القاموس السياسى الأمريكي يسمى الثلاثاء – الذى سيوافق هذا العام 2 مارس المقبل – بـ " الثلاثاء السوبر " او " الثلاثاء العظيم " .
وما يميز هذا اليوم عن باقي أيام الثلاثاء الأخرى على مدار كل أربع سنوات هو شئ واحد ، إذ سيتقرر فيه اسم مرشح الحزب الديمقراطي الذى سيخوض انتخابات الرئاسة ضد الرئيس الحالى ، والمرشح الوحيد للحزب الجمهوري ، جورج ووكر بوش ، الساكن الراهن للبيت الأبيض .
ومعروف ان الانتخابات الرئاسية ، التى تجرى كل أربع سنوات بالساعة والثانية فى شهر نوفمبر ، تسبقها انتخابات تمهيدية لاختيار " فرسى الرهان " من الحزبين الكبيرين اللذان يحتكران تداول السلطة داخل الولايات المتحدة عبر القرون الثلاثة الماضية ، من الاستقلال حتى الآن ، وهو " كل " التاريخ الأمريكي القديم والحديث والمعاصر ، وهما الحزب الجمهورى والحزب الديمقراطى .
وبما ان الحزب الجمهورى هو الذى يستولى حاليا على البيت الابيض فانه يحاول إبقاء ممثله – جورج دبليو بوش – فى المكتب البيضاوى لفترة رئاسية ثانية بينما يحاول الحزب الديمقراطى الاتفاق – من خلال الانتخابات التمهيدية – على مرشح قادر على طرد الرئيس الجمهورى من البيت الأبيض واستعادة حكم البلاد .
ورغم ان هذه الانتخابات التمهيدية لم تحسم بعد ، فان معظم المؤشرات ترجح ان يكون السناتور جون كيرى هو المرشح الديمقراطى الذى سيخوض المعركة الفاصلة ضد الرئيس جورج بوش .
فمن يكون السناتور " كيرى " ؟ وما هى فرصته فى التغلب على غريمه الجمهوري جورج بوش ؟ وهل هناك اختلافات جوهرية بين الرجلين أم ان الأمر كله لا يزيد عن الفارق بين " احمد و " الحاج احمد " ؟!
انتخــابـــات كـــونيـــة
هذه الأسئلة لم تعد تشغل بال الناخب الأمريكي فقط ، باعتباره صاحب المصلحة الأساسية وصاحب الصوت الذى يرجح كفة هذا على كفة ذاك ، بل أصبحت تشغل بال غير الأمريكيين أيضا حتى الساكنين فى قرى الصفيح واحزمة الفقر فى جبال أمريكا اللاتينية او وديان آسيا او أحراش أفريقيا ، وناهيك طبعا عن عواصم الدول السبعة الأكثر غنى على ظهر الكرة الأرضية .
صحيح ان كل هؤلاء ليس لهم صوت فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية لكن نتيجة هذه الانتخابات أصبحت تؤثر عليهم بصورة مباشرة وغير مباشرة .واصبح هذا التأثير يتزايد منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار حائط برلين وانفراد واشنطن بالهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على النظام العالمى والشئون الدولية ، ثم تطور هذه الهيمنة الى نزعة إمبراطورية متغطرسة وعدوانية تعطى الإدارة الأمريكية لنفسها بموجبها حق التدخل المباشر فى شئون خلق الله فى سائر أنحاء الدنيا ،وتنصب نفسها رجل بوليس عالمى ، كما يعطى الكونجرس نفسه حق التشريع حتى لغير الأمريكيين جاعلا من نفسه " محكمة تفتيش " دينية معاصرة تتنطع على البلدان والقارات وتقرر مدى احترام كل منها للأديان من وجهة نظرها بالطبع ومن زاوية مصالحها بكل تأكيد. ومن جراء هذه النزعة الإمبراطورية العدوانية المتغطرسة جرى احتلال العراق بأكثر أشكال الاستعمار القديم فجاجة ، كما يتم التدخل فى أدق شئون بلدان الشرق الأوسط والتهديد بتغيير خرائطه بزعم الانتصار للديمقراطية المفترى عليها ! .
وارتباط هذه السياسات الأكثر عدوانية بوصول ما يسمى بـ " المحافظين الجدد" الى البيت الأبيض – بعد الانتخابات الرئاسية السابقة وما شابها من غرائب وصلت الى حد إلغاء إرادة أغلبية الناخبين بحكم محكمة – كل ذلك ضاعف من اهتمام غير الأمريكيين بانتخابات الرئاسة الأمريكية ، لان خروج " أمراء الظلام " و " الأصوليين " والمتعصبين العنصريين من البيت الأبيض ليس كبقائهم فيه .
لهذه الأسباب يتزايد الإلحاح على التعرف على شخصية غريم جورج بوش عن كثب ، خاصة فى العالم العربى حيث انعدمت القدرة على " الفعل " وغابت الإرادة السياسية فى مواجهة هذا الجبروت الأمريكي ، واصبح أمل معظم القيادات العربية مقتصراً على الدعاء والتضرع من اجل تغييرات ربما تحدث داخل هذا الكيان الامريكى المفترى !
الحصـــان الأســـــود
فمن هو جورج كيرى المرشح المرجح لمناطحة جورج بوش رأساً برأس ، وهل هو "الأمل" حقا ً ؟!
ولد جورج كيرى فى دنفر بولاية كولوراديو فى 11 ديسمبر 1943 ، اى انه لا يتجاوز الحادية والستين من عمره .
ويقول عالم الأنساب النمساوى فيليكس جونداكر ان فريدريك كيرى ، جد جون كيرى الذى هاجر الى الولايات المتحدة فى نهاية عام 1904 ، كان يهودياً نمساوياً اعتنق الكاثوليكية مع أسرته قبل هجرته الى الولايات المتحدة عام 1901 ، وغير اسم عائلته من " كون " الى " كيرى " . كما تخلى عن اسمه " فريتز " عند وصوله الى الولايات المتحدة.
وتفيد دراسة الباحث النمساوى ان فريتز ولد فى بلدة هورنىبيسوف التشيكية فى مايو 1873 حيث كان والده بينديكت يصنع البيرة. وقال رئيس بلدية "هورنىبيسوف" الحالى ان مصنع البيرة الصغير الذى كان يملكه جد " كيرى " الأكبر انتهى منذ عام 1910 بسبب منافسة شرسة بين أربعة مصانع كانت موجودة حينذاك ، وتحول المبنى الى مصنع للصودا دمر فى الخمسينات وظهرت مكانه اليوم حديقة خاصة ، اما البقية الباقية منه فقد تحولت الى مركز لـ " الساونا " .
وعلى هذه الخلفية النمساوية التشيكية ، اليهودية الكاثوليكية ، نعود الى جون كيرى نفسه ، فنجد انه تخرج من جامعة " ييل " حيث حصل على شهادة البكالوريوس عام 1966 ,. وبعد ان خدم فى سلاح البحرية الأمريكية من 1968 الى 1969 حصل على شهادة الدكتوراة فى الحقوق من كلية بوسطون عام 1976 .
ومع انه فاز بوسام النجمة الفضية والنجمة البرونزية وبثلاث ميداليات "القلب الارجوانى " اثناء خدمته فى فييتنام. فقد اكتسب " كيرى " سمعة مدوية باعتباره متحدثاً باسم المحاربين السابقين فى فييتنام الذين تحولوا من المشاركة فى هذه الحرب القذرة الى مناهضتها بقوة ، وفضح الأسباب الزائفة التى روجتها الإدارة الأمريكية – وقتها – لتبرير إشعال شرارتها والاستمرار فيها .
وفى عام 1982 شغل منصب نائب حاكم ولاية ماساتشوستس ، ومنذ عام 1984 حتى الان جرى انتخابه دورات متصلة عضواً فى مجلس الشيوخ .
وقد تزوج مرتين ، ولديه ابنتان من زواجه الأول ، الكسندرا وفانيسا، وزوجته الثانية لديها ثلاثة أبناء من زواج سابق ( هم جون وأندريه وكرستوفر).
وهذه الزوجة الثانية هى تيريزا هاينز ، وريثة إمبراطورية صناعة الأغذية الشهيرة (هاينز) ، وبالذات "الكاتشب" الذى يحمل هذا الاسم والذى لا يكاد رف مطبخ فى أنحاء العالم يخلو منه ، وتقدر ثروتها بنحو 500 مليون دولار.
لكن "كيرى" ليس أقل ثراء من زوجته ، حيث تقدر مجلة "فوربس" ثروته بـ 550 مليون دولار ، أى أكثر من ثروة جاى روكفلر، ويعيش فى بيت يقدر ثمنه بعشرة ملايين دولار فى ميدان لويس بورج فى بوسطن.
أمـــريكــا الأخــــرى
هذا السناتور طويل القامة ، الارستقراطى ، المشهور بلقب "الديموقراطى الليبرالى"، هو العسكرى المقاتل الوحيد بين المرشحين الديموقراطيين للرئاسة - بعد انسحاب الجنرال ويسلى كلارك – ولذلك حرص على تقديم نفسه باعتباره أحد أبطال حرب فيتنام ، بعكس الرئيس بوش الذى تهرب من الخدمة هناك بالانضمام إلى احتياطى الحرب الوطنى.
ويحاول كيرى التأكيد على اختلافه الجذرى مع جورج بوش، ممثل صناعة النفط ، قائلاً " أننى أنوى التغلب عليه وأن أوضح أن جورج بوش هو الشخص الوحيد فى الولايات المتحدة الذى يستحق التخلص منه".
وهى رغبة يشاطره فيها كثيرون داخل أمريكا وخارجها ، حتى أن احدى الناخبات الأمريكيات قالت " أننى على استعداد لأن اعطى صوتى لقطتى لو كانت قادرة على اخراج بوش من البيت الأبيض".
ولذلك يركز "كيرى" على أنه يمثل "أمريكا الأخرى" التى لا يعرفها بوش، أو انه يعرفها ولكنه يحتقرها ، مؤكداً أن إدارة بوش تمثل "مصالح الأثرياء" ولا تلقى بالاً لمن عداهم، بل يمضى أكثر من ذلك قائلاً أن "الرئيس بوش قادنا وأساء قيادتنا إلى طريق يتعارض مع مائتى عام من تاريخ بلادنا. فقد أساء الظن بالعالم بعد 11 سبتمبر وفقد الاحترام والنفوذ والتأثير الذى نحتاجه للحفاظ على أمن وسلامة بلدنا".
وفى مقابل ما اسماه بالسياسة "الخرقاء والمتغطرسة" للرئيس بوش قال "سأجدد تحالفاتنا وسأعود للانضمام إلى أسرة الأمم" مؤكداً أنه يعتزم إعادة إشراك أمريكا فى التحركات الدولية من أجل التصدى لظاهرة ارتفاع درجة حرارة الأرض ، أو ما يسمى بالاحتباس الحرارى، على النقيض من بوش الذى رفضت إدارته بروتوكول كيوتو بهذا الصدد قبل ثلاث سنوات.
وبالنسبة للسياسة الاجتماعية قال أنه يريد توسيع نظام الرعاية الصحية كى تصل إلى ملايين الأمريكيين الذى لا تشملهم خطط الرعاية الصحية العامة والخاصة حالياً بفضل سياسة إدارة بوش التى لا تكترث بالانسان العادى .
كما قال أنه يريد زيادة دعم التعليم ، وتخفيض الضرائب المفروضة على الطبقة الوسطى.
وأوضح أن تمويل هذه الخطط الطموحة يمكن أن يتأتى ببساطة عن طريق خفض استقطاعات الرئيس بوش الضريبية على الأمريكيين الأغنى.
المستنــقـــع العـــراقى
أما بالنسبة لنا .. فان كيرى اتهم بوش بتضليل الأمريكيين بشأن غزو العراق قائلاً أن الكلام الذى يقوله بوش اليوم بهذا الصدد "يختلف كل الاختلاف عما قاله الرئيس وإدارته للشعب الأمريكى طوال عام 2002، فآنذاك قال بوش للشعب مراراً وتكراراً أن صدام حسين لديه أسلحة كيماوية وان باستطاعته أن ينشر هذه الأسلحة خلال 45 دقيقة ليصيب بها جنودنا ، وعلى هذا الأساس أرسل أبناء وبنات الولايات المتحدة إلى الحرب".
ورغم أن "كيرى" كان قد صوت فى مجلس الشيوخ لمنح بوش صلاحية شن الحرب ، فانه يطالب بادخال تغييرات جذرية على السياسة الأمريكية فى العراق ، متهماً بوش بأنه دخل إلى العراق باستراتيجية حرب ، وبدون استراتيجية للسلام.
أما بالنسبة للصراع العربى – الإسرائيلى فان الملاحظ أنه قد أغفله تماماً حتى الآن فى حملته الانتخابية ، اللهم إلا قوله فى جملة عابرة أنه سيعمل من أجل السلام فى الشرق الأوسط ومن أجل أمن اسرائيل.
لكن رغم صداقته لاسرائيل – وهى شرط مسبق لأى مرشح يطمح لوضع قدمه فى البيت الأبيض – فان الغالبية الساحقة من العرب يتمنون نجاحه - وفقا لما قاله مازن حماد فى جريدة "الوطن" – " ليس لأننا نأمل أن يتبنى موقفاً متوازناً بشأن فلسطين والقضايا العربية الأخرى ،وهو ما يهمنا حقيقة فى مثل هذه الانتخابات، ولكن لأن مواقفه وسياساته مهما كانت منحازة ومعادية للفلسطينيين والعرب ، فانها لن تبلغ المدى الاستثنائى الذى وصلت إليه مواقف وسياسات جورج دبليو بوش".
أزمــــة الديمقـــراطيـــة
وفى هذا القول الأخير قدر كبير من الصحة ، فليس هناك على ما يبدو أسوأ من الإدارة الأمريكية الحالية . وهذا القبح الاستثنائى لتلك الإرادة ليس راجعاً إلى "شخص" الرئيس بوش فقط ، أو حتى "الأشخاص" الأساسيين فى إدارته من الصقور الجوارح، وإنما هو راجع بالدرجة الأولى إلى الأساس الاجتماعى الذى يعبرون عنه . وهذه الفئة الاجتماعية الأكثر رجعية والأكثر عدوانية تتناقض مصالحها مع مصالح معظم الطبقات والفئات الاجتماعية الأمريكية ، كما تتناقض خارجياً مع مصالح معظم دول العالم ، حيث لا نجد لها نصيراً سوى حكومة شارون وجزر مارشال .. وحكومة بلير المكروهة من الاغلبية الساحقة للانجليز وحكومة أثنار المرفوضة من 90% من الأسبان فضلاً عن بيرلسكونى الذى يعتبره الشعب الايطالى وصمة عار فى تاريخه العريق.
من هنا .. فانه يمكن القول بثقة أن هناك اختلافاً موضوعياً بين بوش وكيرى.
وان هزيمة بوش – اذا ما حدثت – ستكون موضع ارتياح فى العالم ، ربما قبل أن يكون موضع ارتياح فى أمريكا ذاتها.
ومع ذلك فان المعركة بين بوش وكيرى تحمل بعض البصمات التى تدل على أن الديموقراطية الأمريكية ليست على ما يرام .
* منها وصمة الانتخابات السابقة وما شابها من فضائح .
* ومنها ان الانتخابات الحالية – ورغم الفروق التى لا يمكن تجاهلها بين بوش وكيرى – تظل تدور داخل نادى أصحاب الملايين ، إن لم يكن المليارات.
* ومنها ضعف الوعى السياسى للناخب الأمريكى، الذى لا يهمه ما يجرى للبشرية طالما كانت أوضاعه المعيشية غير متضررة، ولا تهزه الجرائم التى يقترفها البيت الأبيض أو البنتاجون فى حق شعوب العالم اذا لم تؤثر هذه الجرائم الوحشية على مستوى رفاهيته.
* ومنها تدنى مستوى الخطاب السياسى للقادة المعاصرين ، وهو ما عبر عنه هانز بليكس كبير مفتشى الأمم المتحدة المتحدث السابق عن الأسلحة العراقية الذى اتهم الرئيس الأمريكى جورج بوش ورئيس الوزراء البريطانى تونى بلير بالمبالغة فى تصوير خطر الأسلحة العراقية لتبرير شن الحرب ، قائلاً "أعتقد اننا نتوقع أفضل من ذلك من الساسة من زعمائنا فى العالم الغربى .. قدراً أكبر من الصدق"