حين شنت قوات الجيش الملكي في العراق عملياتها العسكرية ضد المدنيين الأكراد كانت اليافطة والحجة التي زعمها النظام الملكي الحفاظ على وحدة العراق ، رغم ان الاكراد لم يكنوا يطالبون الا بأقرار حقوقهم المشروعة ضمن الدستور العراقي وتحقيق الشراكة الحقيقية في الوطن عملاً لاقولاً وواقعاً لازعماً .
وأستطاعت القوة العسكرية غير المتكافئة ان تنتصر على الشعب الكردي وقيادته التي هربت الى اقصى الارض تخلصا من ملاحقة السلطة الغاشمة والظالمة في العهد الملكي .
وحين سقط النظام الملكي بثورة 14 تموز 1958 ، استبشرت الجماهير العراقية أن قيادة الثورة المتمثلة بالضباط الأحرار ستتفهم حقوق الأكراد ومشروعية مطاليبهم ضمن العراق ، وزادت الفرحة بعودة القيادات الكردية من خارج العراق ، حيث تم أستقبال الراحل الملا مصطفى البارزاني أستقبال الأبطال من قبل الشعب العراقي في الجنوب والوسط قبل شعب كردستان ، ولم تمض سنوات حتى أنقلب قادة الثورة على أماني وأحلام وحقوق الكرد وتنكروا لها وقاموا بدفع قوات الجيش العراقي لقتالهم في منازلة غير متكافئة كانت فيها الجماهير الكردية من جانب ومن الجانب الآخر الجيش العراقي بكل ثقله وميزانه العسكري والبشري في المنطقة ، ولم يكن سبباً أو ذريعة ترفعها السلطة غير وحدة العراق .
غير أن أنقلاباً غاشماً وأسوداً حصل في الثامن من شباط في العام 1963 أنهى السلطة وأستلم حزب البعث الحكم وزعم ان له النية في تلبية حقوق الأكراد وتحقيق طموحاتهم ضمن سياسته في الحكم غير أن قيادات الحزب وبما عرف عنها من سيطرة النوازع الشوفينية وغياب الرأي الآخر وحقوق الأنسان ، تنكرت هذه السلطة ليس فقط للمطالب الكردية العادلة ، وأنما طلبت مساعدة الجيوش العربية للقضاء على الشعب الكردي ولغرض أخماد صوته ومطالبه المشروعة ، لان هذه المطالب تمثل الخطر الكبير الذي يتعارض مع مشروع الوحدة العربية الأجباري أو الشعارات غير الحقيقية التي كان البعث يرفعها في حينه ، وكل مزاعم السلطة كانت الحرص على وحدة البلاد وعدم التفريط بالسيادة وعدم تجزئة الوطن .
وحين انقلب عبد السلام عارف على حزب البعث في انقلاب تشرين 63 ، أنتظر الجميع أن تجنح السلطة الى لغة العقل والمنطق ، وبما عرف عن عبد السلام ومجموعة الضباط المتسلحين بفكر اليمين المتطرف والتعصب القومي ، مالبث أن دفعوا بقوات الجيش العراقي لقتال الاكراد حماية للعراق من التفرقة والتجزئة ولغرض المحافظة على سيادة البلاد .
وأشتدت المعارك وكثرت الضحايا بين جيش عسكري متدرب ومهيأ للقتال وبين شعب يدافع عن كرامته وحقوقه بأسلحة بسيطة وبالأجساد الطاهرة .
وحين راح عبد السلام في حادث الطائرة التي احترق بها وأستلم شقيقه عبد الرحمن عارف السلطة ، كان قد اشار له الحكماء أن يجنح الى العقل والحوار مع الكرد فأستجاب الرجل ، غير أن عودة سيطرة الفكر الشوفيني المتعصب والعروبي الذي لايقبل بغير الفكر الواحد أعاد القتال الى منطقة كردستان دون هوادة غير عابيء بما يقدمه العرب والأكراد من تضحيات وغير عابيء ايضاً بما يطرحه الشارع العراقي والأحزاب السياسية العراقية من تعاطف مع القضية الكردية وسيادة الشعار العراقي ( الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي للاكراد ) والسلم في كردستان يمكن ان يعكس جانباً من جوانب التعاطف الجماهيري مع قضية الكرد في العراق ، ولم يكن للسلطة العارفية شعار سوى المحافظة على وحدة البلاد لغرض قمع الكرد وقتالهم .
وحين انقلب رفاق عبد الرحمن عارف كل من النايف والداوود وغيدان عليه واسقطوه وقاموا بتسليم السلطة الى البكر – صدام ، الذين باشروا القضاء عليهم فوراً ، طرحوا صيغة جديدة للقضاء على القضية الكردية يتمثل في الأعتراف الشكلي في بعض حقوق الكرد ، وبدأت مرحلة تحسس مكامن الخطر والتحالفات السرية للقضاء على المطالب المشروعة للشعب الكردي الذي تنامت حركته من خلال حركته المسلحة والمقتدرة والتي اقامت تحالفات وعلاقات دولية جديدة ومثمرة ونزيهة ، ولم تمض سنوات قليلة حتى تحالف البعث مع شاه أيران مقابل تنازلات مهينة ومخجلة وتمس سيادة العراق وكرامته واراضيه من اجل حصار الكرد والقضاء على حركتهم المتنامية .
وفرح النظام البائد بهذه النتيجة في معركته ضد الشعب الكردي متخيلاً انه انتصر عليه ، وكان يطرح في أدبياته ونشراته وأعلامه أن الكرد أنفصاليون يريدون تجزئة العراق ، وانهم بصدد حماية العراق من التمزق والتجزئة قاموا بكل ما قاموا به ، وأن وحدة العراق هي هاجسهم الأساس وحماية سيادة العراق هي مايدفعهم لمثل هذه المواقف .
وحين انتفض العراق بعد هزيمة الجيش العراقي وقوات صدام في معركة الكويت 1991 وانتفاض العراق على السلطة ، بادر الكرد للأنتفاض ضد سلطة صدام والسيطرة على مدن كردستان بالكامل والتحكم فيها ، ولما أستعاد الجيش الصدامي المدن العراقية الباقية ، عجز أن يقتحم مدن كردستان التي ظلت منيعة ومحمية برجالها .
وبالرغم من كل الظروف الدولية والذاتية التي مرت بها السلطة المندحرة والمهزومة لم يجنح الكرد لأقامة كيان سياسي مستقل عن العراق ، وبقيت الجماهير الكردية التي كانت تعيش حالة الأستقلال الفعلي والحقيقي عن سلطة المركز ، بقيت تشكل الأقليم الكردي للعراق وبقيت أدارة الأقليم بأستقلالية تامة وبجدارة ، ويقيناً أن مايدل على صفاء نية وأخلاص الكرد لوحدة العراق ما أقر به البرلمان الكردي في العام 1992 من اقرار ممثلي الشعب الكردي بالفدرالية كصيغة من صيغ الحكم الدستوري لمنطقة كردستان .
هذه الصيغة تمثل مطلباً شعبياً ينبع من مصلحة العراق ويدفع الى زيادة قوة العراق وتماسكه ، بالأضافة الى كونه يمثل حلاً أساسياً وشاملاً للقضية الكردية .
والمتمعن في تاريخ العراق الحديث سيجد أن جميع الحركات العسكرية التي أقدمت على مقاتلة الشعب الكردي وغمط حقوقه المشروعة كانت تتستر بشعار وحدة العراق .
فجميع السلطات التي قاتلت الكرد لم يكن للمحافظة على وحدة العراق كما تزعم لأنها تعرف أن سيادة العراق محفوظة ووحدة العراق يزيدها الأكراد قوة في تحقيق حقوقهم وكرامة العراق من بقائهم ضمن العراق في فيدرالية يقرها الدستور ويلبي مطلبهم البرلماني والشعبي الذي ذكرناه ، ولن يزيد سيادة العراق ماتنازلت السلطات الساابقة لدول الجوار ومارضخت لمطالب دول أخرى وماتنازلت لدول من اجل أن لاتعط للكرد حقوقهم .
وبالرغم من كون السلطات التي تعاقبت على حكم العراق منذ العام 58 ولحد سقوط الطاغية وحتى بداية الحكم العراقي الدستوري المنتخب لم تكن تمثل السلطة الدستورية الشرعية لغياب المؤسسات الدستورية التي أوجدها الشعب الكردي بالأنتخاب في ظل غياب سلطة صدام .
فهل كانت حقاً هذه السلطات تريد وحدة العراق التي كادت ان تضيع ؟ !!
وهل حقاً كانت هذه السلطات تدافع عن وحدة العراق وتخوفها من قيام الكرد بتمزيق العراق ؟
المنصف سيجد أن ليس فقط الهدف من كل هذا تخريب العلاقة الأنسانية والشراكة الحقيقية والأخوة الأزلية بين العرب والكرد ، وليس فقط عدم قدرتهم على الأقتناع بحق الشعوب في تقرير مصيرها وحق أختيار شكل الحكم الذي يريده الانسان ، وعدم أيمانهم بحقوق الأنسان ، وانما فوق كل هذا النظرة الشوفينية والأستعلائية التي سيطرت على نوازعهم المريضة وأفكارهم المتخلفة حين ظنوا وتخيلوا انهم يستطيعون القضاء على صوت الشعب الكردي في تحقيق طموحه المشروع والأنساني فسببوا الكوارث الأنسانية لشعب العراق بعربه وأكراده غير عابئين بالضحايا ولابالثروات المهدورة ولابالزمن الذي اعاق العراق عن التطور والتقدم .
ثمة حقيقة لم تزل حتى بعد زوال سلطة الطاغية ، وهي أن افكار الطاغية لم تزل تعشش في عقول بعض الساسة ممن يعتقد حقاً أن نداء شعب الكرد في العراق من خلال مطاليبه العادلة والمشروعة في أقرار الفيدرالية هي تجزئة للعراق ودعوة للأنفصال دون أن يعي حقيقة الفيدرالية ودون أن يعرف تفاصيل وجع الأنسان الكردي وجهاده ونضاله المرير من اجل الحق والحقوق .
ومن الطريف أن تتدخل دول لاعلاقة لها بالقضية العراقية ولابالتاريخ العراقي المشترك للعرب والكرد لتقرر موافقتها أو عدمها على الفيدرالية وكأن اهل العراق باتوا ينتظرون ماتقرره تركيا أو ايران أو مصر أو الولايات المتحدة الأمريكية حتى .
على هذه الدول أن تعي حقيقة أن الفيدرالية ليست مطلباً كردياً وأنما هي مطلباً عراقياً ناضل الشعب العراقي من اجله وقدم التضحيات والقرابين من اجل أن يتحقق .
كما على من لايفهم أسس الفيدرالية أن يطلب من المختصين في بلادة أن يقدموا له الأستشاره عن مفهوم الفيدرالية بشكل مبسط حتى يفهمها انها غير دعوات الأنفصال التي يعتقدون .
ومع كل هذا فأن في الفيدرالية حفاظ لوحدة العراق وسلامة وقوة العراق .
ويقينا ستتحقق الفيدرالية مهما حاول الأقزام والمتصايحين في العراء لأنها مطلب جماهيري قدم الشعب العراقي من اجله الكثير ودفع الثمن غالياً .