|
في الأزمة المالية الأمريكية
محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)
الحوار المتمدن-العدد: 2417 - 2008 / 9 / 27 - 08:11
المحور:
الادارة و الاقتصاد
الأزمة الاقتصادية الرأسمالية تختلف اختلافاً بيناً عن الأزمات في العهود السابقة لها، حيث كانت الأزمات ترجع للعوامل الطبيعية كالجفاف والفيضانات، وإلي الحروب. ولكن بجانب تعرضه لأزمات مماثلة للأنظمة السابقة، فإن الإنتاج الرأسمالي يقود إلي أزمات لم تعرفها البشرية من قبل تنبع من طبيعته نفسه، ونتيجة لتناقضات الرأسمالية فهي لا تنمو نمواً سلساً، بل يجئ تطورها في شكل دورات من الركود والازدهار. والسبب في الأزمة الرأسمالية الاقتصادية الكلاسيكية هو السعي الغير محدود للمؤسسات الرأسمالية في إنتاج السلع التبادلية بغرض تحقيق الربح. فالاستهلاك في الرأسمالية ينمو في أثر الإنتاج وهذا بحكم وسائل الإنتاج المستخدمة التي لا يمكن أن يتدني مستوى تشغيلها تحت حد أدنى معلوم وإلا كانت الخسارة المحتومة. ونتيجة لسير الاستهلاك خلف الإنتاج تحدث شقة بين البيع والشراء؛ ويكون هذا عندما يتم شراء السلع التي يحتاجها أصحاب المصانع في عملية التصنيع ولا يدفعون قيمتها فوراً، بل على أساس التسليف. فالتناقض بين البيع والشراء يحدث عندما تفشل المؤسسات الرأسمالية الإيفاء بالتزاماتها المالية نتيجة لعدم تمكنها من تصريف منتجاتها. ولكن النقص في الطلب هو السبب الظاهري للأزمة ولا يقدم التفسير الكامل لها. ولأن التنافر بين البيع والشراء غير طبيعي إذ أن هذان المفهومان ينتميان لبعضها البعض، فلا يمكن القضاء عليه إلا بهزة عنيفة. وهكذا تحدث الأزمات في عصر الرأسمالية. والأزمة الاقتصادية الرأسمالية هي التي تحقق الوحدة بين البيع والشراء. فلتحقيق التوافق بين البيع والشراء يبدأ المقرضون في استدعاء الديون والعمل بصيغ الدفع نقداً؛ وتبدأ الرأسمالية في إعلان افلاساتها وتصفية وحداتها الإنتاجية أو هيكلتها وما يترتب على هذا من التسريح الإجباري للعمالة ومن تخفيض الأجور. وهكذا تستمر الدورة حتى تستطيع المؤسسات من ترتيب أوضاعها وتجديد وحداتها وتعود شيئا فشيئا الى التوسع في الإنتاج حتى تحل مرحلة أخرى من الانتعاش الاقتصادي. من السابق يتضح ان الأزمات الاقتصادية ضرورية لإستمرار النظام الرأسمالي، بمعنى أن الأزمة هي الإستحقاق الذي يدفعه نظام الإنتاج الرأسمالي الذي بحكم طبيعته، لا يفتأ في أن يباعد بين الشراء والبيع. كما أن الأزمة الإقتصادية الرأسمالية تتعلق في جوهرها بنظام التسليف الذي يؤدي الى تراكم رؤوس الأموال التي لا يوجد مقابلها إنتاج حقيقي من السلع والخدمات. الأزمة التي تمر بها أمريكا حاليا ليست استثنائية إذ أن ما جرى ويجري هناك يماثل كثير من الأزمات السابقة التي طالما شهدها التاريخ العالمي للرأسمالية والمتعلقة بالوفاء بالديون من قبل مقترضين لدائنين. فالأزمة المالية الأمريكية تتمحور حول فشل مقترضي الرهن العقاري في مقابلة التزاماتهم المالية تجاه مؤسسات التمويل الأمريكية التي لم تجد أمامها من سبيل غير شطب مئات البلايين من الدورات كديون هالكة في مجال القروض العقارية. ولكن تختلف الأزمة الحالية عن سابقاتها التاريخية في الابتكارات المالية، المبتدعة من قبل مؤسسات التمويل الأمريكية، التي نقلت الأزمة لعدة بلدان في العالم؛ وكذلك توسيع حجم المديونية الرديئة في الإقتصاد من خلال فتح الرهن العقاري الباب أمام المقترضين أصحاب المنازل المرهونة للاقتراض من جديد بضمان رأس مال المساهمة في المنازل وذلك لتمويل أقساط التعليم، ودفع الفواتير الطبية، الخ. ان ما حدث في أمريكا خلال السنوات الأخيرة هو محاولة البحث عن بديل يحقق ربحية عالية بعد أن تدنت ربحية القطاع الصناعي لمستويات ضعيفة أملتها ظروف موضوعية تتمثل في تحمل هذا القطاع لتكلفة عالية فرضها إدخال الماكينات والمعدات المتطورة، ونظم الإنتاج والتكنلوجيا الحديثة. وجدت مؤسسات التمويل ضالتها في شرائح واسعة من الشعب الأمريكي (الأقليات، أصحاب الدخول المنخفضة، كبار السن، الخ) يمكن أن تكون هدفاَ لفرص إستثمارية تحقق أرباحاَ طائلة من خلال منحها قروض الرهن العقاري بشروط مجحفة نسبياَ أهمها أسعار الفائدة العالية نسبياَ. فالفئات المستهدفة بمشروع القروض العقارية هي في أمس الحاجة لحيازة السكن وفي كثير من الأحيان لاتتمتع بالإلمام الكافي بطبيعة قروض الرهن العقاري ونتائجها على المدى المتوسط والبعيد. وفي إندفاع محموم قدمت البنوك قروض الرهن العقاري لمئات الآلاف من الأسر الأمريكية. وفي منتصف 2007 أعلن كثير من المصارف وشركات تأمين القروض عن خسائر بقيمة 150 بليون دولار بسبب الرهونات العقارية التي فشل أصحاب المنازل الإيفاء بالتزاماتهم المالية؛ وفاقم الوضع إرتفاع سعر الفائدة على القروض التي يقدمها نظام الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) إلى البنوك التجارية من 1% إلى 5.25%، الذي أدى بدوره إلى ارتفاع كبير في سعر الفائدة على القروض العقارية مما جعل المقترضون يعلنون عن عجزهم التام لدفع الفوائد الباهظة. وحينها قدرت قيمة مخاطر ديون الرهن العقاري (الأصول التي لا رجاء في استردادها) بحوالي 300 بليون دولار نتيجة لفشل المقترضين سداد التزاماتهم المالية مما وضع الاقتصاد الأمريكي والعالمي في خطر حقيقي. مع تفاقم ألازمة تدخلت الحكومة الأمريكية في سبتمبر 2008 بأكبر عملية إنقاذ (bailout) حكومي في تاريخ الاقتصاد العالمي وذلك بتأميم شركتي الإقراض العقاري الرئيستين في البلاد فريدي ماك وفاني ماى وتخصيص 200 مليار دولار، من أموال دافعي الضرائب، لشراء الأصول الرديئة لدى الشركتين المعنيتين. بعد السيطرة على شركتي ماك وماى، اتجه كل تركيز الحكومة على الشركة العملاقة - المجموعة الأمريكية العالمية (AIG) لحمايتها من الانهيار، وهذا ما يفسر عدم التدخل الحكومي لإنقاذ بنك ليمان برذرز (رابع اكبر بنك استثماري في أمريكا) من الإفلاس والسقوط الذي حدث مباشرة بعد إنقاذ شركتي الإقراض العقاري. فشركة المجموعة الأمريكية العالمية واحدة من كبريات الشركات العالمية في مجال ضمان الديون وهي تحمل قيم ورقية تقدر بترليون دولار تشمل سندات مدعومة بأموال الرهونات العقارية، وانهيارها يعني تحميل خسائر للبنوك في شتى أنحاء العالم تبلغ مئات البلايين من الدولارات في شكل أوراق نقدية. ولهذا قدمت الحكومة الأمريكية للمجموعة الأمريكية العالمية قرضاَ يقدر ب85 مليار دولار بضمان 80% من أصولها. لم يقتصر أثر الأزمة المالية على البنوك الأمريكية وحدها، بل امتد للكثير من البنوك العالمية وخاصة الأوربية نتيجة للجوء البنوك الأمريكية، قبل نشوب أزمة العقارات، إلي تمويل ديون العقارات المرهونة لديها عن طريق ما يسمى بالتوريق أو التسنيد (Securitization). والتوريق يرمي لخلق السيولة النقدية عن طريق تحويل الديون المرهونة لدى تلك البنوك إلي سندات أو أوراق مالية أخرى قابلة للتداول عن طريق طرف ثالث (شركة التوريق) التي تقوم بإصدار السندات وبيعها، أي تحويل موجودات غير سائلة إلي أوراق مالية. فالعملية تمثل نقل الديون إلي شركة تنشأ لهذا الغرض بحيث يتخلص البنك من الديون ويحصل على السيولة التي يحتاجها لتقديم ائتمانات جديدة. وهكذا بعد تفاقم أزمة الرهن العقاري والتناقص الشديد في قيمة الأصول المرهونة وجدت البنوك الأوربية والآسيوية نفسها مثقلة بالديون الهالكة المرتبطة بسندات الرهونات العقارية، وبالتالي التخلف عن الإيفاء بالدين المرتبط بالتوريق. أي أن البنوك وجدت نفسها تمتلك أوراق مالية مدعومة بموجودات (العقارات المرهونة) انخفضت قيمتها لأبعد الحدود. ولهذا قامت البنوك المركزية أو ما يعادلها في بريطانيا وألمانيا واليابان واستراليا بضخ مئات البلايين من الدولارات في الأسواق لإزالة الانكماش في عمليات الإقراض بهدف إنقاذ مؤسسات التمويل من الإفلاس والانهيار. الشيء الآخر الذي ساعد في تمدد أزمة الرهن العقاري لتشمل بيوت مالية أخرى في الاقتصاد الأمريكي هو ان القروض المضمونة بقيمة المنازل أصبحت تشكل مصدر دخل ضروري لغالبية العائلات الأمريكية للصرف على تعليم الأطفال ودفع فواتير العلاج وبعض الاحتياجات الأخرى الملحة التي لا تستطيع أجور ومرتبات العمال والطبقة الوسطي - الذين يشكلون غالبية الشعب الأمريكي - مقابلتها. ومع إنخفاض أسعار المنازل أصبح مصدر الدخل هذا ليس فقط غير متاح، بل عجز المقترضون من الإيفاء بالتزامات القروض الممنوحة أصلاً مما انعكس سلباً على البنوك والشركات المالية التي تتعامل بمثل هذا التمويل. أبانت الأزمة المالية الأمريكية أن الاقتصاد الأمريكي قد شهد نمواً متعاظماً لنشاط طفيلي تمظهر في فصل تحقيق الثروات عن العمل الإنتاجي الذي تكون حصيلته سلعاً أو قيماً حقيقية. وتقدر بعض الإحصاءات أن أكثر من 90% من حجم العمليات والصفقات المالية في العالم لا تتعلق بأي تبادل لسلع أو خدمات. وإذا كانت الأزمة الحالية هي من أكبر الهزات التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي والتي قد تمتد آثارها لبعض الوقت، إلا أنه كما في السابق فإن تحقيق الاستقرار لهذا الاقتصاد وارد. وهو ما يجري الآن. فهنري باولسون وزير الخزانة الأمريكي رفض في مؤتمره الصحفي الذي عقده عقب التدخل الحكومي لإنقاذ البنوك الأمريكية، إن يتطرق لأسباب الأزمة وفضل الحديث عن المستقبل الذي يمثل عنده عملية هيكلة ودعم القطاع المالي الأمريكي. فتوفيق أوضاع القطاع المصرفي الجارية حالياً هي نهاية دورة الأزمة المالية. بعد دفع استحقاقاتها المتمثلة في: أولاً، إفلاس الكثير من مؤسسات التمويل وفقدان مئات الآلاف من العاملين لوظائفهم، كما خسر الكثير من عملاء البنوك مدخراتهم. ثانياً، صرف مئات البلايين من المال العام لدافعي الضرائب في شراء أوراق مالية رديئة لا قيمة لها لإنقاذ كبريات مؤسسات التمويل مما يشكل خصما على الخدمات التي تقدمها الدولة للشعب. ثالثاً، فقدان مئات الآلاف من الأسر لمنازلها... الخ، وأخيراً. نختتم هذا المقال بذكر ثلاث نقاط: أولاً، الأزمة لازمة لتطور الإنتاج الرأسمالي، والانهيار المالي الأخير في أكبر اقتصاديات العالم يجعل جدوى ومشروعية الاقتصاد الحر والمفتوح تحت المساءلة كما لم يحدث من قبل. ثانياً، صارت مسألة كبح جماح الأزمة الرأسمالية ترافقها إجراءات قسرية لم يشهدها العالم من قبل، تتحملها شرائح العاملين في المجتمع الذين يُقذف بهم إلي المجهول ثالثاً، رغم أن الأزمات لها الفضل الأكبر في تعرية النظام الرأسمالي والمتاعب التي يجرها على العاملين، لكنها لا تطيح به إذ أن وضع حد لنهايته لا يمكن أن يتم إلا بالفعل الواعى من قبل اكثر الشرائح الاجتماعية تضررا من شروره؛ وموضوع مقالنا القادم سوف يكون حول هذه النقطة.
#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)
Mahmoud_Yassin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول إنهيار جولة الدوحة للتجارة العالمية
-
ثورة نيبال والوصول لقمة السارغاماتا
-
الإنتاج الصغير ورأس مال المساهمة: بالاشارة لوضع السودان
-
نظرية تطوير القوى المنتجة واسترداد الرأسمالية فى الصين
-
الطريقة المادية وعلا قات الارض فى السودان:تعليق على كتاب -أص
...
-
حول ملكية 2% من البشر لثروات العالم
-
القيمة وسقوط الاتحاد السوڤيتى
-
فى الذكرى الستين لتأسيسه: الحزب الشيوعى السودانى والعمل النظ
...
المزيد.....
-
زيادة جديدة.. سعر الذهب منتصف تعاملات اليوم الخميس
-
-الدوما- يقر ميزانية روسيا للعام 2025 .. تعرف على حجمها وتوج
...
-
إسرائيل تعلن عن زيادة غير مسبوقة في تصدير الغاز إلى مصر
-
عقارات بعشرات ملايين الدولارات يمتلكها نيمار لاعب الهلال الس
...
-
الذهب يواصل الصعود على وقع الحرب الروسية الأوكرانية.. والدول
...
-
نيويورك تايمز: ثمة شخص واحد يحتاجه ترامب في إدارته
-
بعد فوز ترامب.. الاهتمام بـ-التأشيرات الذهبية- بين المواطنين
...
-
الأخضر اتجنن.. سعر الدولار اليوم الخميس 11-11-2024 في البنوك
...
-
عملة -البيتكوين- تبلغ ذروة جديدة
-
الذهب يواصل رحلة الصعود وسط التوترات الجيوسياسية
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|