أصدر مجلس الحكم بيانا صحفيا غير مهم ، ما كانا له أن يصدر منه ، حتى لكأن المجلس أراد أن يذكر الناس في العراق بقرارات مجلس قيادة ثورة صدام الساقط ! أو بمهازل مكارم السيد الريس حفظه الله ! والتي كان من بين تلك المكارم ( المهازل ) دجاجة واحدة تمنح لكل أسرة عراقية بمناسبة أحد الأعياد !
واليوم يعود مجلس الحكم ، ويهب بما لايملك ، فيمنح رئيس جمهورية العراق السابق ، عبد الرحمن محمد عارف ، الذي سلم مفاتيح القصر الجمهوري لصدام والبكر في ثورتهم البيضاء ! راتبا تقاعديا مقداره ألف دولار أمريكي شهريا ، ومع مكافأة مقدارها خمسة آلاف دولار أمركي ، مع العلم أن عبد الرحمن عارف قام بجريمة بشعة ، و هو مطالب بدماء زكية سالت على أرض كلية التربية من جامعة بغداد في مطلع سنة 1969 م ، فقد أمر قواته المتمركزة في وزارة الدفاع بضرب الطلبة المضربين في تلك الكلية ، وبمختلف الأسلحة ، وذلك حين استباحت أربع مدرعات عسكرية اسماؤها على التوالي : عمر ، ابو بكر ، عثمان ، علي ، حرم الكلية ، وأسقطت ثلاثة طلاب وطالبة جرحى ، جرح أحدهم كان بليغا ، والطلاب هم : يحيى من الموصل ، أنور من أربيل ، عبد الحسين من بعقوبة ، بالاضافة الى الطالبة : ميسون من الديوانية .
لقد استمرت قوات عبد الرحمن عارف بقيادة آمر ألانضباط العسكري ، تصبب رصاصها على الطلاب الذين تحصنوا في اقسام تلك الكلية لساعات ، على الرغم من أن ممثلي الطلبة اتصلوا به شخصيا ، لكنه لم يحرك ساكنا ، ثم عُرض الطلاب بعد ذلك لعملية امتهان قاسية، نالهم فيها ضرب مبرح ، بعدها نقل جنوده أكثر من خمسين طالبا منهم الى أقبية دائرة الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع ، وعُرضوا فيها لصنوف من التعذيب الوحشي ، وكان النظام العارفي يتصور أنه سيخيف الحركة الطلابية بتلك الأعمال الهمجية . وبعد يومين من ذلك صعّد الطلاب مواجهتم مع النظام ذاته ، وذلك بالتجمع عند أكاديمية الفنون الجميلة ، والانطلاق بمسيرة احتجاجية صوب رئاسة جامعة بغداد ، لتسليم رئيسها عبد العزيز الدوري مذكرة احتجاج على الأعمال الوحشية التي قام بها الجيش ضد الطلاب ، والسكوت المطبق الذي لاذ به رئيس الجامعة نفسه على تلك الانتهاكات القمعية .
لقد حاولت الأستخبارات العسكرية منع قيام مثل هذه المسيرة بكل ما أتيت من أساليب ، وذلك بمنع توجه الطلاب من كلياتهم الى نقطة التجمع التي حُددت لانطلاق تلك المسيرة ، خاصة وأن جميع كليات جامعة بغداد قد انضمت الى الأضراب تضامنا مع طلاب كلية التربية التي انطلق الأضراب منها .
لقد فوت الطلاب الفرصة على مخابرات عارف العسكرية ، وذلك من خلال التوجه الى نقطة التجمع على شكل مجموعات صغيرة ، لا تتعدى الأربعة اشخاص ، وحين انطلق المسيرة الكبيرة صوب رئاسة جامعة بغداد صرخ مسؤولو دائرة الاستخبارات العسكرية بوزارة الدفاع بدورياتهم العاملة في مناطق باب المعظم والكسرة والوزيرة : كيف مرّ الطلاب؟
كان رئيس الجامعة قد فرّ من الباب المطل على نهر دجلة قبل وصول المسيرة الى مبنى رئاسة الجامعة ، والتي كانت بنايتها في الأساس هي البلاط الملكي ، ساعتها لم يبق أمامنا إلا المطالبة باستقالة رئيس الجامعة ، ولهذا فقد دوى هتاف الطلاب : ( كوم استقيل يا عزيز الدوري !) ثم رفعني طالبان على ظهريهما امام باب مقر رئيس الجامعة ، والقيت أنا قصيدتي التي نظمتها قبل ليلة على مسامع ألالاف من الطلبة ، وأمام عدسات كامرات عملاء المخابرات العسكرية العارفية ، وقد كان منها هذا البيت العالق في الذاكرة :
لا خير في هذا الشجاع وسيفه
إذ راح يقتل في بنيه ويعقر
وقد أعقبني من الطلاب خطباء وشعراء ألقوا بخطبهم وقصائدهم قبل أن يقرر الطلاب الانطلاق في مسيرة صامتة صوب شارع الرشيد ، لكنها تحولت الى صائتة فيما بعد حين اصطدمت بجنود النظام ودباباته عند وزارة الدفاع ، حيث جرت اشتباكات عنيفة بين الطلاب وبينهم ، وقد تعرف علي وعلى زميل آخر ازلام مخابرات عارف ، ففررنا من بين أيديهم ، ودخلنا سوق هرج ، ومنه الى أزقة الحيدرخانة التي نعرف التحرك بها جيدا ، ومن هناك ركبنا أنا وزميلي سيارة نقل سوية . أنا الى البصرة ، وزميلي الى أهوار العمارة ، وفي الطريق عزمت على المضي الى جامعة البصرة لالقي قصيدتي ذاتها فيها ، بعد أن اضفت لها أبياتا على مقدمتها منها :
للبصرة الفيحاء جئت أبشرُ
صوتا يهزّ الظالمين ويقبرُ
أمُّ الرشيد تضرجت بدمائنا
أفما أتاك حديثها والمخبرُ
وبعدها انحدرت أنا الى أهوار الناصرية ، وبقيت فيها شهرين ، ثم عدت الى بغداد ، وكان الاضراب ما زال متواصلا في جامعتها .
هذه الأحداث التي رويتها على هذه العجالة جرت في عهد عبد الرحمن عارف ، وفي عهد معاون مدير مخابراته العسكرية ، والقريب من دوائر المخابرات الغربية ، المرحوم عبد الرزاق النايف ! كما يترحم عليه مجلس الحكم ، في بيانه الصحفي المرقم 188 ، وبطريقة تستفز مشاعر مئات الالوف إن لم أقل الملاين من ضحايا النظام العارفي ، فعبد الرزاق عارف هو الذي قال مرة من انه مستعد لتسليم بغداد الى الصهاينة وغير مستعد لتسليمها لقوى اليسار ، وأضاف أنه سيحرق بغداد إذا جرى منهم ( اليسار ) تحرك لاستلام السلطة! وهو الذي أتى بالبكر وصدام الى القصر الجمهوري في ثورتهم البيضاء ! وذلك بعد أن أختبرت الدوائر الغربية ، الانجليزية والأمريكية ، قوة اليسار العراقي وقتها ، وخاصة جماهيرية الحزب الشيوعي وتصاعد شعبيته ، فسمحت سنة 1968 م باجراء انتخابات طلابيه في عموم جامعات العراق ، والتي فاز فيها ممثلو الحزب الشيوعي بنسب بلغت التسعين في المئة ، تلك النسب التي افزعت تلك الدوائر في العراق ، وأوعزت للنظام العارفي بالغاء نتائج الانتخابات على عجل ، تزامنا مع حملة شرسة شنتها صحافة النظام نفسه على الحزب الشيوعي صبيحة اليوم الثاني على ظهور نتائج الأنتخابات ، حتى أنني لا زلت أتذكر تعليق الدكتور داود سلوم ، استاذ النقد في كلية التربية على تلك النتيجة بقوله : يا جماعة هل استولى الحزب الشيوعي على ثانويات العراق ، فكل الطلاب يأتون الى جامعة بغداد ، وهم يحملون افكارا شيوعية !
وباعتقادي أن نتيجة الانتخابات تلك هي التي عجلت بصناعة الثورة البيضاء ، ثورة17-3. من تموز ! كما كان يحلو لطبول اعلام بعث العراق أن يسميها ، وذلك من خلال ركائز المخابرات الغربية في الجيش العراقي ، وبالتعاون مع خلصائها في حزب البعث ، خاصة وإن النظام العارفي كان على درجة كبيرة من الضعف .
واليوم يُعطى عارفا ألف دولار ، وزوجة عبد الرزاق النايف خمسمئة أخرى منها ، في وقت لا تزال فيه آلاف من ألأسر العراقية التي نُكبت بآبائها وأبنائها ، زمن النظامين : العارفي والصدامي ، تعاني الفقر المدقع ، وتعيش مشردة في وطنها ، وهي لا تملك حتى سقفا تستظل به من حرّ ، أو تحتمي به من قرّ ، فلماذا يجازى المسيء ويحرم البريء يا مجلس الحكم ؟ ثم لماذا تشغلون أنفسكم بأمر تافه كهذا ؟ أما كانت مديرية التقاعد العامة هي الأولى به منكم ؟ ثم لماذا بالدولار ؟ فهل تريدون التقليل من قيمة العملة الوطنية ( الدينار ) في أعين الناس أم أن مجلسكم لا يثق بسعر صرف دينار عمل هو على اصداره؟
لقد قيل إن الدكتور أياد علاوي هو الذي اقترح على مجلس الحكم مضمون بيانه الصحفي المار الذكر ، والحقيقة ليست هذه ، فعارف والنايف ورغم تعاونهما مع الأمريكان إلا انهما كانا من ضحايا أمريكا في العراق ، حين اقتضت مصلحة أمريكا ألاتيان بنظام بطش وقتل تمثل بنظام البكر – صدام ، وذلك من أجل تحقيق أهدافها في العراق ، وفي المنطقة عموما ، ولهذا فقد جاءت اشارة صرف الراتب التقاعدي من بريمر كرد اعتبار لاعوان أمريكا المضحى بهم ! وعلى حسن نية فقد حمل علاوي الاشارة هذه من بريمر كاقتراح الى مجلس الحكم !