تقوم بعملية تعميم للمعرفة لأنها تفيد الحكومات أو تفيد أصحاب رؤوس الأموال.
أنا أول مرة ذهبت فيها إلي فرنسا وكنت مع زوجتي، وأنا لا أعرف اللغة الفرنسية شاهدت إعلاناً في المحطة. كل الذي فهمته من الإعلان هو عنوان كتاب النقد الخالص، فسألت زوجتي: ما هذا الإعلان عن الكتاب؟ هل إكتشفوا شيئاً جديداً في هذه الطبعة الجديدة؟ حينما قرأت زوجتي الإعلان تبين أن الإعلان عن لبن الأطفال. الإعلان يقول إذا شرب إبنك هذا اللبن فإنه سيعرف كيف يقرأ هذا الكتاب، ويهضمه. تصوروا لو نشرنا إعلاناً عن لبن ما، وقلنا هذا كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، وإذا شرب إبنك هذا اللبن فإنه سيفهم طه حسين لما إشتري هذا اللبن أحد. أنا وقفت لمدة ربع ساعة لم أتحرك أمام هذا الإعلان لأهميته البالغة في علاقته بكتاب فكري جاد. أما نحن فكل إعلاناتنا مقرونة بالرقص، وغالبا ما نُظهر فتيات جميلات يرقصن، يرجفن أوساطهن للترغيب بأحد المنتجات الصناعية، أو التجارية لأن هذا هو الشيء الوحيد المفهوم شعبياً، والرائج بقوة.
أحمد الكاظمي: يحاول المؤولة إسقاط أفكارهم علي الآخرين ولا يعترفون بالتأويل. أن الشيعة عندهم نظرية للتأويل. تعريف التفسير وهو بيان معاني الكلمات، وتعريف التأويل هو بيان المراد من النص. إذا المؤول لا يعترف بالتأويل فهذه مشكليته والتأويل مصلحة عامة، ونحن كلنا نعترف بالتأويل؟
الفرق بين التفسير والتأويل طرح في الفكر الديني بشكل عام، ويطرح علي أن التفسير هو شرح الألفاظ، وأن التأويل هو الوصول إلي معني النص، أو هو إستنباط المعني من علاقة الألفاظ بالبنية النحوية، لكن المشكلة أن مصطلح التأويل إكتسب دلالة سيئة ليس عند الشيعة أبداً لأنه يظل من المفاهيم الهامة في الفكر الشيعي إكتسب دلالة سيئة عند السنة بسبب صراع الدولة العباسية مع الدولة الشيعية. وحينما إنقلبت الدولة العباسية علي المعتزلة وأصبحت كلمة تأويل كلمة سيئة السمعة لأنها تنسب إلي الشيعة هم الموؤلة دون الباطنية وأنتم تعرفون كتاب الغزالي فضائح الباطنية ويرد لدي الشعية مصطلح التأويل، وهو أقدم من التفسير لأنه عندما نرجع إلي القرآن نري ضمن تداول المفردات أن كلمة تأويل وردت 17 مرة بينما وردت كلمة تفسير مرة واحدة. وهذا يعني أن كلمة تأويل أكثر تداولاً من كلمة تفسير في القرن السابع. وتفسير الطبري ليس إسمه تفسير وإنما إسمه جامع البيان عن تأويل آي القرآن ويقول تأويل قوله تعالي بسم الله الرحمن الرحيم فعندما نشر الكتاب في إحدي مؤسسات الريان رفعوا كلمة تأويل من العنوان، وكتبوا إسم تفسير الطبري، ولو تفتح الصفحة الداخلية تقرأ تفسير الإمام الطبري لأنهم لم يستطيعوا أن يرفعوا تأويل قوله تعالي بما يعني حتي بداية القرن الرابع لأن الطبري توفي سنة .310 حتي بداية القرن الرابع لم يكن مصطلح التأويل ذا سمعة سيئة، ونحن نعرف أن القرن الرابع شهد إشتداد الصراع بين دولة الشيعة ودولة سنية، وحصلت إغتيالات في بغداد، ونظام الملك تم إغتياله وشيخه تم إغتياله، ونظام الملك هذا أصدق أصدقاء الغزالي وبالتالي كتب الغزالي رسالته فضائح الباطنية. أنا أحاول أن أكشف أن كل المفسرين سواء سيد قطب أو غيره هم منغمسون في التأويل، لكنهم لا يعترفون من جهة أزمة معرفية أن الباحث يجب أن يقول: أنا باحث وأحاول أن أشتغل، وأصل للمعني لكن هذا المعني هو غير نهائي، وأن قولي صحيح يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ، نحن نكررها كثيراً لكن لا نؤمن بها. أنا قولي هو الصحيح وإذا لم تصدقني فسوف يحصل لك ما لا تحمد عقباه.