اذا اخذنا - جدلا- بوجهة نظر المؤرخين والاثاريين ، فان العرب ( الكلدو – اشوريين ) والاكراد والتركمان قد سكنوا بلاد الرافدين منذ اقدم العصور التاريخية واسسوا فيها الحضارة والامبراطوريات منذ اكثر من ستة الاف عام ... فان الاكراد قد وجدوا في شمال العراق وجنوب شرقي تركيا وشمال غرب ايران بكثافة ، منذ ذلك التاريخ ، وهو الامر الذي تنبه اليه الحلفاء في الحرب العالمية الاولى عند تقسيم تركة الدولة العثمانية – وفق اتفاقية سايكس بيكو – الى العديد من الدول ، ليس على اساس خصوصيات شعوب المنطقة وانما بمقتضى مصالح دول الحلفاء المنتصرة التي فكرت في اقامة دولة للاكراد – ايضا - وفق معاهدة ( سيفر ) التي لم تبرم نتيجة المساومات الدولية لرسم حدود الدول الحديثة في المنطقة .
في مثل هذه الظروف والمساومات الدولية وتكالب الدول الاستعمارية الاوروبية على استغلال ثروات منطقة الشرق الاوسط ، ولدت الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بتتويج الامير فيصل الاول ملكا على العراق ، لتكتمل ملامحها السياسية الممتدة من تكريت شمالا الى الفاو جنوبا ... بينما بقيت ( ولاية الموصل ) خارج نطاق هذه المنظومة السياسية المترجرجة ، نتيجة المفاوضات الجارية بين الحلفاء الذين احتلوا مركز الامبراطورية العثمانية ( اسطنبول ) وبين الجنرال مصطفى كمال باشا ، رئيس حكومة انقرة ، في بلاد الاناضول لطرد الغزاة الاجانب ، لتقرير مصيرها .
ورغبة من الحلفاء في ممارسة الضغط على مصطفى كمال باشا ، لاسيما بعد رفضه لمعاهدة سيفر ، للتوقيع على معاهدة لوزان ... اقام الانكليز – الذين احتلوا العراق – حكومة الشيخ محمود الحفيد في كردستان العراق ، لتكون دولة ملكية مستقلة الى جانب الدولة الملكية العراقية الجديدة . غير ان قيام الانكليز بتعيين المستشارين في الوزارات التسعة لحكومة الشيخ محمود الحفيد ، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة في شؤون ملك كردستان العراق الذي اصدر القوانين التنظيمية للبلاد و العديد من الصحف واقامة العلاقات الاقليمية والدولية لحكومته المستقلة ... ادى بعد ثمانية اشهر من تاريخ تشكيلها الى اندلاع القتال بين قوات الشيخ الحفيد وقوات الاحتلال الانكليزي التي وجدت بان لا مجال " لتعاون الاكراد مع قوات الاحتلال ، على حساب استقلالهم وحريتهم " فالقوا القبض على الشيخ الحفيد ونفوه الى خارج البلاد , ثم اعادوا حساباتهم من جديد – لاسيما بعد اكتشاف النفط في كركوك مركز ولاية الموصل واقليم شهرزور السابق – وقرروا الحاق ولاية الموصل – ذات الاكثرية الكردية – بالدولة العراقية " التي ابدى قادتها الجدد مرونة في التعاون مع المحتل الاجنبي ، في وقت رفض فيه الاكراد مثل هذا التعاون معهم " . ولقد جاء هذا الالحاق القسري بعد صراعات عنيفة على صعيد الحكومة العراقية وكذلك في اروقة ( عصبة الامم ) للبت في امر هذا الاقليم العراقي من جهة ، والمساومات الجارية بين الحلفاء المنتصرين وحكومة ( انقرة ) التي كان يرأسها مصطفى كمال انذاك ، من جهة اخرى ، دون مراعاة لخصوصية الاقليم واكثريته الكردية ، واخذها بنظر الاعتبار في تلك الصراعات الذاتية والمصلحية معا .
واذا كان تخلي الانكليز عن مساندة القضية الكردية ، اول خديعة لهم للاكراد يمارسها الغرب بحقهم وتخليا رسميا عن ( حق تقرير المصير ) الذي اعلنه رئيس الولايات المتحدة الاميركية ( 1916 ) وفلاديمير لينين رئيس الاتحاد السوفييتي ( 1917 ) فان الاكراد قد اخذوا المبادرة بانفسهم للمطالبة بحقوقهم القومية في تقرير مصيرهم من خلال مباحثات باريس وجنيف منذ عام 1926 . غير ان قيام ( الجمهورية التركية ) كدولة شرق اوسطية جديدة عام 1923 وابرام المعاهدة العراقية – البريطانية عام 1932 القى بكل طموحات الاكراد الى بحر الدردنيل ، فما كان منهم الا الالتفاف على السلاح لخوض غمار الكفاح المسلح للمطالبة بحقوقهم المهضومة عام 1937 بقيادة الزعيم الخالد مصطفى البرزاني .
ولا نود هنا ، الدخول في تفاصيل تلك المعارك البطولية ولا تخلى الانكليز مرة اخرى ، عام 1946 عن وعودهم بمساندة ( جمهورية مهاباد الاشتراكية ) كاول دولة كردية عصرية في كردستان ايران ولا عن حرب الابادة التي شنتها قوات الانقلاب البعثي الفاشي عام 1963 ضد الاكراد في كردستان العراق – بل وفي العراق كله – ولا عن بيان 11 اذار 1970 الذي اعترف بالحكم الذاتي – المفرّغ مضمونا - للاكراد ولا عن الابادة الجماعية لاكراد حلبجة عام 1988 التي مارستها الطغمة العسكرية – السياسية الفاشية لنظام الدكتاتور الساقط ( صدام حسين ) المتعطش للحروب ... وانما نريد التطرق الى مواقف اخوتنا العرب – لاسيما العراقيين منهم – من الاكراد ، الذين اكدوا مرارا في ادبياتهم السياسية " بان العرب والاكراد شركاء في الوطن العراقي " بل انهم صاغوا اسس تلك الشراكة في دساتيرهم الموقتة والمستدامة – عرفيا وقانونيا – وفي اغانيهم واناشيدهم الوطنية . اقول : اود ان اتحدث عن موقف اخوتنا العرب من القضية الكردية اليوم ، بعد ان تخلصوا من مطالبة تركيا بهذا الاقليم الغني بالبترول وسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين الذي اذاق العراقيين – وبالاخص الاكراد – انواع الذل والاستبداد والقتل والتشريد ، عندما بدأوا – أي العرب – بمعارضة الفيدرالية الكردية ، التي اتفقت فصائل المعارضة العراقية وبجميع اتجاهاتها، على الاقرار بها في اجتماعات لندن ، كما ساندتها واشنطن لدى اجتماعاتها المتعددة مع الزعيمين الكرديين جلال الطالباني ومسعود البرزاني , فماذا عدى مما بدى ؟!! .
لقد درس الانكليز ، منذ بداية القرن الماضي - عن طريق الاستشراق - ونتيجة استعمارهم للبلاد العربية لاكثر من نصف قرن ، العقلية العربية – الاسلامية ووجدوا انه يمكن قراءتها لمعرفة اساليب اختراقها عن طريق الاستشعار عن بعد ، دون التدخل المباشر في معطياتها ، وتوجيهها وفق متطلبات مرحلة احتلال العراق – مع القوات الاميركية والحليقة – لضرب القضية الكردية مجددا ، بعد ان لاح في الافق بشائر حلها حلا ديموقراطيا وانسانيا . وإلا ... بماذا يفسر القارئ الكريم ، اقتتال العرب والاكراد لمدة تزيد على النصف قرن , ولم يتم حل القضية الكردية - التي تعد أم المشاكل – رغم الاعتراف دستوريا بان العرب والاكراد شركاء في الوطن العراقي ؟ وماذا ستكون نتيجة حوار الطرشان ، لاسيما بعد ان القى ( بريمر ) الحاكم المدني الاميركي للعراق ، بكرة الفيدرالية في سلة الحكومة العراقية القادمة ؟ !!! .
اننا اليوم امام ولادة جديدة لعراق ديموقراطي في اطار دولة القانون والمؤسسات الدستورية التي تحترم حقوق الانسان واراء الآخر – مهما كانت منطلقاته – وصولا لارساء قواعد الحكم على اسس ثابتة لا تفضي – مرة اخرى - الى الدكتاتورية والاستبداد بالرأي او الوصاية الفكرية على الراي العام العراقي . فهل بامكان العراقيين – كل العراقيين – تجاوز الولادة المشوهة الاولى للقضية الكردية ، باجراء عملية سياسية – جراحية جديدة لمشاكل عراق المستقبل ؟ ! .
انني لا اجد بصيص نور في الافق حول هذا الموضوع ، لان القادة السياسيين الحاليين لعراق ما بعد صدام ، يراعون مصالح وخصوصيات دول الجوار اكثر من رعايتهم لخصوصية العراق والعراقيين ، ودون اخذ تجارب الشعوب الاخرى – بعد سقوط جدار برلين – بنظر الاعتبار في حل مشاكل الشرق الاوسط . فقد كان الاتحاد السوفييتي ، دولة عظمى ومنافسة للولايات المتحدة الاميركية بحيث استطاع حفظ التوازن الدولي لاكثر من سبعين عاما ، ولكن عندما وجد قادة الاتحاد السوفييتي – لاسيما في ايامه الاخيرة – بانه قد اصبح عالة على الشعب الروسي – بخاصة – وعلى شعوب الاتحاد السوفييتي ... قرروا التخلي عنه ، ليتحول الى الجمهوريات المستقلة التي يضمها اليوم اتحاد الدول المستقلة . كما كان الاتحاد اليوغسلافي وتشيكوسلوفاكيا ، دولتين مستقلتين وكبيرتين ومتقدمتين صناعيا واقتصاديا في العالم ، ولكنهما اعترفتا بحق الشعوب المنضوية تحت مظلتهما ، فكان ميلاد الدول الجديدة في البلقان ، كما كان الامر في الاتحاد السوفييتي السابق . بل ان الانكليز عندما رسموا خارطة البلاد العربية – بالمسطرة والفرجال – جعلوا من قضاء ( الكويت ) العراقي التابع لولاية البصر ( دولة ) عصرية ومن مدن المنامة والدوحة وابو ظبي والشارقة دولا– قبل توحيدها - وامارات مستقلة وذات كيانات سياسية مرموقة .
في حين اننا لسنا على استعداد اليوم ، لبناء وحدتنا الوطنية – باقامة الفيدرالية مع الاكراد – لحل مشاكلنا المزمنة وللتفرغ جميعا لمرحلة البناء القادمة ... لاننا نؤمن بالديماغوغية وبالكلمات الفضفاضة في جدل بيزنطي لا يسمن من جوع . ومن هنا ، فانني اشم رائحة نتنة في هذا الجو المشحون بالتوتر وبرغبة الاكثرية في التحكم بالاقليات – من جديد – ليس حماية لمصالحهم هم ، وانما بالاتفاق مع دول الجوار ، ومن خلال الحروب العبثية لمصلحة الاخرين – منذ تاسيس الدولة العراقية – بحيث غدى العراق الغني والقوي ، بلدا فقيرا ومريضا واميا وسادت الدعوة فيه للعراق العربي الصغير ، الذي يملك كافة خيوط اللعبة ، بدلا من عراق كبير يدخل التناقضات في اضعافها، لان ساستنا يحاولون تنفيذ رغبات ومصالح دول الجوار ودول العالم القوية . فهناك من يمثل ايران وتركيا وسوريا وامريكا وانكلترا وفرنسا وغيرها ، فماذا بقي للعراقيين لكي يدافعوا عنه او يقولوا شيئا حوله ؟
في حين يجب على العراقيين ، بعد ان تخلصوا من الطغمة الصدامية الدكتاتورية المتسلطة على رقابهم ، ان يتفقوا على برنامج وطني – ديموقراطي – فيدرالي لمصلحة كافة مكونات الشعب العراقي ، ضمانا لحقوقهم القومية واعترافا بحق تقرير المصير ، وهو الامر الذي لم يجرؤ العراقيون – حتى اليوم – في البت في امره . فهل ينتظر العراقيون ، ان يخلصنا الآخرون من وهم هذه الاخوة الزائفة والتسلط الفكري ، مثلما خلّصونا من صدام حسين واعوانه الطغاة ، اوبنوا لنا دولنا ورسموا لنا اطارها الجغرافي - السياسي ؟ !! . هل نحن مصابون بالعقم الفكري ، وبعدم المبادرة الذاتية لحل مشاكلنا ، بحيث كتبت علينا التبعية الى ابد الآبدين ؟ !! . انني اترك اجوبة هذه الاسئلة المتعددة والشائكة لحصافة القراء ولاراء النخبة السياسية – الفكرية المتنفذة في عراق اليوم .