في ختام الجلسة الاولى لمحاكمة رياض الترك التي جرت في 28 نيسان الماضي، كان المشهد غريباً بالنسبة الى المشاة العابرين من امام مبنى محكمة امن الدولة الواقع قرب ساحة السبع بحرات في قلب العاصمة السورية. رجل صغير القامة، ضئيل الحجم، يرتدي بذلة بربطة عنق، خارجاً من باب المبنى تحيط به ثلة من رجال الامن في اللباس المدني يدفعه افرادها مسرعين في اتجاه سيارة مرسيدس في منتصف الشارع. فجأة، ومن دون مقدمات، يندلع التصفيق حاراً وعفوياً من عشرات الاشخاص الموجودين في الخارج لعدم السماح لهم بحضور جلسة المحاكمة التي انتهت للتو. التصفيق يتعالى والمعتصمون في الخارج يحيطون بالسيارة، يدقون على زجاجها، ويلوّحون للرجل الجالس في المقعد الخلفي يحيط به من الجانبين رجلا امن، وهو بالكاد يستطيع تحريك يديه ليرد التحية بمثلها فيما بسمة الامل تعلو وجهه.
تحركت السيارة ببطء، وهي تشق طريقها عنوة بين الجموع، ثم انطلقت مسرعة في اتجاه سجن عدرا المركزي، فيما استمر التصفيق طويلاً طويلاً، ليحل مكان الالسنة المكبلة بقهر سنوات القمع الطويلة. كان المشهد غريباً ظهيرة يوم الاحد 28 نيسان، بالنسبة الى المشاة العابرين من امام محكمة امن الدولة، في قلب العاصمة السورية. لعلهم تخيلوا ان الرجل القصير القامة هو احد مسؤولي الدولة الكبار خارجاً لتوه من اجتماع رسمي ويودّع "بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم". لولا ان عفوية الناس ووقع التصفيق كانا يدلان على ان في الحدث شيئاً مغايراً لم تألفه العاصمة السورية. فالناس، على قلتها، تجرأت في الشارع الذي بقي عقوداً طويلة وقفاً على السلطة، والناس، على قلتها، بات فيها شيء من شجاعة هذا الذي يحاكم لما فيه من شجاعة وإقدام وتسامٍ على الجروح.
فالرجل السبعيني الخارج من 17 عاماً ونصف عام من الاعتقال الافرادي بدون محاكمة في السجون السورية، اعتقل مجدداً قبل ثمانية اشهر بسبب آرائه الداعية الى التغيير والديموقراطية، وهو يحاكم اليوم بتهم غريبة، منها اعتداء يستهدف تغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة، والقاء الخطب والكتابات بقصد اثارة العصيان المسلح ضد السلطات القائمة، ونقل انباء في سوريا، زمن الحرب، يُعرف انها كاذبة او مبالغ فيها، من شأنها ان توهن نفسية الأمة وتنال من هيبة الدولة بحسب قرار الاتهام. وهذه التهم تصل عقوبتها في القوانين الاستثنائية السورية الى السجن المؤبد او حتى الى عقوبة الاعدام. وحتى لو حكم رياض الترك بتهم اقل من ذلك بكثير، كخمس سنوات او ما شابه، فمن يضمن انه سيعيش طوال هذه المدة ولن يحدث له مكروه خلف القضبان وهو المريض بالسكري والقلب؟
حياة رياض الترك هي اليوم على المحك، وهو يخوض معركته الاخيرة ليس فقط من اجل حريته ولكن من اجل حرية البلد ومستقبله. ولا غرابة بعد ذلك اذا صرح بالآتي لبعض المحامين الذين جاؤوا يحذّرونه من انه قد يُحكم في اقل تقدير بالحبس خمس سنوات: "انتم عم تخوّفوني ولاّ شو. انا شو مفكّر لح عيش هون خمس سنوات. انا اكبر شرف لي ان اموت في السجن". كما لا غرابة ان تكون اولى العبارات التي تلفظ بها رياض الترك في جلسة المحاكمة هي الآتية: "لست خائفاً من شيء، انا من الحبس الى البيت الى الحبس الى القبر". نبرة التحدي هذه، وتحدي الناس المحتشدين خارج المحكمة، أديا الى حصول تعديلات في مجرى المحاكمة، فمُنع الصحافيون والديبلوماسيون وموفد منظمة العفو الدولية من حضور الجلسة الثانية للمحاكمة التي انعقدت في تاريخ 19 ايار (الجلسة الثالثة تُعقد يوم الاثنين 27 ايار). وزال الالتباس عن المشاة العابرين من امام محكمة أمن الدولة، اذ حلت مكان سيارة المرسيدس حافلة مزودة قفصاً حديدياً نُقل فيه رياض الترك. لكن لا الاجراءات ولا القضبان الحديد منعت الناس من ان يصفقوا لدى خروج الترك وان يضربوا بقبضاتهم على النوافذ المسلحة بقضبان الحديد. حتى الألسنة تحررت وصرخ العديدون باسمه ونادوا على الحرية التي اخذها معه خلف القضبان.
وكان ممثل النيابة العامة قد برر اجراءات المنع هذه بقوله: "في المرة السابقة صار شغب وإخلال بالامن العام وخلقت فوضى مصطنعة عندما تم ترحيل المتهم". واعترض رياض الترك على كلمة "ترحيل"، وقال انه من غير اللائق ان تصدر هذه الكلمة من مقام النيابة، وهدّد بالصمت وعدم النطق باي كلمة اذا لم تتوافر شروط العلنية والشفافية خلال محاكمته التي يجب ان تقوم على اربعة اطراف: هيئة المحكمة والمتهم والمحامون والرقابة الشعبية. وهذه الاخيرة يقبل بها في اقل تمثيل ممكن، مجسدة بالاهل والاصدقاء والصحافة.
وكانت المحكمة قد سمحت في جلستها الثانية بحضور مراسلة وكالة الانباء الرسمية السورية، "سانا"، واعتبرتها ممثلة لوسائل الاعلام. لكن "سانا" لم تنشر اي خبر صحافي عن مجرى المحاكمة واكتفت بالصمت. وهكذا، استثناء المحامين، تصير جميع الفئات الحاضرة ممثلة ليس فقط لمؤسسات الدولة وجهازها القضائي، بل ايضاً للحزب الحاكم ومؤسسته الاعلامية، "سانا". حتى السيد فايز النوري، رئيس المحكمة، هو نفسه من قيادات الصف الاول في حزب البعث الحاكم وسبق له ان احتل منصب عضو احتياطي في القيادة القطرية.
تطرح قضية اعتقال رياض الترك ومآل محاكمته ازمات عديدة، فمن جهة السلطة، نسأل: ماذا يفيد اعتقال رياض الترك؟ اذا كان الغرض اعادة زرع الخوف في قلوب الناس؟ فمجرى المحاكمة وما يدور حولها يدل على ان كاسر جدار الخوف يمعن اكثر في تحرير الناس من خوفهم وهو خلف القضبان. واذا كان الهدف هو رمي الترك في دائرة النسيان، فان ما كتب عن رياض الترك وما قيل فيه بعد اعتقاله يزيد بكثير على الذي نُشر عنه قبيل توقيفه الاخير. بل ان محاضراته ومقابلاته الصحافية ومقالاته التي يحاكم عليها اصبحت اكثر تداولاً ليس فقط لانها موضوع الاتهام، بل لأن مضامينها اصبحت اكثر الحاحاً اليوم في تأكيدها لاهمية طي صفحة الماضي ووضع سوريا على طريق التغيير الديموقراطي الصحيح. يبقى السؤال الاهم: هل من مصلحة السلطة ان يموت رياض الترك في سجونها؟ لقد كان الرجل رمزاً للحرية والتسامي على الجروح وهو خارج السجن، فكيف به وهو من جديد في داخله وماذا ستكون عليه الحال ان اصابه مكروه وهو خلف القضبان؟ إن سوريا ليست في حاجة اليوم الى ابطال مخلدين ولا الى سجانين اضافيين. انها في حاجة الى رجال من امثال رياض الترك يساعدون البلد في تجاوز محنه ويعيشون ما تبقى لهم من الحياة بحرية وكرامة بين افراد شعبهم، لا خلف قضبان السجون.
ان معركة رياض الترك اليوم تتلخص في خيارين اثنين، لا ثالث لهما: من السجن الى القبر. او من السجن الى الحرية.
الى القبر، سيذهب حراً ويأخذ معه أمل الحرية، والى الحرية، سيخرج حراً ويعيد لنا معه أمل الحرية.