|
بيرجينت.. وفن الإهانة
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2415 - 2008 / 9 / 25 - 04:30
المحور:
الادب والفن
في عالم السياسة يمارس الكبار علم الإهانة ضد الصغار وفق ما تعلموه من ميكيافيللي . ويعتبرونهم أصاغر – وهم لا يلتفتون إلى قول المتنبي ؛ إن كان قد مر بهم ، أو حتى سمعوا به – حيث يقول: "وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم" أما عالم الأدب والفن فيمارس مبدعوه فن الإهانة من وراء أقنعة الاستهانة ، حيث يستهين الكاتب شاعراً أو ناثراً وكذلك الفنان بما بين يديه من عمل يشرع في نسجه إبداعاً فينتهي به إلى التسطيح أو الابتذال ، وبذلك يصم إنتاجه الأدبي أو الفني من حيث لا يريد. وفي شعر القدماء والمحدثين الكثير مما يصلح مثالاً على زعمنا . فهذا الفرزدق أراد إصابة عصفورين بحجر واحد ، في قصيدة أراد بها هجاء جرير ومديح الخليفة في بيت واحد ، فإذا به يهجو جريراًَ والخليفة معاً ، في البيت نفسه دون أن يقصد: " " هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلينا قطينا" فلما بلغ الخليفة الأموي ذلك القول قال : " ما زاد عن أن جعلني راعي إبل . فوالله لو قال : لو شاء ساقكم إلينا قطينا . لفعلت" ومثله قوله أيضاً في الفخر بقومه : " إذا الملك الجبار صعّر خديه صفعناه حتى تستقيم الأخادع " فذم الملوك ، وأهانهم دون أن يقصد ووصم نفسه وأهله بالكذب – على طريقة أبي لمعه الأصلي !! أو على طريقة بطل : (سعيد حجاج) الذي تجرأ على (بيرجنت) كما تجرأ الفرزدق على الملوك إذ استوى عنده "بيرجنت" مع ( شحتوت) كما استوى عند المخرج محسن حلمي "جلوك" مع "محمد باهر" كما لو كان النور والظلام يتساويان!! لذلك يصح معهما ما نصح به المتنبي سيف الدولة – مع الفارق بين الناصح والمنتصح قديماً ومعاصراً حيث يقول: "وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظُلَمُ " فإذا كان بيرجينت ملك "الفَشْر" الميتافيزيقي في الحياة البشرية – في مسرحية هنريك إبسن – فإن المسخ المقابل له في المعالجة "الحجاجية" كان أدنى من (أبي لمعة الأصلي) – لافتقاده لخفة الدم أو لكاريزما المضحك – ولافتقاد حكيه لروح السحر الميتافيزيقي وسمو خيالاته وتخييلاته. وإذا كان "الفشر" الميتافيزيقي في النص الأصلي (بيرجينت) هو المعادل الموضوعي للمرحلة الأولى في حياة الثقافة الإنسانية ، فإن "الفشر" الواقعي في النص الاستعراضي المعارض له تحت عنوان (أوبريت: في يوم في شهر سبعة) الذى عرض بمسرح البالون بالقاهر ؛ جاء على طريقة (كدبة تفوت ولا حد يموت). وإذا كان البناء الفني الدرامي لمسرحية (بيرجنت) قد تراوح ما بين رحلة الاغتراب النفسي للإنسان وارتحال الغربة المادية عبر تاريخه، بالتتابع المتجاور للأحداث كشفاً عن رحلة تنوير ثقافي عبر رؤية فكرية وفلسفية تتوشح بالتعبيرية أسلوباً؛ فقد أخفق المعارض المسرحي إبسن (نصاً وغناء وتمثيلاً وسينوجرافيا) في التفريق بين صورة المثقف في حالات اغترابه وفي حالات غربته. فإذا كان الاغتراب هو حالة قطيعة نفسية مع البيئة أو الوسط المعيش على المستوى الواقعي ، والارتحال النفسي عنها على أجنحة التصورات المفككة أو المتشظية عبر مفازة الذهن مع الوجود المادي في البيئة المكانية والزمانية نفسها، وكانت الغربة هي حالة قطيعة مادية مع البيئة المعيشة والانتقال المادي رحيلاً عنها إلى بيئة معيشة مختارة اختياراً قد يكون عشوائياً – في حمقة أو حرقة يطلق عليها علم النفس الحرقانية – للابتعاد عن تلك البيئة ، طلباًَ للأمان الاجتماعي والنفسي عند غيرها . فإن ذلك يتطلب حالة التعبير عنه درامياً – وفق شروط الفن الذي صيغ به العرض – القدرة على التخيل أو الإيهام الفائق القائم على الاحتمال وحده ؛ في حالة بيرجينت الأولى بوصفه حامل الثقافة الأسطورية لمراحل الحياة الإنسانية الأولى – وعندها فإن سحر التخييل والإيهام لابد وأن تصطبغ به الأحداث ولغة التعبير عنها وهيئة المعبر عنها (تمثيلاً أو غناء أو رقصاً ) ووسائل التعبير (سينوجرافيا أو أصواتيات ومصاحبات موسيقية) . وقد حاول الإخراج جهده في التوجه نحو ذلك في مشهد (مملكة الجان) على الرغم من الإطالة غير المبررة فيه غير أنه أخفق في استهلال عرضه ، حيث كان البدء بصورة (الفشر الميتافيزيقي) التي تعقبها رحلة تفاعل ثقافي اختار لها (إبسن) مدينة (كازابلانكا: الدار البيضاء بالمغرب) في لقاء مفتوح بين نماذج ثقافية متعددة (فرنسي – ألماني – نرويجي – أمريكي) وحديث حول المال والتجارة ، لم يخل من زهو وتفاخر وقليل من الأكاذيب في محاولة التقارب أو تقريب الثقافات غير أنه تم عن طريق حوار الشماسي الراقصة لا حوار الفكر والتفاوض حول الأعمال. ولئن كان المخرج (محسن حلمي) قد صوّر الميناء المغربي مكاناً لتقارب الثقافات أو تحاورها ، بوصف المغرب أقصر الطرق في الاتصال الجغرافي بين أوروبا وإفريقيا ، إلاّ أن تباين الثقافات غاب غياباً كلياً عن الحوار وعن الأزياء وعن طرائق التعبير التي كانت تتطلب – بالضرورة – تباين الأداء وتباين المناخ ، تبعاً لتباين ثقافة النماذج الثقافية المتحاورة أو حتى اللاهية . هذا بالإضافة إلى أن العرض حول هذا المشهد وهو الذي قصد به إبسن ، تشخيص حالة انتقالية في رحلة الثقافة العالمية من عالم الانغلاق المادي الواقعي إلى الانفتاح على عالم خيالي ميتافيزيقي من صنع الذهن البشري المغترب عن واقعه ، فلقاء نماذج أو ممثلي الثقافات الغربية القديمة مع نموذج ثقافة العالم الجديد (أمريكا) مع بقايا أو رواسب الثقافة الأسطورية هو تمثيل لرحلة استكشافية وتنويرية غربية للقارة الإفريقية ، حيث ينتقل أو يسوح فيها بيرجينت عبر (الصحراء..ليبيا..مصر) ويصطدم في كل بلد من تلك البلدان بثقافة مغايرة منها : الثقافة الخرافية في (مملكة الجان) ومنها الغيبية في الثقافة الصحراوية البدوية التي يؤلّه كل غريب ومغاير لما رسب في ثقافتها. لم يرع العرض ذلك كله أو بعضاً منه ، وربما لم يع خط الوعي الذي انبنت عليه مسيرة الحدث ، ومن ثم لم يظهر أثر ذلك التباين الثقافي المؤكد لتنوع الهوية الثقافية من بلد إلى بلد ، ومن ثقافة إلى أخرى . وبدا التبلد على بطل الرحلة فلا يظهر موقفه من الثبات ولا موقفه من الأديان لتركيز النص أو العرض على نواح غنائي متكرر حول افتقاد البطل وحنينه للانتماء. وإلى جانب ذلك كله ؛ فاعتقد أن الكتابة التي تقحم نفسها في معارضة عمل له سمات درامية وسمات ملحمية في نسيج واحد يظلم نفسه كثيراً ، إذا استهان بذلك النص التعبيري المحمل بالفكر والتفلسف ، وبسياحة الشخصية سياحة ثقافية قائمة على حوارية (طقش الأدمغة) بين ثقافات منها الأسطوري ومنها الخرافي ومنها الديني. وهي مختلفة كل الاختلاف . ومع أن بيرجينت يتفاعل معها إلاّ أنها ثابتة لا تتغير . وهو الأمر الذي ينتهي به إلى مناطحة (التابوه) في حواريته مع أبي الهول حارس الأبدية الرمز . وهو مشهد بديع حذفه سعيد حجاج . ومن روعته حاكاه جورج برنارد شو في (قيصر وكليوباترا) حيث يخاطب أبو الهول يوليوس قيصر. وبذلك أبطل المعد ببتره لذلك المشهد ما يشي بأن الطريق إلى حوار حضاري بين خطاب التراث وخطاب الحداثة التنويري مسدود؛ الأمر الذي يحتم على صاحب الخطاب التنويري أن يسلك طريقاً لابد أن يسلكه ، وهو الطريق الذي ينتهي به إلى العباسية ومستشفى الأمراض النفسية – كما حدث مع بيرجينت-. ولم يسلم مشهد (صانع الأزرار) الذي هو رمز لقابض الأرواح من البتر. والمعد وإن كان له العذر لطول النص الأصلي ، إلاّ أنه كان يجدر به إذا شاء الحذف أن يلعب بقلمه في منطقة أضعف ، أو أن يقلل حجم مشهدي (مملكة الجان والمولد الشعبي) الذي لعبت فيه التنورة دور البطولة ، حيث حلت التنورة في هذا العرض محل الثقافة المصرية بعد أن حذف ما يعبر عن تفاعلها من خلال أبي الهول قديماً مع ممثل الثقافة العالمية الحديثة المعاصرة – قياساً على زيارة إبسن لمصر مدعواًَ من الخديوي اسماعيل في حفل افتتاح قناة السويس ، وزيارته لأهرامات الجيزة ولأبي الهول – وإذا كان المعد المعارض لإبسن قد استهان بنص بيرجينت ، ومن ثم أهانه ، وأهان من تلقاه ، بخاصة إذا قارنه بعرض (بيرجينت) في ساحة أبي الهول عند سفح الهرم في 2006 . ذلك العرض الأوبرالي الذي أبدعه جلوك Gluck (1714-1787) أوركسترالياً وأوبرالياً ؛ فلربما يشعر مثلما شعرت بأن بيرجينت قد أهين بمصر. كما لو كان دخوله مستشفى المجانين في العباسية – في النص – غير كاف !! على أني ألقي على المخرج – وهو مخرج بارع في غير هذا العرض – مسؤولية تنميط الأداء والبيئة بنمط ثقافة واحدة لم تتغير طوال العرض ، على الرغم من أن النص الأصلي – والمعد عنه إلى حد ما – بني على هويات مختلفة وثقافات متباينة ، وذلك بسبب تثبيت أو "تكييس" فرقة الموسيقى الشعبية في خلفية الفضاء المسرحي من بدء العرض إلى نهايته – وهي فرقة ذات هوية ثقافية وفنية لها نمط أدائي لا يتغير – مما شكل قيداً على التعبير الموسيقي المتغاير تبعاً لتغاير الثقافات وصور التعبير المتباين ما بينها ، من هنا افتقد التعبير عن حالات الاغتراب النفسي أو عن حالات الغربة المكانية البيئية المصداقية وجماليات التعبير المتنوع. لذلك تشابهت الجمل الموسيقية وتحولت المونولوجات الغنائية إلى قالب الموال ومال النبر الأدائي إلى نقشبندية الابتهال وكحلاوية التلييل والتعيين). كذلك يؤخذ عليه توزيع الأدوار وخاصة دور البطل (بيرجينت) المصري. وقد كان يمكنه الفوز بممثل مغن (لا بمطرب لا يجيد التمثيل) فالدور هو دور ممثل في الأساس وليس دور مطرب . ويؤخذ عليه فقر المناظر الواقعية أو التجريدية المصورة للبيئات المتباينة بديلاً عن منظر جذعي النخلتين الذي اكتفى به تعبيراً عن كل البلاد التي دخلها ممثل الثقافة العالمية المعاصرة (بيرجينت) وتؤخذ عليه كثرة الغناء (عمّال على بطّال) وكثرة الاستعراضات حيث حلت الشماسي في ميناء (كازابلانكا) محل الحوار الحضاري بين ممثلي ثقافات الأمم وحلت الموالد والشمعدانات والتنورة محل هويتنا الثقافية مع العلم بأن لا التنورة ولا رقصة الشمعدان مصريتان بل تركيتان في الأصل لذلك قلت إن بيرجينت أهين على المسرح المصري وأضيف إلى ذلك أن ثقافتنا أهينت . ومع أن بناء إبسن لشخصية "بيرجينت" بحيث لا تتوحد مع الآخر ولا تفنى (الأنا) عندها أو تذوب في الآخر، باعتبارها النموذج المسرحي والأدبي العالمي لشخصية اللامنتمي في الأدب العالمي الحديث – قبل ظهورها عند كامي- إلاّ أن المعد جعلها ما بين (يوم في شهر سبعة) شخصية منتمية ، فهي أبداً يأكلها الحنين إلى الديار على عادة المصريين المغتربين ، مع أن المعد لم يشر مجرد الإشارة إلى أن بطله قد شرب من مياه النيل. ولا يفوت المعد أو المخرج أن تكون النهاية ميلودرامية حيث يعود بيرجنت المصري ليجد ما أحس به في غربته من أن أمه قد رحلت يجده متحققاً . وبذلك ينتهي العرض ويسدل الستار على طريقة النهاية في فيلم عربي من بطولة (يوسف بك وأمينة هانم) .
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جماليات الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضارى - دراسة في تح
...
-
الميتا ذات .. طفل الأنابيب المسرحى
-
ذاكرة المسرح السكندرى
-
جماليات الفن التشكيلي بين اللوحة المقروءة واللوحة القارئة
-
تأملات فلسفية حول المسرح والمصير الإنساني
-
التجريب واصطياد فراشات المعني بشبكة الصورة
-
تقنيات الكتابة السينمسرحية في- تسابيح نيلية- لحجاج أدول
-
المسرح في زمن الحكي
-
حوارية القطع والوصل في الحديث عن المسرح الشعرى
-
الفن بين ثقافة الاباحة وثقافة المنع
-
أشكال الفرجة الشعبية وعناصرها في المسرح العربي (سيميولوجيا ا
...
-
توازن الصورة الفنية بين المسرح والفن التشكيلى (1)
-
مسرح إبسن بين المتخلفات والمتغيرات المعرفية المتلازمة
-
محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكي
-
التعبير المسرحي الشعري بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعن
...
-
بيرجنت وفن الإهانة
-
تعليقا ً على دراسة ازدواجية اللغة لمهدى بندق
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|