كثرت في الآونة الأخيرة التآليف والاطروحات التي تحمل في عنوانها بالذات كلمة النهاية: نهاية التاريخ, نهاية الايديولوجيا, نهاية الثورات, نهاية الدولة, نهاية الأمم, الخ. هذا الكتاب الجديد عن (فناء السياسة), لمؤلفته مريم ريفو دالون, أستاذة الفلسفة السياسية في جامعة روان الفرنسية, يبدو للوهلة الأولى وكأنه يندرج في السياق نفسه. ولكنه في الواقع, إذ يستعيد الأطروحات المتداولة في الحقل الايديولوجي والثقافي لعصر العولمة عن نهاية السياسة, أو على الأقل عن انكماش دورها مقابل تضخم دور الاقتصاد, وتحديداً اقتصاد السوق, فإنما ليخضعها للمناقشة وليشكك في مصداقيتها. وقد كان يمكن للمؤلفة ان تتفادى الالتباس في ما لو جعلت عنوان كتابها, لا (فناء السياسة), بل (حول فناء السياسة). فانطلاقاً من رفض (منطق النهايات) الشائع اليوم, فإنها تؤكد على حيوية السياسة وعلى قدرتها المدهشة على تكوين نفسها في تراث على رغم أنها لا تزال في (مقتبل العمر) ان جاز التعبير. فالسياسة هي بنت الديموقراطية, وبصفتها كذلك فإنها لم تفعل سوى ان تولد. وسقوط جدار برلين عام 1989 لم يكن مؤشراً على دخولها في طور الشيخوخة الهادئة و(البيات الشتوي), كما يؤكد المنطق المبطن لدعوى فوكوياما في (نهاية التاريخ), بل يمكن اعتباره بمثابة ولادة ثانية لها, أو حتى ثالثة. فقد كانت الولادة الأولى للسياسة يوم اخترع الاغريق الديموقراطية كنظام للحكم في أثينا في القرن الخامس ق.م. فإلى حين لحظة كليستانس, ومن بعده بيريكلس, لم يكن ثمة وجود للسياسة. ففي امبراطوريات مصر وفارس وما بين النهرين كان هناك نظام للحكم وممارسات سياسية, ولكن لم يكن ثمة وجود لفن السياسة وللعقل السياسي. وليس من قبيل الصدفة على كل حال ان يكون افلاطون في (الجمهورية) وأرسطو في (السياسة) هما أول من نظّر لفن السياسة. وما مرد ذلك الى (معجزة يونانية) مزعومة, بل بكل بساطة لأن الحضارة اليونانية كانت أول حضارة توفر للسياسة شروط الميلاد: اختراع الكتابة واختراع المدينة. وفي ما يتعلق بالشرط الأول, فلا جدال في أن الفينيقيين كانوا سبقوا اليونانيين الى اختراع الكتابة الأبجدية, ولكن الأخيرين إذ ورثوها عنهم أحدثوا تبديلاً جوهرياً في وظيفتها: فمن أداة للتجارة حولوها الى أداة للسياسة. ذلك ان استعارة الاغريق للكتابة الأبجدية الفينيقية قد تواقتت مع النشوء التاريخي للمدينة اليونانية. وليس لنا ان ننسى ان اسم السياسة بالذات politique مشتق من اسم المدينة باليونانية: polis. وتجربة المدينة اليونانية فريدة من نوعها في التاريخ. ففي كل مكان آخر كانت هناك امبراطوريات وممالك ومشيخات وسلالات تقليدية. ولكن المدينة اليونانية كانت أول من أرسى أساساً جديداً للتنظيم السياسي: فبدلاً من رابطة النسب أو الولاء أو الاستتباع أو القوة العارية, قامت المدينة اليونانية على فكرة المواطنة: أي انتماء المواطن الى مدينته ومشاركته على قدم المساواة مع سائر المواطنين, بصرف النظر عن وضعيته الاجتماعية أو الطبقية, في التسيير العام لشؤون المدينة. وعلى العكس من سائر المدن في الحضارات الأخرى, فإن المركز الذي انتظمت حوله المدينة اليونانية ليس القصر أو القلعة أو المعبد, بل الساحة العامة: (الآغورا). ففيها كان يجتمع المواطنون أربعين أو خمسين مرة في السنة ويدلون بأصواتهم, على أساس من المساواة العددية المطلقة, لانتخاب قادة المدينة وقضاتها, وللاقتراع على القوانين التي بموجبها تدار المدينة. ونظام (الساحة العامة) هذا اقترن بالكلام, وبالتالي بالعقل, وذلك بقدر ما أن كلمة (لوغوس) اليونانية تعني (اللغة) و(العقل) معاً. ونظام اللوغوس هذا هو المؤدى الحقيقي للديموقراطية. ففي كل نظام آخر للحكم, فإن الحاكم يحكم بالقوة العارية أو بقوة النسب والوراثة أو بقوة التفويض الالهي بوصفه (ظل الله على الأرض). أما في النظام الديموقراطي, كما تم اختراعه في المدينة اليونانية, فإن قوة الكلمة, عن طريق الخطابة والخطابة المضادة والمداولة, هي التي توصل الحاكم الى سدة الحكم وهي التي تنزله عنها. فالديموقراطية خطاب من العقل الى العقل لانتزاع اقتناعه ايجاباً أو سلباً. وخطاب على قاعدة من المساواة. فمركزية الساحة العامة أفقية, لا عمودية. وخلافاً للمركز الذي يمثله القصر أو المعبد, والذي يقوم على تراتب هرمي صارم في العلاقة بين الحاكم والمحكوم, فإن مركز الساحة العامة هو منبر الخطيب, وهو منبر مفتوح للجميع ويقع, بحكم دائرية الساحة العامة, على مسافة متساوية من الجميع. فلا أحد فوق أحد, بل كل أحد بجانب كل أحد. على أن الديموقراطية اليونانية قد ولدت مع ذلك حاملة لخطيئة أصلية: فلئن استبعدت علاقة السيد والمسود داخل الساحة العامة, فقد استبقتها داخل المدينة نفسها. فالديموقراطية اليونانية كانت حكراً على الأحرار من دون الارقاء, وعلى الرجال من دون النساء. والواقع أن نظام الرق كان شرطاً تكوينياً للديموقراطية اليونانية. فانعقاد الجلسات المفتوحة على مدى خمسين يوماً في السنة كان يقتضي من الحضور تفرغاً شبه كامل. وما كان للمزارع أن يترك أرضه وللصانع أن يترك ورشته ليأتي الى الساحة العامة وليمارس فيها حق المواطنية وواجبها معاً ما لم تنب منابه في المزرعة أو في الورشة (أو حتى في المدينة عندما يغادرها كعسكري للقتال في الخارج) يد عاملة مسترقّـة. وعلى هذا النحو فإن المدينة اليونانية الديموقراطية الأم, أي أثينا, كانت تؤوي عشرين أو ثلاثين ألف رجل من الأحرار والمواطنين مقابل مئتي ألف من الأرقاء ومن (البدون). كان لا بد من انتظار ولادة ثانية للديموقراطية في ظل الحداثة الأوروبية حتى تتطهر من خطيئتها الأصلية. فالديموقراطية اليونانية القديمة كانت ديموقراطية مباشرة تقوم على المشاركة الفعلية من قبل جماع المواطنين الأحرار في عملية اتخاذ القرار وانتخاب القادة. ولهذا كانت تتطلب من هؤلاء المواطنين شبه تفرغ دائم. أما الديموقراطية الأوروبية الحديثة فقد نحت من البداية الى أن تكون ديموقراطية تمثيلية. فليس المواطنون هم الذين يقررون, بل ممثلوهم الذين ينتخبونهم بالاقتراع العام. ومن أن تلغي الديموقراطية الأوروبية مبدأ التفرغ فقد حصرته بالمنتخبين, لا بالناخبين. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن فضيلة الديموقراطية الحديثة انها حولت السياسة الى حرفة. ومهما بدت هذه المفارقة كبيرة وغير مقبولة, إلا أنها أسهمت اسهاماً حاسماً في فك الارتباط بين الديموقراطية ونظام الرق. فوجود طبقة محدودة عددياً من السياسيين المحترفين حرر المواطنين من العبء المادي للسياسة وأتاح لهم ان يتفرغوا لوظيفتهم كمنتجين, وهذا كان أول ما يحتاجه النظام الرأسمالي الوليد. وقد ارتبطت الولادة الثانية للديموقراطية بتحول كبير آخر. فالديموقراطية اليونانية القديمة لم تعترف بنصاب آخر للفعلة السياسيين سوى نصاب المواطنين. أما الديموقراطية الأوروبية الحديثة, التي تمخضت في سياق تطور النزعة الفردية, فقد أضافت الى مقولة (المواطنين) مقولة (الأفراد). والحال ان الأفراد يحضرون الى ساحة الوعي العام بحقوقهم بقدر ما يحضر المواطنون بواجباتهم. ففي الديموقراطية اليونانية كانت المدينة هي معيار القيمة ومستودعها في آن معاً. أما في الديموقراطية الأوروبية, فقد غدا الفرد, بما هو كذلك, مصدر القيمة. وبدلاً من أن يكون مرجعه الى (المدينة الفاضلة) لدى القدماء, أو (مدينة الله) لدى لاهوتيي العصر الوسيط, فقد غدا لذاته مرجع ذاته. فهو حامل لحقوق مسبقة وغير قابلة للاستلاب, وليس للسياسة من وظيفة أخرى سوى ضمان هذه الحقوق, وفي مقدمها الحق في الحياة والوجود تبعاً لهوبز, والحق في الأمن وعدم العدوان تبعاً للوك, والحق في الحرية تبعاً لروسو, والحق في المساواة تبعاً لبورلاماكي. وهذا التقديم لفلسفة الحقوق على فلسفة الواجبات قاد الديموقراطية الأوروبية الحديثة الى اختراع مقولتين فلسفيتين سياسيتين جهلتهما الديموقراطية اليونانية القديمة: مقولة العقد الاجتماعي ومقولة المجتمع المدني. فجوهر السياسة هو فعل التعاقد بين الأفراد لضمان حقوقهم الأساسية في نقلتهم المصيرية من الوجود الطبيعي - الذي هو ساحة لحرب الجميع ضد الجميع - الى الوجود الاجتماعي والسياسي المتمثل بالدولة, ضامنة الوجود المشترك. ولكن بما أن الدولة سلطة, وكل سلطة تنزع الى مراكمة السلطة, فإن عدم مجاوزة الدولة لحدودها يرتهن بوجود مجتمع مدني قادر على أن يمثل سلطة مقابلة لسلطة المجتمع السياسي. والحال أن مؤسسات المجتمع المدني هي مجال لممارسة السياسة عن غير طريق السياسة. وانما بالاحالة الى وظيفة هذا المجتمع تبلورت النواة الأولى لفكرة (فناء السياسة) لدى بعض طوباويي القرن الثامن عشر, كما لدى فوضويي وماركسيي القرن التاسع عشر. والحال ان اليوطوبيا الماركسية هي وحدها التي قيض لها أن توضع موضع التطبيق العملي مع قيام ثورة 1917 البلشفية في روسيا. والحال أيضاً ان التجربة الفعلية لليوطوبيا الماركسية قد تمخضت عن مفارقة كبرى: فبدلاً من الوفاء بوعد فناء الدولة جسدت الدولة السوفياتية نموذجاً لدولة طاغية الوجود الى حد إعدام المجتمع المدني إعداماً تاماً. وبصدد الدولة السوفياتية تحديداً يمكن القول إن كثرة السياسة تقتل السياسة. فعندما يتم تسييس كل شيء, فما من شيء يبقى سياسياً. ومن هنا مثّل سقوط التجربة السوفياتية ولادة ثالثة للديموقراطية. فالدولة التوتاليتارية, بالغائها المجتمع المدني, ألغت المجتمع السياسي نفسه. وبدلاً من تحقيق الوعد الطوباوي بـ(فناء السياسة), فإن محصلة التجربة التطبيقية السوفياتية كانت (إفناء السياسة). قد يقال هنا ان سقوط الماركسية كخصم ايديولوجي للديموقراطية قد أدخل هذه الأخيرة في طور فك التعبئة, مما ترجم عن نفسه في ظاهرات عزوف وانصراف عن السياسة ومقاطعة للأحزاب وازورار عن صناديق الاقتراع في الديموقراطيات الغربية المعاصرة. وهذا صحيح. ولكن التعبئة وحالة الطوارئ ليست من المستلزمات الذاتية لعمل الديموقراطية. بل على العكس. فخير ما يكون أداؤها كآلية في الأحوال العادية, لا في حالة الاستنفار. وبوصفها نظاماً للحق في الحرية, فإنها تتضمن, في جملة ما تتضمنه من حقوق, حق العزوف. ففي الديموقراطية, وفي الديموقراطية وحدها, يمكن أن تعني السياسة الحق في التحرر من السياسة.
|