إن تطور العلوم والمعارف الإنسانية وتقدمها يرتكز على العقل ، فلا علم بلا عقل يختبر بالاستناد إلى الحواس والأدوات الفنية المساعدة لها، ولا علم بلا عقل يرجع إلى قوانين المحاكمة والمنطق . وهكذا اتجه المفكرون إلى العقل يصقلونه ويتسلحون به ، والى الطبيعة يدرسونها ويتعلمون منها ، واستخدموا ذلك في البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية ، وفتحوا الأنظار على النقص الهائل في هذا المجال . واشتقوا طرقاً للإصلاح في مجال السياسة والاقتصاد ونظام الدولة والنظام الاجتماعي وتحسين مستوى رفاه الإنسان وتقدمه .
بدأ يزداد اهتمام الإنسان بالإنسان في مطلع العصور الحديثة . واهتمام الإنسان بالإنسان أدى إلى الاهتمام بالبحث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية . ومن ذلك العهد بتنا نرى المفكرين منصرفين إلى البحث والتعاون البحثي في هذا المجال ، تحثهم فكرة أساسية هي : أن الإنسان يقوي الإنسان ، والإنسان وسيلة وغاية قي تطور الإنسان والمجتمع البشري . فيكون الناس جميعاً وسائل وغايات لبعضهم البعض باعتبار أن لكل إنسان حقوق وعليه واجبات . كانت الأمة العربية ، في عصور ازدهارها وتألق حضارتها ، من الأمم التي أعطت اهتماماً وتشجيعاً ودعماً للبحث العلمي ورعت العاملين فيه ، كما أسهم العلماء العرب في وضع أسس ومنهاج البحث العلمي . وقد فتح العرب آفاقاً في العلوم الأساسية والتطبيقية لم يسبقهم إليها أحد ، وتعلم على أيديهم من حملوا لواء النهضة العلمية والتقانية الحديثة في أوروبا . لقد تلازم غياب شمس حضارة العرب مع ضعف الاهتمام بالبحث العلمي في أغلب أقطار الأمة ، حيث عاش العرب عصوراً من الظلام أو الضياع أو التشتت تحت نير الاستغلال أو الاضطهاد الأجنبي . [1]
عندما يفكر المفكر يتخلل تفكيره عامل الوعي والإدراك لمعنى عمله اجتماعياً وتاريخياً . ولذلك نجد في المفكر أديباً كان أو عالم اجتماع أو شاعراً أو اقتصادياً أو فيلسوفاً - مزيجاً من التفكير الخيالي حول ما يجب أن يكون والتفكير بما يمكن أن يكون نسبة إلى الوضع التاريخي. وكثيراً ما نجد في المفكر الواحد مزيجاً مما يخدم القديم والجديد ، لأن المفكر قلما يسائل نفسه من يخدم اجتماعياً وتاريخياً بعمله، بل هو قد يظن نفسه ينهض بشيء، فتكون النتيجة غير ما ظن وما نوى. (كان لوثر مثلا", ينعت العقل بأقبح النعوت:(مومس الشيطان ), (عروس الشيطان), (أعدى أعداء الله )الخ ... ومع ذلك فأن الإصلاح الذي كان لوثر رأس دعاته في الكنيسة خدم العقل وحق العقل في المحاكمة والبحث الحر , وعلى هذا يكون للتاريخ منطق غير منطق الأفراد , وإرادة الأفراد.
وقد يتفق أن يكون تفكير المفكر غير صحيح كل الصحة ، من حيث الحقيقة التاريخية أو العلمية ، ثم لا يمنعه ذلك من أن يؤثر أثره إذا استطاع أن يتناول الجماهير ويحركها . فالمهم في قيمة الفكر - بصفته مؤثراً تاريخياً - هو أن تقبله الجماهير وتعمل به . ولاشك أن الفكر، كلما ازداد نصيبه من الصحة ، قبلته الجماهير مدى أطول وعملت به . وتلك كانت فرضية روسو مثلاً عن (الحالة الطبيعية) يغلب أنها غير صحيحة من حيث الحقيقة التاريخية . على أن هذه الفرضية وما بنى عليها المفكر الفرنسي قواعد في الحكم والسياسة وافقت مطالب الجماهير الفرنسية ووجدت سبيلها إلى قلوبهم وعقولهم فتأثروا بها في ثورتهم الكبرى . ولما كان هدف هذه الفرضية صحيحاً في ضوء الاتجاه التاريخي وخدمة أهدافه كان البناء عليها أثبت من البناء على أفكار ونظريات كالتي تدعيها النازية مثلاً . [2]
غني عن البيان أن الحديث عن البحث العلمي المعاصر والتعاون البحثي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية يستدعي المزيد من الحديث عن الجهود السابقة التي بذلها الباحثون في الماضي ، فكانت آراؤهم ومذاهبهم أشبه بمصابيح درج على ضوئها الباحثون المعاصرون . على أن الباحث اليوم يرى في أي تقدم حققته البشرية بذوراً من عصور سبقته حتى بمدى طويل أحياناً . ويتم هنا طرح أسئلة عديدة حول نجاح وقيام الثورة الفرنسية منها :
ـ ما الثورة الفرنسية لولا فتح الأندلس ، ولولا الحروب الصليبية ، ولولا الثورة في البلاد الإنكليزية .
ـ ما الثورة الفرنسية لولا الأديان التي قررت لكل إنسان من الناس ( روحاً ) يناط بها الخير والشر وتناط بها المكافأة والعقاب ، فقررت بذلك أساس (المسؤولية ) الفردية وأساس الحقوق والواجبات .
ـ ما الثورة الفرنسية لولا الأديان التي ألغت الفوارق بين الأقوياء والضعفاء ، بين الأغنياء والفقراء ، بين السادة والعبيد ، فأقامت بذلك بناء الحرية والديمقراطية .
وهذا يوضح لنا التواتر في الأحداث والظواهر حتى في مجال البحث العلمي وبخاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية .
وظهر في أوروبا نتاج خصب من التأليف الفلسفي والأدبي في أصول الفكر والخلق والتعامل الإنساني ، ولمعت في الأفق الأوروبي أسماء كبيره ومهمة في تاريخ تطور الفكر الإنساني مثل غاليلة ومونتين وكوبرنيك ورابليه وجيوردانو برونو ، أسماء بحثت واستفادت من أبحاث من سبقهم في الماضي القريب أو البعيد وتقترن بارسطو وأبوقراط وابن رشد وابن خلدون وابن سينا والمقريزي ولا ننسى من تلك القافلة المجيدة ، ديكارت وسبينوزا ونيوتن وباسكال وغيرهم ، تتبعهم قافلة روسو ومونتسكيو وهيوم ولوك أدم سميت وديفيد ريكاردو وروبرت أوين وماركس وأنجاس وغيرهم من المفكرين الذين أسهموا إسهاماً كبيراً في البحث وتطور العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الأخرى بشكل عام . ويظل الدور الذي قامت به الأندلس العربية . [3] في التعاون البحثي بين العرب والأوروبيين وتلاقح الفكر من أعظم الأدوار.
كيف تتم الانتقالات الفكرية من العرب إلى الأوروبيين أو من الأوروبيين إلى العرب ؟ وما هي المسالك التي تسلكها يعرض لنا هذا السؤال وما فيه من أسباب الصعوبة ، لان تعيين الانتقالات الفكرية في التاريخ أمر بطبيعته يتعذر البت فيه . وقد تتيسر للانتقالات الفكرية مسالك خفية لا يدركها المؤرخون على رغم أهميتها ، أو هم يدركونها ولكن إدراكا عاما غامضا ، يعوزه التدقيق وينقصه التفعيل . ومع ذلك فليس البحث في مسالك انتقال الفكر والتعاون البحثي بين العرب وأوروبا خلواً من كل أساس ، لاشك أن للأندلس دور بارز وهام في الانتقال الفكري من المنطقة العربية إلى أوروبا ، كما أن لحملة نابليون الفرنسية إلى الشرق العربي دور أساسي في نقل أفكار الثورة الفرنسية إلى منطقة الشرق العربي وهذا يوضح لنا بعض المسالك للانتقال الفكري بين العرب وأوروبا .
يلاحظ أن معظم الاختراعات والاكتشافات والمستنبطات التي كانت ضرورة حيوية لنهضة أوروبا انتقلت إلى الأوروبيين عن طريق العرب من الأندلس وشمالي أفريقيا أو صقلية أو سورية في عهد الصليبيين . وبخاصة البارود المادة التي قبس العرب صنعها من الصين وحسنوها لتصبح أقوى وأشد انفجاراً ، كذلك البوصلة التي عرفها العرب من الصين وانتقلت إلى أوروبا عن طريقهم . والورق عرفه العرب من الصينيين أيام عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي تم انتقلت إلى الأندلس وبلغت صناعة القراطيس من القطن والخرق مبلغاً عظيماً هناك . وقوي الترابط الثقافي بين أوروبا والعرب في زمن محمد علي الكبير صاحب النهضة السياسية العسكرية والصناعية والثقافية في مصر . حيث أرسل محمد علي البعثات العلمية إلى أوروبا وبخاصة إلى فرنسا ، وبرزت قافلة من الأدباء والمفكرين الذين استفادوا من التعاون البحثي بين أوروبا والعرب بدأت بالعلامة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي وانتهاءً بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في أيامنا . وإضافة إلى جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وفرح انطون وأديب اسحق وغيرهم .
ومن حسن الحظ أن الطهطاوي كان أحد أعضاء البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا ، والذي يعد من أعمق العقول الشرقية العربية التي استفادت من الغرب ( أوروبا ) كما يتجلى في فرنسا ، وفهمته فهماً واعياً لفضائله وحسناته من وجوه عدة . وقد ترك لنا الطهطاوي كتاباً نفسياً عن رحلته إلى باريس وما تلقاه فيها من علم وثقافة ، وما شاهده وتأثر به في تلك البلاد ، وعنوانه : ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) أو ( الديوان النفيس بإيوان باريس) ( واشترك الطهطاوي أيضاً في نقل القانون المدني الفرنسي بكامله . ونشطت حركة مصرية قوية لتعريب القوانين الفرنسية عامة . وقد ورد في مقالة الدكتور محمد حسين هيكل ما يلي : (وإذا كانت مبادئ الثورة الفرنسية قد تسربت إلى مصر بطريق الحملة النابليونية في سنة 1798، وعن طريق الشبان المصريين الذين أوفدوا إلى فرنسا ثم عادوا إلى مصر ، فقد اتجهت الفكرة إلى تعريب القوانين الفرنسية التي وضعت أيام نابليون ، وعهدت الحكومة إلى جماعة من أفاضل المترجمين المصريين بهذه المهمة . فعرب القانون المدني الفرنسي رفاعة بك رافع ، وعبد الله بك رئيس قلم الترجمة ، وأحمد أفندي حلمي ، وعبد السلام أفندي أحمد) . [4]
إن البحث العلمي كعملية إبداعية وابتكار تتناول شتى أنواع المعرفة لا يمكن أن يستقيم وينمو دون توفر شروطه الأساسية المتمثلة في البيئة الحرة والمناخ الديمقراطي والتراكم المعرفي ، والمقومات المادية والمعنويات العالية . وعلى هذا الأساس تبادر غالبية المجتمعات والدول خاصة المتقدمة منها إلى النظر باستمرار في أمر تطوير أنظمتها التعليمية ومراكز بحوثها وإعادة صياغتها ، (ومن هنا فان ممارسة الحضارة المعاصرة وتملكها والإبداع فيها والمشاركة في صنعها والسعي في إنتاجها وفي الارتقاء بها ، تعني ممارسة العلم ... فليس هناك عمل تنموي خارج منظمة العلم والثقافة ، فتقدم الأمم والمجتمعات في سلم الحضارة المعاصرة ذات الطبيعة العالية والنمطية إنما يقاسان بمدى تملكها للعلوم والتقانة ، وهذه الظاهرة هي الفارق بين الدول المتقدمة والنامية) . [5] وفي ذلك ما يدعو للنظر باستمرار في أمر تطوير أساليب وطرق البحث العلمي وتوفير متطلباته بما يتناسب مع خطط التنمية الطموحة ومع المنجزات المتلاحقة التي وصل إليها العلم كل يوم لرفد عملية التنمية والتطوير). [6]
لم يعد البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ترفا" تمارسه بعض الأمم المتقدمة, وتحتكره المجتمعات الناهضة ولكنه,في واقع الأمر ,ضرورة ملحة تحتاجها البلدان النامية والبلدان المتقدمة على حد سواء. انه إن لم تعن الدول العربية ومؤسساتها العلمية وبخاصة الجامعات بالبحث العلمي فإنها لن تجد حلولا"صحيحة لمشكلاتها العديدة والتحديات الكبرى التي تواجهها . وتكتسب العلوم عن طريق العودة إلى التراث والأصالة العلمية , إضافة إلى الاقتباس والنقل عن طريق التعاون البحثي وهذا ضروري لتقدم البحث العلمي في الوطن العربي وتطوره ليسهم في عملية التنمية لمواجهة التحدي الكبير الذي نواجهه ألا وهو التخلف. [7]
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
[email protected]
------------------------------------------------------------------------------
[1] - د . محمد عثمان خضر ، البحث العلمي في الأقطار العربية ، بحث مقدم إلى المؤتمر الرابع للوزراء المسؤولين عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي، المركز العربي لبحوث التعليم العالي، دمشق 1989 ص 43.
[2] - انظر ، رئيف خوري ، الفكر العربي الحديث - أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي، منشورات وزارة الثقافة دمشق 199.
[3] - نلاحظ ذلك في كتابات لافونتين حين تأثر بكتاب كليله ودمنه الذي نقله أبن المقفع إلى العربية أيام العباسيين ، وقد نقل إلى الفرنسية في القرون الوسطى عن طريق الأندلس العربية فاطلع عليه لافونتين بشهادته واعترافه .
[4] - السياسة الأسبوعية ، 19/3/1927 ، نقلا عن رئيف خوري ، المصدر السابق ص 81 .
[5] - محي الدين صابر ، إستراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت1989 ص 27 .
[6] - د. زكي حنوش ، المصدر السابق ص 196 .
[7] - د . فاخر عاقل ، البحث العلمي في العلوم الإنسانية ، بحث مقدم إلى المؤتمر الرابع للوزراء المسؤولين عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي ، المركز العربي لبحوث التعليم العالي ، دمشق 1989 صـ 140.