نهاية الأوثان السلطوية
اعتمدت السياسة (كفن) للحكم علي المبررات و الدسائس، فاختلطت الغايات وتماهت معها الحقائق، نسجت المفاهيم أنتجت المؤسسات التي تدافع عنها، اندست ما بين اللغة وخطابها، انغلقت علي النرجسية، مارست العنف بابشع أشكاله، والقتل بأقبح صوره، تسترت بمعاطف متعددة ومتنوعة (انتخابات، تزوير، جوسسة، مصالح صفقات، انتصارات،هزائم...) تلونت بأصباغ كثيرة، صاغت مقولاتها علي التناقص والاختزال، رسمت خطوطها علي أجساد البروليتاريا، وفرت من رائحة الفقراء فاحتضنتها البرجوازية والإقطاعية، وعزفت علي أوتار المساواة والحقوق، وصعدت سلالم العدالة، أغرتها الزعامة والتسلط فنحتت التماثيل وقفزت علي حبال الاستبداد، وأشعلت للحرية شموعاً، ولكنها أول من أطفأها.
لعله أريك فأيل: الذي (يعتبر السياسة فضاء الصراع)، وبها تتطور تكنولوجيا العنف والبغض، وكل أساليب الإقصاء ومبررات التهميش، ومن خلال التسلط والقهر تبتلع كل مفاهيم الأخلاق والمساواة والحرية والمبادئ الإنسانية العظيمة لتتلاشي وتتهشم علي صخرة (السياسة)، فهي تراهن علي كل المصالح والغايات وتمارس الإرغام والإكراه.. والذرائعية، تؤسس للهيمنة وتعيد إنتاجها بقساوة وأكثر ضراوة، لتتزاحم علي طاولة العالم مفاهيم وأفكار سياسية ومشاريع مصلحية (ميكافيلية، فاشية، نازية، إمبريالية..) تبرر ارتكاب أقصي درجات العنف، مجازر، مجاعات، تلوث، إبادة ، حروب، تارة تجر العالم بأسره لدوامة الحرب الشاملة، ومرات عدة تجعله قاب (زرّ) من حرب كونيه، تنتج كل الظروف والمؤديات والسبل من أعلام، اقتصاد، مؤتمرات، مبادرات، مفاوضات، اتفاقيات... وتتعدد المسميات، ولكنها تفضي إلي حلبة (الصراع السياسة)، استعراض قوة، مساومات، تهديدات، حصار، وكل شئ جائز (فالغاية تبرر الوسيلة!!) ومعها وبها تكثر المطامع ويزداد الجشع حضوراً فتداعب خيال العنف والاستبداد والقوة ومعها أيضا يدخل البشر في مواجهات وحروب دموية، تغذي الأعلام بكل أصنافه وأطباقه يقتات و يتزود من مادتها آلاف الصحفيين والمراسلين وتحولها (القنوات الفضائية) إلي وقائع أكثر حدة ويعتمدها (الواقع) هدفا ً استراتيجياً مرسوماً ولابد منه، يدخل في حساباتها كل شئ، المال، الجسد، الدم، الخطاب، الأعلام، القوانين، الجغرافيا، الأدوية..، يهتف وراءها الناس بالفخر، ووراء الستار يبكي من هولها آلاف الأطفال والمحرومين والمساكين ، ويموت من اجلها ملايين البشر...، فهي تغري العنف بأن ينام في أحضانها، تقمع الجسد/ الفرد وتستبدله بالخطاب، يضيع بين ملفاتها ويتحول إلي (أرقام)، يعيش الاغتراب والإفلاس يهرول بين مؤسساتها حالما ً بالعدل والمساواة ناشدا ً الطمأنينة والأمن والاستقرار، تائه بـ (أناه) مشدوهاً للكشوفات والإعلانات المعلقة علي حائطها، يصرخ مندهشا ً باكتشاف اسمه ..، في قوائم الانتظار، ولعله ينتشه يعبّر عن ذلك قائلا (الانتظار يفسد الأخلاق) والسياسة تفسد كل شئ، الأحلام، الأمنيات، الطمأنينة، تنقض علي جسد السعادة فتأكله نيئاً. فهي (أي السياسة) مثل الموضة ومن المتفق عليه اليوم أن الموضة تمر بتسارع وحتى وأن عادت فإنها تعود بشكل أقل حدَة ووطأة، والزمن يكفل لهذه المعادلة النجاح والتحقق وبانتقائية عاجلة.
أوهام السلطة ... ذبول الديمقراطية:
إشكالية التمركز وهيمنة المعلومات وتكريس الاختلاف وقيم التجاوز عبر مبررات ونزعة أثنية - عرقية والتفوق المادي والتقني والتي أسست لها الفلسفة الغربية وإعادة صياغتها وإنتاجها المؤسسة السياسية الغربية واعتمادها شعاراً (أيديولوجيا) من خلال الأحزاب والمذاهب السياسية لتتحول إلي مشروع انتخابي ومن ثم يعاد تصديرها إعلاميا (فكرة التفوق ونظريات تفاوت الأجناس والامبريوم...) والتي ترسخ للهيمنة والتمركز من أجل السيطرة علي العالم ومصادرته لصالح المال (دافوس، الجات)، تلك التنظير ات المعتمدة في محتواها ودلالاتها تبرر ذلك خدمة للمصالح السلطوية و عبر ثقافة الاختلاف (تجسيد لمشروعية الرمز والأفكار الروحية) ودعمها بالممارسات الفنية والجسدية وملء الفراغات لتمركز الذات في اختلافها وتجاوزها للآخر، وان كل ما يقدمه الآخر مرفوض، بنزعه عرقية، بيولوجية،....، بدء من التنظير وصولاً للممارسة، خطاب عقلنه الاضطهاد السياسي ومشروعية الانتخاب لصالح الحكم وإخفاء السلطة، مبشرين باطروحات (سبينوزا) للسيطرة علي الإنسان وترويضه، ولكن الخيبات المتكررة والمتلاحقة وعقم الأيديولوجيا الغربية حسب رأي (كارل بوبر) والوجع والألم والشيخوخة التي طالت (لعبة السلطة السياسية الغربية) في مشارف القرن الماضي استفاق العالم على (أوهام السلطة) الانتخابية الثنائية والتعددية الحزبية التي ضاعت بين مراوغاتها (حدود الديمقراطية) والتي سيطرت علي الخطاب السياسي لفترة طويلة جداً واختفت وراءها مفاهيم المساواة والحرية والعدالة والمواطنة وحقوق الإنسان (الشعارتية) التي صنعت مشروع الحداثة وما بعد الحداثة بمفاهيمها ومصطحاتها كما يذهب (نعوم شاموسكي) في كتابة (ردع الديمقراطية) فكان القفز من مشروع الدولة القومية إلي العالمية (العولمة) كمكون سلطوي (إمبريالي) والتغيرات التي طالت بني الثقافة الفكرية (ما بعد العولمة، ما فوق القومية ...) والتي تحاول إيجاد مخرج من التشتت وحالة (ذبول الديمقراطية) كما يسميها (روبير كابلان) والخلاص من الوهم الانتخابي (خطابا وممارسة) الذي ظل رهين الاحتفالية والمأساة وأسير (الميديا الجنائرية) كما عبرت عنه (الانتخابات السياسية عالميا علي مشارف الألفية الجديدة) والاستقالات السياسية الفضائحية في أوروبا و غيرها... أدي ذلك إلي خلق مسارب شعبية جديدة انفلتت عن المؤسسات الحزبية لترسم لها طريقاً ومساراً مغايراً عبر (مؤسسات البيئة، المجتمع المدني، الحقوقية، غير الحكومية) وبالرغم من المحاولات الجريئة (مثلما حدث أبان 1968 والوثب نحو السلطة والمشاركة والقفز علي الدكتاتورية الحزبية التي صاغت مبدأ الصراع السلطوي من خلال أوهام التعددية (الانتخابية) والثنائية، ديمقراطية اليمين واليسار، الاستبداد والتوليتار، التقدمي والرجعي، الفيل والحمار)، ومع ذلك بقي تحول وتحطم بني السلطة الانتخابية والمراهقات السياسية يتم في حقل اللغة ويجد لها دعامة خطابية (المشروع الفوكوي) كما نجد ذلك لدي (انجلتون) الذي يربط بين ما بعد الحداثة وهزيمة الحركات السياسية الغربية ( المؤسسة الحزبية ) بهروبها من العالم الواقعي (الممارسة) إلي اللغة،
لتفقد الديمقراطية (حكم الناس) محتواها وفقا لما يطرحه النموذج الحزبي من خلال الغيرة والاستحواذية والفردية والكراهية لحزب ضد حزب آخر لتتحول إلي خلافات شخصية تغذيها المصالح أو العدائية (فضائحية) تقتاتها وتتلقفها وسائل الأعلام لتضيع بين طياتها (الديمقراطية) وهذا قاد كثيرا ً من المفكرين الغربيـين أمثـال (ماري جونيو)، (لاري رايموند)، (فاكلاف هافيل)، (الآن تورين) و(الكسندر هاملتون) يتنبأون بنهاية الديمقراطية الغربية نتاج لما تعرضت له من فساد علي يد أصحاب النفوذ والمال و(روبير كابلان) الذي يعلن هو الآخر عن (نعي مبكر للديمقراطية الغربية). و يتفق كثير من المفكرين الأوروبيين علي إفلاس النموذج السياسي الحزبي حيث يعتبرونه نموذجا بسيطاً (وساذجا) لممارسة الديمقراطية، ويعبر عن ذلك جيل الشباب والنخب المثقفة ويعتبرون أن الأشكال السياسية الحزبية التي تقوم عليها بنية السلطة وممارستها مجرد إقطاعيات تتناسخ وتعيد إنتاج نفسها علي حساب مفاهيم العدالة والمساواة والحرية وغيرها من جرعات التغييب والمشاريع الطوباوية الحالمة . هل تتغير سياسة العالم بتغير مفاهيم الديمقراطية، والمواطنة والعدالة والمساواة أم أن التغير يجب أن يطال بنية الخطاب و(رمزيته) واللغة التي ستحطم بُني السياسات القائمة علي عقدة التمركز والهيمنة والاثنية والجشع لتتحول إلي مرحلة (ما بعد السياسة..؟!) ولعل اندفاعة جديدة للفكر (ما بعد الحداثة ) لازال يتشكل علي هيئة خطابات لغوية، كتابات إشارات متباعدة ... لعلها ستكون أكثر تحققاً في مجالي الفنون والعلوم (في تضاد مع السياسة!!) وسوف تنسحب باتجاهها كل التشكلات والفضاءات المجتمعية، لتعبر من حقبة السياسة وتنتقل بالسلطة إلي أن تتجاوز النمطية والهيمنة (دونية الفكـر) إلي مرحلــة ( ما بعد العنف السلطوي ) المسئول علي التدمير المتبادل للذات والآخر والذي يعيشه عالم اليوم، و أخفاق مختلف الأشكال والنماذج السياسة وتلاشيها في الممارسة سيساهم في رصد تحولات الخطاب (الايديو - ثقافي) وبرز مفهوم التجاوز (الذي سرعان ما يكتسب ويحقق التوافق والالتقاء والتواصل مع الجموع.، (حيث ينتهي حس المؤقت والزائل، والميل إلي المجرد، إلي إلغاء نفسيهما، وحيث لا تعود اللحظة هي الانعكاس المتحرك للأبدية، وإنما عتبة إلي الأبدي، بالمفهوم البودليري). وعلي الرغم من التحولات المنجزة معرفيا (بالمفهوم الواسع للمعرفة) لازال النظام العالمثالثي وعبر أنظمته الاستبدادية الظالعة والمتمرسة والمتمترسة خلف القمع والبوليس والسجون....، مع احترافها وتفننها في طرائق التعذيب المادية والنفسية بممارسات يقظة وواعية للتجويع والاذلال والإفساد و إنتاج تقنيات المعاقبة والمراقبة و القمع والقتل واستخدام تكنولوجيات الضبط و التكميم للحريات وبمعايير غاية في الدنس والتسلط ....، وتزيد حدة التوتر والإحباط والتهدم النفسي بإبداع سياسات التدجين والترويض والإخفاء و الإقصاء و التهميش بتجلياته تدعم وتؤسس لذلك ميليشيات ومافيا وزمرة مثقفي ومفكري السلطة والتي تعكس الوهم الجماعي بتزيين وتزو يق وتلميع الاستبداد والقمع و تطويعها عبر الوسائط الإعلامية المتاحة ليتحول إلي (ممارسة مخادعة و مزيفة للديمقراطية) وشكل سلطوي اغتصابي يتوجب التصفيق له والتبرك بعطاياه ومطاياه..، وتتجلي أهمية المفاهيم الفوكوية (ميشال فوكو) التي صاغها و عكستها مشاريعه الفكرية، أنها عرت الأوهام السلطوية وممارساتها الخطابية، كما شكلت الدراسات السيموطيقية والسيميائية منعطفا مهما في تاريخية الفكر السياسي إذ فضحت العنف المؤسساتي وكشفت أدوات التسلط للدولة المشبعة برائحة القتل والدم وقوضت جدران وعوازل السجون، وكما يذهب وليد خوري (ما قام به فوكو في نظريته حول انحطاط السلطة يقع في إطار محاولة سعي من خلالها إلي إبراز صورة ايجابية لمقاومة القهر والاضطهاد المفضية إلي تحرير الفرد من الخضوع والانصياع للآخرين). ولعل تحطم وتهدم وانهيار بني السلطة السياسية والمؤسساتية التي تأسست علي الممارسات القمعية بكل ثناياها والقتل بتعدد صورها وزرع الخوف وغرسه في قلوب وعقول الناس، سوف يمهد الطريق لظهور جيل إنساني عربي جديد متمرد في جوهره، يجاهر بالاختلاف الذي هو أساس الديمقراطية والعدالة والحرية المطلقة علي حد تعبير سامي ادهم، كما إنها سوف تنسف كل الأفكار الأيديولوجية التي أنتجت ولمراحل طويلة تعبئة سياسية مظللة.. للوصول إلي مرحلة نهاية تاليه الفرد.!!
كاتب ومفكر - ليبيا