الخلط بين الشعائر والعقائد:
لقد ظهرت الأديان في سياق ثقافي اجتماعي تاريخي،لتحرر الإنسان وفك الحصار المفروض عليه من قبل السحرة والمشعوذين، لكن يبدو أن البعض من هؤلاء المشعوذين والسحرة انتقلوا إلى الدين والسياسة، وهم يسعون دوماً لبقاء الإنسان أسير شعائر وطقوس دينية وعقائد جامدة بوصفها (الحقيقة المطلقة) والتي يعد الاقتراب منها بالنقد أو التحليل والاعتراض بنظر هؤلاء، كفراً وإلحاداً. وقد دفع الكثير من المفكرين والعلماء عبر التاريخ، حياتهم ثمناً للنهج الديني المتطرف والفكر الظلامي الذي ينظر إلى المجتمعات البشرية والإنسان بمنظار ديني جامد.ويقوم اليوم أصحاب الحل والعقد من رجال الدين والسياسة المسلمين، ممن يخلطون بين العقائد والشعائر الدينية، بدعوة المسلمين، شرقاً وغرباً، للتظاهر والاحتجاج ضد فرنسا لحملها على التراجع عن مشرع تشريع يحظر إشهار علامات الاعتقاد الديني- لكل الأديان منها الحجاب أو غطاء راس المسلمات- في المرافق الفرنسية العامة والمدارس الرسمية التي تتعهد الدولة بتمويلها من المال العام، ذلك تمشياً وانسجاماً مع قواعد ومبادئ الدولة العلمانية الفرنسية.
المسلمة لاجئة سياسية:
لقد أعادت (قضية الحجاب) في فرنسا إلى الأذهان قضية (المرأة المسلمة) في كندا، في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث شهدت الدوائر الكندية المعنية بقوانين منح اللجوء السياسي، وعلى امتداد سنتين، جدال وسجال طويل وحامي، أصدرت بعدها حكومة كندا قراراً ، بضم المرأة (المسلمة) إلى خانة (الفئات المضطهدة) التي يخول الدستور منحها حق (اللجوء السياسي) وقد بدأ تطبيق القرار فعلاً بمنح هذا الحق لسيدة (سعودية) كانت قد دخلت كندا بطريقة غير قانونية، قالت السيدة في المحكمة الكندية: (( أنها هاربة من دين الإسلام الذي صادر حريتها وجعل حياتها جحيماً لا يطاق)). وقد علق الكاتب الليبي المرحوم( الصادق النيهوم) على قرار الحكومة الكندية في مقال له بعنوان (المسلمة لاجئة سياسية) نشر في مجلة (الناقد) في العدد 61 تموز 1993. جاء فيه (( إذا لم تنجح الضغوط في حمل كندا على إلغاء هذا القرار بسرعة، فمن المتوقع أن تهرب معظم النساء المسلمات من معظم بلدان المسلمين ، وتتصاعد ( قضية المرأة) من معركة تدور بين أربعة جدران إلى حرب دولية مؤهلة للعرض على مجلس الأمن)). فهل ستتطور (معركة الحجاب) اليوم وتتحول إلى (أزمة دولية) بين العالم الإسلامي والعالم الغربي الأوربي...؟ ربما.
في مقاله( المسلمة لاجئة سياسية) يحمل الصادق النيهوم جريمة اضطهاد المرأة في المجتمعات الإسلامية، للذهنية الإقطاعية التي تحكم هذه المجتمعات، وليس للإسلام ذاته ، كدين وعقيدة. فهو يقول: (( ... عمد الإقطاع إلى تسخير المرتزقة من رجال الدين في تفسير الشرائع طبقاً لمنهج احتيالي قائم على تبرير الظلم تبريراً أسطورياً بحتاً. وهي كارثة وقعت باسم جميع الأديان في جميع العصور. وعرفها تاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام على حد سواء. ولم يوضع لها حد في حضارة الغربيين المعاصرة، بإلغاء نصوص الشريعة، بل بضرب نظم الإقطاع خلال حروب أهلية واسعة النطاق)).يبدو أن المجتمعات العربية والإسلامية مقبلة على مثل هذه الحروب و الصراعات الأهلية بين (الأصولية الإسلامية) التي تسعى لإقامة نظام إسلامي تتحجب فيه الدولة والمرأة معاً وإعادة التاريخ إلى الوراء، من جهة أولى، وبين القوى (العلمانية ) والفئات المستنيرة في هذه المجتمعات التي تريد أن تحرر الإنسان والمجتمع والسياسية من النظام الإقطاعي المستبد والفكر الديني الغيبي من جهة ثانية. وقد أزداد من احتمال اندلاع مثل هذه الحروب، بلجوء الحركات الإسلامية إلى خيار العنف والإرهاب واستخدام السلاح، حتى ضد أكثر الدول تشبثاً بالإسلام( السعودية)، كوسيلة وأسلوب لتحقيق أهدافها وشعاراتها.
الحجاب قطعة قماش. أم سلاح أيديولوجي..؟:
بدخول القوى الدولية العظمة، في مقدمتها (الولايات المتحدة الأمريكية)- المتضررة من نهج الحركات الإسلامية المتطرفة والمتشددة ومن عمليات العنف والإرهاب التي تقوم به- على خط الصراعات والخلافات السياسية داخل المجتمعات العربية والإسلامية، زاد من مخاطر الاصطدام بين (الأصولية الإسلامية) و(الأصولية العلمانية) الغربية، ومن احتمالات اندلاع (حرب كونية) شاملة جديدة. هذا إن لم تكن شرارة هذه الحرب قد انطلقت بالفعل مع هجمات أيلول 2001 الانتحارية على كل من نيويورك وواشنطن، وبدء الحملة العسكرية الأمريكية البريطانية المضادة على ما سمته بـ(الإرهاب الدولي) وإعلان بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة الإسلامي المتطرف، الذي نفذ تلك الهجمات، بأن ما يقوم به تنظيمه هو(حرباً وإرهاباً) محموداً على ما سماهم بـقوى (الكفر العالمي) وهو يدعو في كل خطبه جميع المسلمين في العالم إلى الجهاد والقتال ضد الولايات المتحدة الأمريكية وضد جميع الأنظمة العلمانية في العالم العربي والإسلامي التي يعتبرها حليفة لأميركا والغرب. في سياق هذه الحرب الدائرة بين إرهاب (التنظيمات الإسلامية) المتطرفة، والقوى العالمية المناهضة للإرهاب ، يمكن تفهم وتفسير الأبعاد الحقيقية لـ(معركة الحجاب)على فرنسا. فقد أرادت (الأصولية الإسلامية) أن تجعل من (الحجاب) سلاحاً أيديولوجياً لتغزو به العالم و تحويل وجه المرأة المسلمة البريء إلى ساحة قتال وحرب وانتقام ممن تعتبرهم أعداء الإسلام والمسلمين. إنها معركة سياسية في جوهرها وأبعادها الحقيقية، الهدف منها تحويل (الأقليات المسلمة)، الهاربة من أوطانها إلى أمريكا وأوربا، إما لأسباب سياسية أو اقتصادية، إلى ورقة ضغط سياسية واقتصادية واجتماعية على هذه الدول، ولأجل هذا يحاول (الإسلام السياسي) اليوم تعبئة الشارع العربي والإسلامي ضد الغرب الأوربي وأميركا، ذلك من خلال تضليل الرأي العام العربي والإسلامي وإيهامه، بأن المقترح الفرنسي يأتي في سياق (مؤامرة أمريكية/ غربية) كبيرة تستهدف الإسلام والمسلمين معاً، خاصة بعد (حرب الأفكار) التي أطلقتها الإدارة الأمريكية على المدارس (الدينية الإسلامية) التي تغذي الإرهاب وتنشر ثقافة العنف وتحرض على القتل والعمليات الانتحارية. وقد كشف وزير الدفاع الأمريكي (دونالد رامسفيلد) عن (حرب الأفكار) هذه بالقول: ((أن هزيمة الإرهاب لا تتم بالقوة العسكرية وحدها، وإنما بـحرب الأفكار أيضاً)). كما أكدت ( الينا رومانسكي) مسئولة (( برامج مبادرة الشراكة الأمريكية- الشرق أوسطية))، في محاضرة لها في العاصمة القطرية في أيلول الماضي، على ضرورة أن تضغط أمريكا على الدول العربية والإسلامية التي ترى أنها مصدر لتفريخ الإرهاب، لتغيير وتطوير مناهج التعليم لديها، لتنقيتها من كل ثقافة وفكر من شأنه التحريض على الإرهاب والعنف والتطرف بكل أشكاله.
أخيراً:
نسأل هؤلاء أصحاب الحملة الإيمانية: ما هو موقفهم من القوانين العلمانية لـ(الدولة التركية) المسلمة الرافضة بشدة لظاهرة الحجاب، فلم نسمع احتجاجات وتظاهرات إسلامية عندما منعت نائبة تركية متحجبة من دخول البرلمان التركي، ومعلوم أن الغالبية الساحقة من الشعب التركي يدين بالإسلام ويقود الحكومة التركية حالياً حزباً إسلامياً. ولا بد من أن نذكر أصحاب الحل والعقد من رجال الدين والسياسة المسلمين،بأن دساتير وتشريعات الكثير من الدول العربية والإسلامية، مازالت تتضمن قوانين ومواد تمييز بين المواطنين على أساس الدين، خاصة بالنسبة للسلطة والحكم، فالحاكم يجب أن يكون مسلماً. ثم ما هو رأيهم بالظلم والقهر الذي يلحق بـ(المرأة المسيحية) في العديد من الدولة الإسلامية جراء تطبيق الشريعة الإسلامية وفرض الحجاب عليها، كما هو الحال في (الجمهورية الإسلامية الإيرانية).
سليمان يوسف يوسف.... كاتب .. سوري....... مهتم بمسالة الأقليات.