|
طائر الدودو
كريم الهزاع
الحوار المتمدن-العدد: 2415 - 2008 / 9 / 25 - 00:22
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في كتابه « إمبراطوريات الرياح الموسمية» يضع ريتشارد هول إصبعه على جرح عميق، حيث يتساءل ويجيب عن الأسئلة الصعبة مثل.. ما الذي فعله المستعمر في الأمكنة التي استعمرها؟ وما الذي يفعله المستعمرون الجدد؟ إذ ما إن تقلب خريطة العالم رأساً على عقب، حتى يغدو في استطاعتك رؤية المحيط الهندي، وقد بدا تجويفاً واسعاً غير منتظم الشكل، تحدّه شواطئ أفريقيا وآسيا وجزر أندونيسيا وساحل أستراليا الغربي.
وخلافاً للمحيطين الأطلسي والهادي اللذين يتداخلان عند حدودهما القصوى الشمالية والجنوبية مع البحار القطبية، فإن المحيط الهندي هو محيط استوائي بصورة كاملة، والإتيان على ذكره يستدعي مشهداً قوامه جزر تحفها أشجار النخيل، وبحيرات تنطلق فيها أسماك تتدرج ألوانها كألوان قوس قزح وسط الصخور المرجانية. تلك هي الصورة التي تحملها الكتيبات السياحية، ولكن وراءها يكمن المحيط الهندي ذو التاريخ الممتد، وأحد مراكز التقدم الإنساني، والساحة الهائلة التي اختلطت فيها أعراق عديدة ، وتعاركت، وتبادلت التجارة عبر آلاف السنين.
وكانت لأقدم الحضارات في مصر ووادي دجلة والفرات وسيلتها المباشرة للوصول إلى المحيط الهندي عن طريق البحر الأحمر والخليج العربي. وفي المحور الممتد في اتجاه خط الاستواء تقع شبه القارة الهندية، وهو ذاته موقع ثقافات قديمة نشأت في وادي السند. ومنذ عهد سبق بكثير عصر الإسكندر الأكبر، عاد الرحالة جالبين معهم الحكايات عن الشرق الثري البهيج. والإمبراطور تراجان الذي بلغ الخليج العربي منتصراً في العام 116 بعد الميلاد، وشاهد البحارة وهم يبحرون إلى الهند، فندب حظه العاثر الذي شاء له أن يكون أكثر تقدماً في العمر من أن يقوم بهذه الرحلة ويشاهد عجائبها. وعلى امتداد ما يقرب من ألف عام بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، كان الجانب الغربي من المحيط الهندي الذي يشكل محور البحث في هذا الكتاب، كياناً قائماً بذاته، يعادل في ذلك البحر الأبيض المتوسط ويفوقه ثروة وقوة. وقد ازدهرت الفنون والثقافة هناك، في مدن قدم إليها التجار، من أنحاء العالم المعروف كافة.
وكان هناك أيضاً الكثير من الاضطراب مع قيام الجيوش الغازية التي حشدت في بقاع نائية من آسيا بالاندفاع لإطاحة الإمبراطوريات القديمة، وفرض أنظمة أسر حاكمة جديدة. غير أن حياة الأفراد العاديين حكمتها الطبيعة على الدوام بأكثر مما حكمتها الأحداث الكبرى؛ فقد حكمتها الرياح الموسمية التي لا تتوقف عن الهبوب في مواعيدها، بأكثر مما حكمتها الممالك سريعة الزوال. والكلمة الإنجليزية التي تترجم بالرياح الموسمية، وهي (monsoon) مشتقة من الكلمة العربية «موسم». ومنذ جرؤ البحارة على المخاطر بالقيام برحلات عبر البحار المفتوحة، حملت هذه الرياح الموسمية سفنهم بين الهند وجاراتها البعيدة، وهي تهب في اتجاه واحد على امتداد ستة أشهر، ثم تهب في الاتجاه المعاكس خلال النصف الثاني من العام، فالرياح الموسمية الصيفية الآتية من شرق أفريقيا والبحار الجنوبية يجتذبها باتجاه الشرق دوران الأرض، وذلك بعد عبورها خط الاستواء، بحيث إنها تندفع عبر الهند، وصعوداً عبر خليج البنغال، وتصبح هذه الرياح أقوى ما تكون في الفترة ما بين حزيران / يونيو، وآب / أغسطس من كل عام. وربما لم يدرك قباطنة البحار في قديم الزمان سر ظاهرة هبوب الرياح الموسمية (كيف أن تلك الرياح تندفع باتجاه الشمال فوق المحيط في الصيف، نحو أراضي آسيا الحارة، ثم باتجاه الجنوب من جبال الهيمالايا والسهول الهندية في الشتاء).
وبالنسبة إليهم كان كافياً أن تهب الرياح في موعدها، عاماً بعد الآخر، لتملأ أشرعتهم. وبالنسبة إلى مزارعي الهند، كذلك كان يكفي أن يعرفوا أن الرياح الموسمية تثير الفزع في أوقات عنفوانها، حيث لا تجرؤ سفينة على الإبحار، وتكتسح الفيضانات قرى بكاملها، وتخلف الأعاصير الدمار وراءها. وقد يمكن القول بأن الإيقاع الذي لا مهرب منه والناجم عن هذا المناخ، قد ولّد نزعة قدرية معينة في نفوس شعوب المحيط الهندي. ومع ذلك فإن الرياح الموسمية عُدَّت منذ زمن بعيد من أكثر الظواهر الطبيعية اتساماً بالطابع المعتدل الرقيق، وهي كما يقول جون راي، وهو عالم إنجليزي ينتمي إلى القرن السابع عشر: «موضوع يستحق تأملات أعظم الفلاسفة».. قبل «عصور الكشف» مرّ ألف عام من الجهل المطبق تقريباً في أوروبا، إزاء ما يتعلق بالمحيط الهندي والأراضي المطلة عليه، وقد ظهرت في إحدى المراحل خلال ذروة اتساع الإمبراطورية الرومانية تجارة مزدهرة مع الشرق، قام بها أساساً البحارة الإغريق، الذين تعلموا كيف يستغلون الرياح الموسمية؛ وجلبوا معهم الحلي والقرفة والعطور والبخور، وكذلك أنواع الحرير والقماش الهندي الشفاف الذي كانت نساء روما يَتُقْنَ إليه.
ولكن مع انهيار الحضارة اليونانية والرومانية في أوروبا، فقد الأوروبيون المعرفة كلها التي اكتسبها الإغريق. عندما بدأت أوروبا أثناء العصور الوسطى بالتطلع إلى طريق جديد يفضي إلى الهند، لتتجاوز حاجز الإسلام المنتصب في الشرق الأوسط. أحبطت كتلة أفريقيا الهائلة بحارتها طويلاً، إلى أن قام البرتغاليون في نهاية المطاف بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وكانت رحلة فاسكو داغاما إلى الهند والعودة منها في السنوات 1497-1499 أطول رحلة بحرية قام بها الأوروبيون على الإطلاق.
ضمن هذا الإطار يأتي كتاب «إمبراطوريات الرياح الموسمية»، وفيه يوضح المؤلف كيف أن الوجود الأوروبي، اعتباراً من القرن السادس عشر فصاعداً، قد غيّر حياة المحيط الهندي، على نحو لا رجعة فيه، فقد تمّ إخضاع ممالك مزدهرة، وأصاب الاضطراب العلاقات التي قامت فيما سلف بين الديانات والأعراق. ومع قدوم الرأسمالية الغربية أصبحت أنماط التجارة القديمة شيئاً منقرضاً، كطائر «الدودو» الذي قضى البحارة الهولنديون على وجوده قضاءً مبرماً في جزيرة موريشوس. ومع ذلك فإنه على الرغم من أن مدافع أوروبا قد استطاعت إنشاء إمبراطوريات في الشرق، فإن السكان هناك كانوا أكثر عدداً من أن يتم إخضاعهم بصورة مستديمة. وما حدث في الأميركتين ما كان ليتكرر في آسيا أبداً، إذ يتألف سجل التدخل الأوروبي والتصدي له من مزيج من العنف والفجور والشجاعة، وإذا كان طائر «الدودو» قد انقرض هناك، فأي طائر سينقرض عندنا نحن العرب؟ وهل مازالت في أعناقنا طيور؟ في ظل ثقافة «أسلم على رقبتك وأنسى رقاب الناس» وعلى إيقاع الأغنية التي تقول كلاماتها: «لمني على صدرك وعلمني الإحساس».
#كريم_الهزاع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا غابت ثقافة السلوك؟
-
ثمار الجوز.. هل ستنكسر بسهولة؟
-
ريثما يتحرك أبو الهول
-
الحرية.. وشرط المعرفة
-
إشكالية الحرية وتقرير المصير
-
451 فهرنهايت
-
إذا سكت المثقف ، فمن الذي سيدافع عن المجتمع ؟
-
إصبع يشير إليك ويرميك في خانة التصنيف
-
العولمة المتوحشة!
-
بؤس العالم
-
طبخة تموز وكأن شيئاً لم يحدث
-
جدلية الماء والنار
-
الصحافة الكويتية واللعب بالمشاعر
-
مرضى ال ms في الكويت.. من الذي سيقتص لهم؟
-
قضية البدون في الكويت
-
طرة أو نقشة
-
إلى أين توجهت أصوات «حدس»؟
-
الحياة البرلمانية .. والثقافة السياسية ( 4)
-
الحياة البرلمانية .. والثقافة السياسية ( 3 )
-
الحياة البرلمانية .. والثقافة السياسية ( 2 )
المزيد.....
-
مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-.
...
-
إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
-
صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق
...
-
الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف
...
-
سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
-
ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي
...
-
مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا
...
-
أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
-
كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|