لو ظن القارئ أن الحديث سيدور عن واحدة من الظواهر الطبيعية كالبراكين أو الأعاصير أو ارتفاع درجة حرارة الأرض أو حتى الثقب الأسود ... أو ظاهرة تقنية كالفيروسات التي تخرّب دارات الكومبيوتر و برامجه,فلن يكون بعيدا عن الحقيقة. ذلك أن ظاهرة الكتاب الخارج عن الضوابط المعروفة كالمنهج و الثوابت العلمية و المعارف التاريخية المبنية على أدلّة و وثائق تكاد تكون طبيعية في الحياة الثقافية لكثير من البلدان اليوم و خاصّة روسيا .
تصدر في روسيا تباعا سلسلة مجلدات تحت عنوان ( روسيا و روما . هل نفهم تاريخ أوروبا و آسيا فهما صحيحا ؟ ) , صدر منها حتى الآن خمسة مجلّدات في حوالي ثلاث آلاف صفحة , إضافة إلى كتب أخرى كثيرة تتناول الموضوع ذاته , و جميعها من تأليف نوسوفسكى و فومينكو( هناك على , الأقل , إضافة إلى المجلدات الخمسة أربعة كتب من تأليف فومينكو وحده صدرت بين عامي 1990-1996 وكتابان آخران لفومينكو ونوسوفسكي صدرا عامي 1995- و كتاب آخر لهما معا بالاشتراك مع كلاشنيكوف صدر عام 1995-1996 ). و جميعها تهدف , كما يقول مؤلفوها إلى وضع كرونولوجيا جديدة , اعتمادا على التحليل الرياضي , كرونولوجيا تنسف ليس فقط الترتيب العام المعروف للأحداث التاريخية , إنما و تلغي الكثير من الأحداث التاريخية التي لا يجدون لها مكانا في إعادة ترتيبهم للتاريخ . فالسيد المسيح , مثلا , ولد في القرن الحادي عشر الميلادي , أي بعد ميلاد المسيح المعروف بأحد عشر قرنا . ولكن أين هي يا ترى هذه القرون الأحد عشر ؟ لست أدري . فكل ما تقوم به الكرونولوجيا الجديدة أنها تحدث أثرا يشبه أثر عاصفة رملية تعمي العيون , عاصفة يعرفها جيّدا من يعيش في بلاد الرمل و الريح و العطش .أو يكون فعلها أشبه بفعل فيروس يدخل دارات العقل و يخرب بعضا من برامجه و يمسح قواعد فهم التاريخ فيه. ولكن ماذا بعد العاصفة ؟ فثمة أشياء لا بد من الوقوف عندها.
قد تجد من يعترض على قراءة كتاب يخرج عن المنطق العلمي و التاريخي و يكون محقّا في اعتراضه. و لكن ألا يفترض العزوف عن قراءة مثل هذا الكتاب معرفة مسبقة لا تتوافر للكثيرين؟ زد على ذلك , فإن قلّة ممن يقرؤون يبحثون فيما يقرؤون عن وحدة المنهج و عن توافق النتائج مع المقدمات و عن صلاحية المنهج المطروح , إذا وجد, لمعالجة مادّة البحث..الخ.
كما إن الحكم على صحّة الأنساق التاريخية المطروحة و منطقيتها يحتاج إلى معرفة جيّدة بالتاريخ , الأمر الذي لا يمكن أن يملكه القارىء العام المستهدف بمثل مجلدات نوسوفسكي و فومينكو . و حتى الذي يكون على معرفة جيّدة بتاريخه , يصعب أن يعرف بالدقة الكافية تاريخ الآخرين . فمن الجهل أن يدّعي المرء المعرفة بكل شيء. لذلك فثمة طعم لكل قارىء لا بد أن يأكله, بل سيحلو له أكله على خلفية النزاعات بين البلدان و الشعوب والحضارات والرغبة بتوكيد الذات القومية, حينا, و الدينية, حينا آخر, و الشخصية بين هذه وتلك. وهنا تكمن الخطورة . يعزز هذه الخطورة الإيمان بالكلمة المطبوعة المنشورة الذي هو سمة القرّاء , خلا الباحثين منهم , وهو بدرجة كبيرة سمة القارىء الروسي الذي ربّي على مدى عقود عديدة لتقبّل ما يقرأه , ذلك أن في الشك بما يقدّم له خطرا على حياته.
تتصدر مجلدات( روسيا و روما) واجهات محلات بيع الكتب الرئيسة في موسكو التي يزور الواحد منها ما يربو على خمسة عشر ألف قارىء في اليوم . أما حال متاجر الكتب , في روسيا و غيرها , فلا يتيح للراغب باقتناء كتاب فرصة التعرّف عليه جيّدا قبل اقتنائه. فإذن تكون الآلية السائدة( اشتر الآن و فكر فيما بعد!) . و هكذا يشترى الكتاب . أمّا بعد ذلك , فهناك ألف حيلة وحيلة لشد القارىء إلى صفحات مليئة بالألغام , أو لنقل لجرّه إلى الفيروس الذي يمسح العقل و يخرّب ما فيه كما تفعل فيروسات الكومبيوتر . وهكذا كان أن اشتريت المجلدات الخمسة , وبدأت رحلة القراءة التي كانت شيقة إلى حد بعيد . وهنا مكمن خطر آخر .
مؤلفا العمل باحثان في الرياضيات , ويعمل معهما طاقم عمل كبير , كما جاء في المقدمة, يعمل بجد و مثابرة لإنجاز هذا العمل الهام الذي سيغيّر فهم التاريخ . و لكن أي تاريخ ؟ و لمصلحة من يجب أن يتغير فهم التاريخ ؟ و في عقول من يجب أن يتغيّر ؟ أعقول طلاب المدارس و الشباب الذين سيغدو ( روسيا و روما ) قاعدة لمعارفهم المستقبلية ؟ وبعد , إذا كان ما يسمّى بنسف الحقائق التاريخية يصلح لأن يكون هدفا, فلا أظنّه الهدف الذي ينتهي إليه عمل نوسوفسكي و فومينكو. فإلام عساه ينتهي بصرف النظر عن رغبة مؤلفيه؟
نتساءل بداية: هل يصلح البحث في الجهات التي تموّل العمل و تروّج له , أو تلك التي تعاديه للوقوف على الأهداف الكامنة وراء العمل ذاته؟ يكون القارىء , عادة , غير معني بمن ينشر الكتاب و من يموّله و من يروّج له . فما لا يقوله الكتاب ذاته لا يعني معظم القرّاء في شيء . لذلك قد يكون في معرفة أن غاري كاسباروف بطل الشطرنج الشهير هو الذي يموّل الآن طباعة ونشر مختارات من عمل نوسوفسكي وفومينكو إلى الإنكليزية و الفرنسية , - كما أخبرني ف. إيفانوف صاحب دار نشر ( روسكي دفور) التي تقوم بذلك - , و في معرفة أن محطة راديو ( صدى موسكو) التي يملكها اليهودي الشهير غوسينسكي نائب رئيس المؤتمر اليهودي العالمي راحت تبث بصورة أسبوعية على مدى عام كامل برنامجا يتناول العمل المذكور بالنقد . قد يكون في ذلك كله ما يفيد باحثا جنائيا في إثبات تهمة معينة أو نفيها , غير أنه لا يفيد باحثا أدبيا أو علميا في وضع اليد على طبيعة الفعل الذي يمكن للنص المبحوث أن يؤديه . فمن شأن واضعي الأهداف , إذا كان ثمة أهداف مبيتة كما يميل البعض للتفكير , أن يهندسوا ما يشاؤون من أهداف , غير أن العمل – حامل الأهداف قد لا ينتهي إليها , بل قد ينتهي إلى ما يعاكسها . لذلك فلا يكون أمام الباحث( غير الجنائي) إلاّ أن يكون العمل ذاته مرجعه الرئيس .
تقف بنية كتاب (روسيا وروما) وطريقة عرض المعلومات التي فيه حائلا دون قدرة القارئ على توصيف ما يقرأ أو تحديد موقعه في عملية القراءة : فصول صغيرة , طريقة عرض مسلّية , معلومات تتكرر تحت عناوين مختلفة و بصور تكاد تكون متناقضة , بل تكون متناقضة في الكثير من الأحيان , فترهق من يحاول متابعتها وتدقيقها إلى درجة يكفّ معها عن فعل ذلك , لكنّه لا يتوقف عن متابعة العرض المسلّي . فيتابع العمل كما لو كان رواية أو كتابا من جنس أدبي آخر يمكن انتقاء بعض المقاطع أو الفصول منه و إهمال بعضها الآخر. ولكن ما الذي يؤدي إليه ذلك كله؟ سيؤدي ذلك إلى انتهاء البعض إلى استنتاج عن لاجديّة الكتاب , و هذا البعض قد يستخدم بعضا مما جاء فيه للتندر و التفكه . و بعض من ذلك البعض قد يطرح تساؤلات عن أهمية وجود رقابة على المطبوعات , رقابة على نوعية المادة المطروحة في سوق القراءة . فالجميع يتحمسون لمراقبة المواد الغذائية و ضبط نوعيتها , بل لضبط مواصفات جميع السلع الأخرى و مراقبة نوعية المطروح منها للتداول , فلماذا لا يكون الكتاب , كسلعة , خاضعا لرقابة النوعية وهو الذي يمكن أن يصيب العقل بعلل قد تكون أخطر بكثير من تلك التي تصيب الجسد . ذلك ما يقوله بعض الذين كانوا أنصار متشددين جدا لرفع الرقابة عن الكتب و المطبوعات الأخرى في الاتحاد السوفيتي السابق . يقولون : لا أهمية هنا لقانون المنافسة , فهو قانون خبيث يعمل , غالبا , لصالح السلع السيئة المدعومة بإيديولوجيات و رأسمال و دعاية يصعب مقاومتها . و هكذا تضيع الكتابة الجادّة في ركام كمّ هائل من الكتابات التي تنسف جديّة كل شيء . أما البعض الثالث فقد يفقد ثقته بالتاريخ المكتوب , أي بكل تاريخ تقع عليه عينه , وليس فقط بما كتبه نوسوفسكي و فومينكو . و ربما يناقش هذا النمط من القرّاء الأمر على هذه الشاكلة : إذا كان لرجلين اثنين أن ينسفا وقائع التاريخ فأية وقائع هي , وما علاقتها بالحقيقة !؟ وهكذا فثمة من القرّاء أيضا من سيفقد ثقته بمقولة الرادع التاريخي. فعبارات كمثل إن التاريخ لا ينسى , أو التاريخ لا يرحم , أو إن التاريخ لا يخدع ,تهتز , بل تصبح عديمة المعنى . ذلك أن التاريخ يبدو كمجموعة مقولات و وقائع وأحداث داشرة يتطاول عليها كل من لا يثنيه الكسل أو قلّة الحيلة عن ذلك . فقد تجمل أصحاب الوجوه القبيحة و من أين للآتين بعدنا أن يعرفوا كيف كانت في الحقيقة . و قد يصبح جزارو و طغاة اليوم رسل سلام و رحمة غدا . فالاعتقاد بأن كل صاحب سلطان يكتب التاريخ على هواه يهيئ لكل صاحب قلم أن يغيّر التاريخ على هواه أيضا . وذلك ما يقوم به نوسوفسكي و فومينكو حين يحذفان آلاف السنوات و يضغطان التاريخ . فما التاريخ من منظورهما إلاّ تاريخ القرون الثمانية الأخيرة , أما ما يقال عن الحضارات القديمة فكلّه هراء بهراء .
وهكذا , فالمؤلفان لا يترددان بإلغاء حقب وشخصيات تاريخية. فإذا ما ورد في كتب التاريخ , أو النصوص التاريخية أن أحداثا تاريخية وقعت في مكان و زمان ما , و ورد في مصادر أخرى أو في المصادر ذاتها أن أحداثا مشابهة لها , بطريقة أو بدرجة ما , في مكان آخر لشعب آخر وفي زمان قد يكون بعيدا جدا عن زمن وقوع الأحداث الأولى , فمعنى ذلك , وفقا لمنطق نوسوفسكي و فومينكو , أن الحديث , ببساطة , يدور عن الأحداث نفسها و أن أحدا ما من الحكّام ينسب إلى نفسه ما سجّل لغيره من فتوحات وبطولات , أو ينسب إلى غيره ما سجل عليه من هزائم . و الطريف في الأمر أن هذا المبدأ الذي يأخذ بالتشكيك بحوادث التاريخ أساسا له , يجعل المؤلفين يلغيان الأحداث القديمة لصالح الأحدث منها . أما أسماء الملوك والأباطرة والقياصرة فكثير منها وهمي . حتى إن شخصيتين تحاربتا يوما يمكن أن تكونا شخصية واحدة , ف دونسكي و مماي اللذان تطاحنا في موقعة كاليكوفا الشهيرة ليسا إلا الشخص عينه, و الخان باتي و إيفان كاليتا و ياروسلاف الحكيم ليسوا إلا شخصا واحدا , كما إن الكسندر نيفسكي و الاسكندر المقدوني رجل واحد ...
بالنسبة لنوسوفسكي و فومينكو يكون كافيا أن تتشابه الأسماء والألفاظ في لغات الشعوب المختلفة كي تكون هذه الشعوب شعبا واحدا . كما يكفي أن يتشابه مقطع ما من اسمي بلدين متباعدين حتى يكون هذان البلدان في الأصل بلدا واحدا , أو أن يكون قد تبع أحدهما الآخر تاريخيا , أو أن شعبا واحدا , في أحسن الحالات ,هو الذي أعمر البلدين . و تكاد الأمثلة على ذلك تملأ المجلدات الخمسة . فمثلا الآيدا الإغريقية و الهند ( إينديا ) و يهوذا ( إيوديا ) جميعها مشتقة من اسم الأخير . وذلك يعني , وفقا للمؤلفين , أن الهند من اسم يهوذا , و أن طروادة يهودية . مثال آخر ساطع يقول بأن سوريا هي مقلوب روسيا مع انزياح ال ( يا ) , فما دمشق ( داماسك) و موسكو( ماسكفا ) إلاّ اسم واحد . و هكذا فقد جاء تحت عنوان ( دمشق السورية التوراتية و موسكو الروسية ) ( مج 4 , ص 221 ) :" تصبح موسكو بدءا من القرن السادس عشر – وفقا لإعادة ترتيب التاريخ – عاصمة الأوردا الروسية أي عاصمة بلاد الآشوريين ... " ثم يوضحان أن ذلك يعني أنها تصبح عاصمة السوريين . وكان المؤلفان قالا قبل ذلك ( مج3 , ص316) في معرض الإجابة عن أصل سورية القديمة : " سوريا , أسيريا , آشور هي مجرد قراءة مقلوبة لاسم روس , روسيا , راشا , روش التوراتية […] وبالتالي فإن اسم سوريا أطلق على الموقع الجغرافي لسوريا الحالية في فترة الحروب المغولية , أو فترة الأوردا الروسية , وفقا لإعادة ترتيب التاريخ " . ثم يأتي في الصفحة 447 من المجلد نفسه :( يتحول اسم سوريا عند حذف الأحرف الصوتية , مع القراءة المعكوسة, إلى روسيا: سوريا – سر , روسيا – رس . كما يعتقد أن اسم سوريا مشتق من الاسم القديم أسيريا – آسور , آشور و هكذا إذا حذفنا الأحرف الصوتية تصبح سوريا س س ر وتصبح روسيا ر س س . فإذن تظهر أسماء روسيا الثلاثة : روسيا و روس , و راشا في اسم سوريا بصيغه الثلاث: أسيريا و أسور و آشور " . ألا يغري ذلك كلّه بمسك الطرف الآخر للخيط مما يجعل روسيا سوريّة , و يصبح واضحا عندئذ لماذا أرسلت سوريا , في حينه, آلافا مؤلفة من الطلاب لمتابعة تحصيلهم العلمي في مقاطعتها – روسيا , و لماذا وقفت سوريا , آنذاك, مع دخول الجيش الروسي إلى أفغانستان . فلا يعقل ألا يقف البلد مع نفسه في الحرب مع الدوشمان الذين تحوّلوا إلى الطالبان ! , كما يغدو واضحا لماذا يتزوج آلاف السوريين- و أنا واحد منهم- من روسيات فهل هناك ما هو أفضل من الزواج من ابنة العم ! . و بعد , فلماذا لا تكون طروادة هندية !؟ ( مع أن الذين انتصروا في حرب طروادة هم العثمانيون , وفقا للتاريخ الجديد الذي كتبه نوسوفسكي و فومينكو) , أو لماذا لا يكون يهوذا هنديا , قتل المسيح دفاعا عن دين بوذا؟
بالعودة إلى المجلد الثالث نجد أن المؤلفين لا يكتفيان بروسنة سوريا فشقيقتها مصر روسية كمثلها أيضا . جاء في الصفحة 469 من المجلد المذكور " إن أوريوس الأرض الملكية ( أرض القياصرة) , التي تصوّر غالبا على رأس الفرعون , هي كذلك مشتقة من كلمة : روس , روسي - دون أحرف صوتية – فقد تحولت رسك فيما بعد إلى اللاتينية ريكس – ملكي و هكذا تكون فرضيتنا هي التالية : إن الشركس , أي القوزاق المملوكيون , الذين حكموا مصر في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي – هم الهكسوس المشهورون في تاريخ مصر ( القديمة) . فحملة الهكسوس واحدة من الصور الواقعية العظيمة للحروب المغولية في القرن الرابع عشر الميلادي . ثم إن الهكسوس بنوا في هذه الفترة – في القرن الرابع عشر الميلادي- تمثال ( أبو الهول) الكبير في مقبرة الجيزة المسيحية , أي في المقبرة القوزاقية , في أرض الأهرامات كرمز مسيحي لهيروئيم . " أما دليلهما في ذلك فقرب كلمة ( سفينكس – أبو الهول) من اسم طائر ( فينكس ) الذي يأتي ذكره في الأساطير و الحكايات الروسية . و هكذا يكون أبو الهول – كما يكرران في الصفحة 483 من المجلد الثالث نفسه – قد بني في القرن الرابع عشر الميلادي , أي بعد أربعة آلاف سنة مما هو وارد في الكرونولوجيا المعروفة . و بعد :" الهرم الأكبر, برأينا , بني ليس قبل نهاية القرن الرابع عشر الميلادي , أي في عهد أسرة السلاطين – الفراعنة العثمانيين ." ثم ينتهيان في الصفحة 501 إلى الاستنتاج التالي :" على الأرجح , بني أبو الهول والأهرامات الثلاثة في نهاية القرن الخامس عشر – القرن السادس عشر الميلاديين كرموز مسيحية . و ربما تكون الأهرامات الثلاثة تجسيدا للثالوث المسيحي ..." و في موضع آخر (مج3, ص26) : " هناك تفسير آخر محتمل , هو أن الهرم الأكبر يجسّد تابوت الرب , أي تابوت المسيح . أما الحجم الهائل لهذا الصرح فيرمز إلى قوة الإمبراطورية المغولية التي بنته ."
الأمثلة المغرية في مؤلفات نوسوفسكي و فومينكو أكثر بكثير من أن تذكر , لكن الكثير منها أسطع من أن يهمل فاسم دولة السومريين (مج5,ص154) من اسم سمارا المدينة الروسية . كما أن أصل الساموراي اليابانيين من قوزاق سمارا أيضا . أما المكسيك (ص164) ف "من الواضح أن اسمها يتضمن لفظ موسكو" . ليس ذلك فقط , إنما المايا (ص165) " الموجودون حاليا في غواتيمالا هم أصلا من قازان وموسكو ".
أما فلسطين الجريحة التي سنختم بها أمثلتنا فما هي إلا روسيا البيضاء(154) " فاسم فلسطين المعروف ( باليستينا) جاء من بال القريبة جدا من بيلي ( أبيض بالروسية ) و ستان(محطة) . و غير مستبعد أن يكون المقصود هنا بيلايا أوردا , أي بيلايا روس , أي روسيا البيضاء " . وأما فلسطين هذه فليست القدس التي فيها هي أورشاليم الحقيقية , إنما الأخيرة هي اسطنبول: " أورشاليم = طروادة= قسطنطينية= روما الجديدة"(مج3,469) , و" بالطبع يجب أن نتذكر أنّه كان هناك في البدء أورشاليم واحدة , تمت فيها أحداث التوراة في القرن الحادي عشر الميلادي , إنها المدينة القيصرة على البوسفور "(مج4,ص392) و هيكل سليمان مبني هناك , و أرض الميعاد هي الجزء الشمالي من حوض المتوسط إضافة إلى تركيا , أي تركيا و أوروبا . لكن ليس في ذلك ما ينقذ فلسطين فهما يعودان ليقولا في غير مكان ما معناه بأن أرض الميعاد هي حوض المتوسط بأكمله , بل ما هو أكثر من ذلك فما " طوفان نوح , إلا رحلة واحد من أسباط إسرائيل [..] الذين تحركوا في القرن 14-15 الميلادي باتجاهات مختلفة من الأوردا الروسية لاستعادة أرض الميعاد , أي أوروبا وأمريكا "(مج5, ص140) . ثم يتبين في الصفحة التالية أن خروج اليهود من إسبانيا , لم يكن إلا خروج جيش اليهود إلى أمريكا , وينتهي إلى أن " كولومبوس كان يهوديا"(مج5,ص142) وكان زعيم سبط إسرائيلي .
وبعد , يتساءل المرء لماذا يغدو كتاب( روسيا وروما..) ممكنا الآن ؟ فليس في الكتاب مؤشر على مؤلفه فقط , بل على الزمن الذي كتب فيه . فثمة فومينكيون في كل أمّة يظهرون في لحظات ضعفها , يحاولون نسج إمبراطورية من كلمات متقاطعة . لكن ذلك لا يغيّر في واقع الضعف شيئا . وهنا يحضرني فومينكيونا الذين يحلو لهم الإمساك بالطرف الآخر للخيط و جعل العالم كله عربيا على غرار ما فعل فومينكو , فأقول ما كنت قد عبّرت عنه سابقا في مقال ( الذات الضائعة بين التاريخ و الأيديولوجيا)(جريدة تشرين,2001,3,10) أن يكون العرب قد أعمروا أوروبا يوما , وأن يكون اسم أوروبا من اسم عروبة , لا يجعلنا ذلك أقوياء اليوم و لا يكفينا لأن نكون أقوياء غدا . وللأسف, إذا كان يصح الأسف هنا, فإن أوروبا تلك لسنا وحدنا من ينسبها إلى نفسه , فثمة, إضافة إلى فومينكو الروسي , فومينكي يهودي يفعل ذلك , فقد جاء في مجلة ناش سوفريمينك (2000,5) أن الكاتب اليهودي ميخائيل تشولاكي يقول بأن اسم أوروبا( الروس يلفظونها يفروبا) من كلمة( يفري) أي يهودي .
أما بالنسبة للروس, فلن تعيد( إمبراطورية مغولية روسية عظيمة كانت يوما ) شيئا من الإمبراطورية السوفيتية الضائعة . أما الفعل الأخطر الذي يؤديه عمل نوسوفسكي و فومينكو فهو نسج وهم على مساحة آلاف كثيرة من الصفحات عن وجود إمبراطورية روسية عظيمة و فتوحات روسية كادت تشمل العالم كله بما في ذلك أمريكا و الصين .. بيد أنه لا روس في إمبراطورية الروس . فالروس , حسب الكتاب , هم المغول , هم التتر , هم الصينيون , هم الأتراك ... أما روس اليوم فليسوا أكثر من حملة الدين الأرثوذكسي , أي الشعب الذي لا يتعدى عمقه التاريخي عهد حكم أسرة رومانوف ( 1613-1917) . والأهم من ذلك أن التاريخ الذي أعيد ترتيبه يجعل من روسيا أرضا للأتراك و للصينيين و للمنغوليين... لجميع أعضاء الإمبراطورية العظيمة, أي هو يهز مفهوم الوطن الروسي في عقول مواطنيه و يهيئ ( تاريخيا) لتطاول الجوار على روسيا الضعيفة اليوم . أو أن هذا التاريخ الجديد, على الأقل, يمسح العقول بانتظار أيديولوجيا جديدة لن يكون فيها للروس خير.
هكذا يوضع السم في طعام لذيذ . و هكذا يدخل الفيروس بالحيلة بما يوافق متطلبات برنامج روسيا اليوم . المطلوب روسيا عظيمة , فلتكن عظيمة , و لكنها لن تكون روسية , بل و سيكون على الروس أن يدفعوا ثمن تسبب أسرة رومانوف بانهيار الإمبراطورية العظيمة التي كان اليهود جزءا هاما منها . فكل سبط من أسباط إسرائيل كان جيشا من جيوش تلك الإمبراطورية المغولية العثمانية التي أضاعها الروس و ينتقم لها الآن نوسوفسكي و فومينكو و أعوانهما .