منذ أن قامت الوزارة الجديدة في العراق ، راح بعض وزرائها ، أو المتحدثون باسم بعض وزاراتها يدلون بتصريح عقب تصريح ، وبلاغ تلو آخر عن خططهم المستقبلية، والتي لم يتحقق شيء ملموس منها للان ، فصار ينطبق عليهم قول الجاحظ : كرحى تطحن قرونا ، تسمع قعقعة ، ولا ترى طحينا !
وآخر ما جاء من هذه البلاغات ما نقلته صحف بغداد عن وزارة الأعمار والاسكان حيث صرح مصدر مطلع بأن الوزارة قامت بالتنسيق مع وزارة التجارة بوضع خطة عاجلة من أجل القضاء على أزمة السكن التي يعاني منها العراقيون منذ فترة طويلة ، وذلك من خلال استيراد البيوت الخشبية الجاهزة ( الكرفانات ) .
أنا لا أريد أن أمعن النظر في هذا الكلام كله ، إنما أريد من القاريء الكريم أن يضع يده معي على جزء يسير منه هو : من أجل القضاء على أزمة السكن التي يعاني منها العراقيون منذ فترة طويلة . فهل لعاقل منا أن يصدق أن خطة الوزارة هذه ببيوتها الخشبية ستقضي على أزمة السكن في العراق ! أما كان بوسع هذا المصدر المطلع أن يقول : تساهم في حلّ أزمة السكن ؟ هل أراد بذلك أن يضحك على ذقون المعذبين من العراقيين ، والذين قدم بعضهم جزيل شكره لامام جامع لأنه أسكنهم في غرفة قرب دكة غسل الموتى ؟
يمضي المصدر المطلع هذا فيقول : تمّ مفاتحة بعض الشركات العالمية المتخصصة ببناء مثل هذه البيوت من أجل تجهيز العراق بها ، والتي تحمل مواصفات خاصة تلائم مناخ البلد ....وستعطى للمواطنين باسعار مناسبة جدا عن طريق الاقصاط المريحة.
أنا لا أعلم من هي هذه الشركات العالمية المتخصصة ؟ وفي أي البلدان تخصصت في بناء ( كرفانات ) تصلح لسكن اسرة بأطفالها ، وليس كرفانات تحط هنا اليوم لتنقل هناك في يوم آخر ، وأخشى ما أخشاه أن تكون هذه الكرفانات كسوق حجي موازي العصري ، فقد استلم موازي من ابنه ، الذي كان رئيس بلدية ، مقاولة لبناء سوق عصري في بلدية من بلديات العراق ، أتم حجي موازي بناء حوانيت صغيرة بصفين متقابلين ، ومن صفائح الحديد ( الجينكو ) ، وحين نزل الصيف في المستأجرين نزلت جهنم بهم بلظاها وسقرها ، ففروا من السوق بجلودهم ، وخسروا ثمن شرائها ( عن طريق الأقصاط المريحة ) كما يقول المصدر المطلع في وزارة ألاعمار والاسكان. ومع هذا فأنني أعتقد أن الشركات العالمية المتخصصة هذه لا تتعدى الشركات الخليجية التي ربما زينت المشروع للوزارة وللعاملين فيها ، أو أن الوزارة والعاملين فيها لا يستطيعون أن يقدموا للناس أكثر من هذا ، ولا تخلو العملية برمتها من سمسرة تجارية في نهاية الأمر .
لقد عرف العراقيون منذ العهود السومرية تجارة الخشب ، فقد استوردوا الخشب زمن السومرين من اندنوسيا وماليزيا عن طريق البحر ، ومن كردستان عن طريق النهر ، ولكنهم ما ابتنوا بيوتا منه ، انما بنوا منه سفنهم وزوارقهم ، والتى ظل العالم على تمدنه وتقدمه يستخدم طرقهم تلك في بناء السفن للزمن الحاضر ، وقد عدلوا عن الخشب الى القصب والبردي فاشادوا بيوتا منه ، ذلك الى جانب مادة القير والطابوق ، وغبّ ثورة 14 تموز أبدع العمال والمهندسون العراقيون في بناء آلاف البيوت لفقراء الناس ، فيما سمي بالاسكانات التي لم تخلُ منها أغلب المحافظات العراقية ، مستخدمين طرق مبتكرة في هندسة البناء ، ومنتفعين بمواد البناء المتوفر في العراق ومنها القصب ، ودون أن يلجؤوا الى ( الشركات العالمية المتخصصة ).
إن أزمة السكن لم تنشأ في عهد صدام الساقط وحسب ، وإنما تفاقمت الآن بشكل مخيف وعلى عهد الوزارة الحالية ذاتها ، فالبيت الذي كان سعره في الكرادة من بغداد بخمسمئة متر مساحة ، عشرين ألف دولار ، أصبح الآن في العراق الجديد ! مئتي الف دولار ، وهذا السعر الخيالي لا يوجد في دولة كالسويد ذات المستوى المعاشي العالي ، والتي يسميها الأوربيون بدولة الرفاهية .
لقد كان لسياسات النظام الساقط أثرها الواضح والبين في تدهور كل وجوه الحياة في العراق ، ومنها سياساته في السكن ، ولكن لأزمة السكن سبب خاص بها ، وهو الحلف الخفي بين دوائر العقار الحكومية من جهة ، وبين تجار وسماسرة العقارات ، فأي خطوة كانت تتخذها بلدية ما من أجل توزيع قطع سكنة بفعل ضغط الناس على تلك البلدية عن طريق جمعيات السكن ، كانت تواجه بعرقلة مستميتة من قبل الدوائر العقارية الحكومية التي شدت نفسها الى تجار العقار من خلال ذلك الحلف وما يقدم لهم من رشى مجزية ، في وقت كان التجار يطمحون من وراء هذه العرقلة بالحفاظ على أسعار العقار مثلما يريدون هم ، وليس مثلما تريد الجمعيات السكنية والناس .
إن العراق إذا أراد أن يدخل الخشب في صناعة البناء ، والحد من تفاقم أزمة السكن من خلال هذا الطراز من البيوت عليه أن ينظر للآتي :
1- تجربة البلدان المتقدمة ، والتي أدخلت هذا المادة ( الخشب ) في صناعة البناء ، خاصة الدول الاسكندنافية ، والتي بدأت باستخدام الخشب في البناء منذ القرن السادس عشر . وهم والحالة هذه يمتلكون خبرة كبيرة في هذا المجال ، وعلى العراق أن يشتري خبرة البناء هذه ، وليس مادة البناء سواء أكانت خاما أم مصنعة من هذه البلدان . إن شراء أي مشروع على أساس تسليم المفتاح لا ينفع العراق على المدى البعيد .
2- تطوير زراعة غابات الاشجار في جميع انحاء العراق وخاصة في كردستان منه .
3- استيراد مادة الخشب من مناشىء رخيصة كدول جنوب شرق اسيا ، بينما تتم شراء خبرة بنائه من الدول المتقدمة في صناعة بنائه كما اسلفت .
4- التوسع في زراعة القصب ذي السيقان السميكة في الأهوار ، والذي يزيد في قوته وسمكه عن القصب الذي يسميه عرب الاهوار بالقصب الفارسي ، وهو النوع من القصب ينمو في مستنقعات دول جنوب شرق اسيا . ويمكن لهذا النوع من القصب أن يدخل بشكل رخيص وناجح في صناعة البناء في العراق .
5- المخاطر التي تترتب على صناعة بناء الخشب ، وأهمها : الحرائق التي إن نشبت واحدة منها ستأتي على الحي كله ، فمعروف أن العراق ليس كالسويد التي تستخدم الكهرباء للوقود والتدفئة والاضاءة ، ولا تستخدم مصادر الطاقة السريعة الاحتراق كالنفط والغاز ، وهي باستخدامها الكهرباء ، والغاء هندسة بناء البيوت المتلاصقة قد قللت كثيرا من مخاطر الحرائق التي كان من بين ضحاياها الأطفال والشيوخ . ومن المخاطر هذه كذلك القوارض من الحشرات وخاصة ما يمسى بدودة الارضة التي تأكل الخشب وتحيله الى دمار وخراب .
وإذا كانت الوزارة جادة في معالجة أزمة السكن فعليها بالدرجة الأولى أن تعيد أسعار العقار في العراق الى اسعارها في دول الجوار على الاقل كسوريا مثلا ، وليس الكويت حيث مستوى دخل الفرد فيها يفوق مستوى دخل الفرد في العراق كثيرا ، وذلك من خلال محاربة الفساد المستشري في دوائر العقار وأسواقه ، ومن خلال رخص وتوفير مواد بنائه ، ومن خلال توزيع القطع السكنية وباسعار مناسبة على المواطنيين ، واجراآت اخرى غيرها ، منها منع التجار الغير عراقيين والذين دخلوا الى سوق العقار العراقية باسماء عراقيين من مزاولة نشاطهم الغير مشروع في هذه السوق ، حيث تجلى نشاطهم هذا بشكل واضح في المدن المقدسة مثل النجف وكربلاء ، وهدفهم من وراء ذلك السيطرة على سوق السياحة الدينية في هذه المدن كما يسميها البعض ، أو الاحتلال السلمي كما يسميها عزيز الحاج .
لا ينفع وزارة الاعمار والاسكان تصريح هنا وتصريح هناك ، ولا يدفع عنها نقمة الناس قول في جريدة أو مذياع ، فأزمة السكن بدأت تتفاقم في العراق بتفاقم أسعار العقارات فيه، وقد بدأت شكاوى الناس هناك من فقدان المأوى تصل الى قطب الأرض الشمالي، وآخرها مظاهرة أحفاد الزنج في البصرة قبل أيام ! ورحم الله الغفاري حين قال : إني لاعجب من رجل لا يجد قوتا في بيته ولم يخرج شاهرا سيفه على الناس ! والاضطهاد بعد ذلك ليس السجن فحسب ، وإنما هو خير موحد للناس ، وإن هي اختلفت في مللها ونحلها.