|
تعقيب علي ندوة حوار حول التنمية( المفاهيم ومتغيرات العصر)
تاج السر عثمان
الحوار المتمدن-العدد: 2402 - 2008 / 9 / 12 - 10:01
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
الحوار الذي ابتدرته اللجنة الاعلامية المنبثقة عن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني، في ندوتين بمركز الحزب ، حول التنمية ظاهرة صحية، ونحتاج للمزيد من المناقشة والوضوح حولها. أشارت مساهمة د. صلاح عوض بتاريخ:20/8/2008م، الي المفاهيم الأساسية للتنمية، وخلصت الي أن التنمية كظاهرة مركبة يجب أن تهدف الي: زيادة السلع والخدمات وتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، وتحرير الانسان من الاستغلال(الميدان:26/8/2008)،كما أشار الي المتغيرات والمفاهيم الجديدة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والتي ابرزها: الثورة العلمية التقنية، قضايا البيئة، الحريات والمشاركة الديمقراطية، والتنمية بين اقتصاد السوق والتخطيط(لايمكن الغاء السوق ولا التخطيط). وخلصت تعقيبات د. احمد حامد وصلاح عبد الكريم الي: ليس هناك مفتاح واحد لتحقيق التنمية، بل حزمة سياسات تراعي الظروف الاجتماعية والثقافية لكل المجتمع، ليس هناك قوي اجتماعية لوحدها علي احداث التنمية، مشكلة التخلف ليست حالة ابدية وهي قابلة لتجاوزها، المزاوجة بين اقتصاد السوق والتخطيط عبر الدولة كشريك رئيسي في السوق وفي الانتاج ومراقبة آلياته، يجب علي برنامج الحزب أن يوفر رؤية اقتصادية مغايرة للمشروع الانقاذي تعتمد علي تنمية وطنية ديمقراطية صوب الحلم الاشتراكي والعمل علي توجيه الفوائض الاقتصادية وبشكل خاص من البترول لمصلحة المواطن لتوفير احتياجاته الاساسية، مشاريع صناعية فاشلة(مصنع بابنوسة للالبان)، المشاركة الديمقراطية ضرورية للتنمية. أما مساهمة د. مجدي الجزولي في الندوة الثانية بتاريخ:27/8/2008م بعنوان( لانريد التنمية، ولكن ماذا نريد؟)، فلم تقدم لنا بديلا أو افق للمخرج، بعد السرد الذي قدمه للمعلومات المعروفة حول التنمية. وكما عبر احد المشاركين د. محمد سليمان، من المساهمتين( مساهمة د. صلاح عوض، ومساهمة د. مجدي) لم نخرج بافق واضح لتنمية بديلة. تزامنت الحلقة الدراسية حول التنمية مع صدور مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوداني المقدم للمؤتمر الخامس الذي كان ايجابيا في طرح تنمية وطنية ديمقراطية بديلة( تتجاوز واقع التخلف والتشوهات التي افرزتها سياسات التنمية الرأسمالية التابعة، وهذا يقتضي تنمية واعية ومستمرة ومتصاعدة تؤدي الي احداث تحولات هيكلية وتوليد قوة دفع ذاتية في الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال توسيع وتنويع قاعدة الاقتصاد، وخلق روابط عديدة ووطيدة بين قطاعاته وداخلها وتشترط هذه العملية توطين التكنولوجيا الحديثة وبناء قاعدة تكنولوجية وطنية باعتبارها اهم مصادر رفع الانتاجية ووسيلة الاستغلال الفعال للموارد، لبناء اقتصاد وطني متماسك تتعدد قطاعاته وتتنوع منتجاته، يلبي الاحتياجات الانتاجية والاستهلاكية، وتتوفر فيه الكفاءة لانتاج واعادة انتاج قدراته بوتائر متزايدة وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، هذا البديل يطرح تنمية ديمقراطية ومتوازنة ومعتمدة علي الذات، لأنها تقوم علي أساس المشاركة الواسعة لجماهير الشعب في اتخاذ وتنفيذ القرارات السياسية والاقتصادية من اجل تحقيق اهداف التنمية، بحيث تكون هذه الجماهير هي المستفيد الاول وتجني فوائد هذه التنمية). هذا البديل والافق الواضح والايجابي الذي طرحه مشروع البرنامج نحتاج لتعميق المناقشة حوله وتطويره، حتي لايكون البديل الرأسمالي هو نهاية التاريخ والذي لايمكن تجاوزه في الظروف والمتغيرات الحالية والتي حدث فيها هجمة شرسة من مؤسسات الرأسمالية العالمية علي مكتسبات الشعوب في توفير احتياجاتها الأساسية وفرض الخصخصة واقتصاد السوق علي بلدان العالم الثالث وتعميق التبادل غير المتكافئ من خلال مؤسسات الرأسمالية العالمية مثل منظمة التجارة الدولية. ومعلوم التطور الذي حدث بعد ماركس في دراسة الاقتصاد السياسي للتخلف أو الاقتصاد السياسي للنمو، وهو فرع جديد في الاقتصاد السياسي الماركسي، والذي قام علي نقد المفاهيم الأساسية للتنمية الرأسمالية استنادا علي حصيلة تجاربها في بلدان العالم الثالث، وقد اسهم علماء اقتصاد ماركسيين محدثين في وضع أساس ذلك العلم الجديد مثل: بول باران، شارل بتلهايم، توماس سنتش، وفي العالم العربي هناك مساهمات فؤاد مرسي، اسماعيل صبري عبد الله، سمير امين، سعيد الخضري،رمزي زكي، العيسوي ..الخ. ومعلوم أن ماركس درس المجتمع الرأسمالي في مؤلفه (رأس المال) من خلال دراسة حالة انجلترا المحددة التي وصلت قمة التطور الرأسمالي في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين حدثت ظواهر جديدة مثل تحول الرأسمالية الي احتكار، والتي درسها لينين في مؤلفه(الامبريالية اعلي مراحل الرأسمالية 1916م)، والذي اشار فيه الي مصدر جديد من مصادر الارباح الرأسمالية، وهو نهب شعوب المستعمرات، اضافة الي نهب فائض القيمة من العاملين، ووالارباح الطفيلية الأخري الناشئة من الاحتكار وغيره، وبالتالي طرح لينين الشعار( ياعمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا). يبحث علم الاقتصاد السياسي للنمو في الجذور التاريخية للتخلف، باعتبار أن التخلف يرتبط بقطع التطور الطبيعي لبلدان العالم الثالث، بعد دمجها بالنظام الرأسمالي العالمي والذي نتج عن الاستعمار والتبادل غير المتكافئ الذي جعل من تلك البلدان مستهلكة للسلع الصناعية الرأسمالية، ومصدرا للمواد الخام. ونتناول في هذه المناقشة الجذور التاريخية للتخلف في السودان، ونقد المفاهيم الرأسمالية في التنمية، والمدخل للتنمية الوطنية الديمقراطية.
أولا: الجذور التاريخية للتخلف في السودان. بعد مرور اكثر من خمسين عاما علي استقلال السودان، يقفز الي الذهن سؤال: لماذا وصلت البلاد الي هذا الحد من التخلف والتردي؟، وماهو الأفق لنهضة البلاد في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟. 1 -: السمات النوعية للتخلف. يمكن تلخيص السمات النوعية للتخلف الاقتصادي في السودان في الآتي: أ – الجانب الدولي للتخلف المتعلق بالتوجه الخارجي وعلائق التبادل غير المتكافئة مع الدول الرأسمالية المتطورة التي تتمثل في : - التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية المتطورة. - استنزاف رأس المال الاجنبي للدخل بشكل منظم وتصدير الفائض الاقتصادي الي الخارج وخسائر الدخل الناشئة عن العلائق الخارجية مع العالم الرأسمالي. ب- الجانب الداخلي، أى المتعلق بالسمات البنيوية(جمود الطاقات، عدم الاستقرار السياسي)، ويتلخص في الآتي: - اقتصاد مفكك يفتقر الي الوحدة العضوية والتكامل ويتسم بطابع مفتوح وتركيب مشوه لفروعه. - مجتمع غير متجانس ذو بنية مزدوجة( قطاع حديث وآخر تقليدي). وبكلمات اخري ترتبت نتائج سلبية علي تبني الفكر التنموي التقليدي الغربي والذي نتج عنه الآتي: - ديون خارجية، تبعية تكنولوجية، عجز غذائي أو مجاعات، عدم الاستقرار الداخلي، نماذج فاشلة للتصنيع، عدم تحقيق الأهداف المباشرة المنشودة، آثار سلبية التضخيم دور الاستثمار في التنمية، عدم الثقة بالنفس وتزايد الاعتماد علي الغير. 2 -: التخلف في السودان نتاج تطور تاريخي. هذا التخلف ليس قدرا لافكاك منه، او لعنة حلت حلت بالسودان، ولكنه نتاج تطور تاريخي. ومعلوم للقارئ، أن السودان في العصور القديمة والوسيطة شهد مولد حضارات(كرمة، نبتة ومروي، النوبة المسيحية، الممالك الاسلامية)، كانت مزدهرة فيما يختص بالتطور الزراعي والصناعة الحرفية والتقنية، وكانت تلك الحضارات لاتقل عن الحضارات التي كانت معاصرة لها في بلدان الشرق والعالم الاسلامي والاوربي. وكانت البنية الاقتصادية- الاجتماعية لتلك الحضارات مترابطة فيما بينها، فكانت الزراعة توفر احتياجات الناس الأساسية من الغذاء ، وكانت الصناعات الحرفية توفر ادوات الانتاج والاحتياجات الأخري، وكانت التجارة ترتبط بالمنتجات الزراعية والحيوانية والصناعة الحرفية. وكانت المواد الخام اللازمة للصناعات الحرفية كلها محلية مثل: الخشب، الحديد، النحاس، الذهب، الصوف، القطن، ..الخ. أى اذا جاز استخدام المصطلح المعاصر، أن الاقتصاد كان يقوم علي الاكتفاء الذاتي، اى متوجه داخليا. اما التجارة الخارجية، فقد كانت الواردات بشكل أساسي كمالية تهم الطبقات المالكة والغنية والاثرياء مثل: الانسجة الفاخرة، الروائح والعطور، ادوات الزينة وغير ذلك من الكماليات التي كان يتم استيرادها في حضارات السودان القديم والوسيط، أى ان تلك المجتمعات كانت مترابطة ومتوجهة داخليا، بمعني أن الزراعة والصناعة الحرفية والتجارة، كانت توفر للناس احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومسكن وملبس .الخ، صحيح أن تلك الحضارات كانت تشهد مجاعات وأوبئة نتيجة لتقلبات المناخ والاحوال الطبيعية وتخلف الطب، وغير ذلك مما شهدته حضارات العالم القديم التي كانت معاصرة لها. هكذا كان الوضع حتي عام 1821م، عندما بدأ الاحتلال التركي المصري للسودان، وباحتلال الاتراك للسودان نشأت بنية اقتصادية- اجتماعية تابعة، بمعني أن كل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة، كان موظفا لخدمة اهداف دولة محمد علي باشا في مصر. وتم نهب وتدمير القوي المنتجة( المادية والبشرية)، وتم افقار السودان ونهب موارده الاقتصادية، وكان ذلك جذرا أساسيا من جذور تخلف السودان الحديث. وفي تلك الفترة ارتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عبر تصدير سلع نقدية مثل: الصمغ، العاج، القطن..الخ، كما شهد السودان خلال تلك الفترة غرس بذور نمط الانتاج الرأسمالي علي الأقل في سمتين: أ- اتساع عمليات التبادل النقدي، والعمل الماجور اى تحول قوة العمل الي بضاعة. ب- الارتباط بالتجارة العالمية. كانت التحولات في ميادين الاقتصاد والزراعة والصحة والمواصلات والتعليم محدودة، وظل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في تلك الفترة حبيس القطاع التقليدي، وظلت قوي الانتاج وعلائق الانتاج بدائية ومتخلفة. ويمكن القول، أن السودان في تلك الفترة شهد تدمير أو خسارة لبنية اقتصادية- اجتماعية، دون كسب لبنية اخري أرقي. اى ان السودانيين في تلك الفترة خسروا عالمهم القديم، ليحل محله عالم ملئ بالبؤس والشقاء ، وارهاق كاهل الناس بالضرائب، واستنزاف ونهب موارد البلاد، حتي انفجرت الثورة المهدية التي اطاحت بذلك الوضع، بعدها انفصل السودان لمدة ثلاثة عشر عاما عن المسار العام والدوران في فلك المنظومة الرأسمالية العالمية. 3- : اعادة الارتباط بالنظام العالمي: ارتبط السودان مرة اخري بالنظام الرأسمالي العالمي، بعد احتلال السودان عام 1898م، وعاد الاقتصاد السوداني مرة اخري للتوجه الخارجي ، اى اصبح الاقتصاد خاضعا لاحتياجات بريطانيا ومد مصانعها بالقطن( كان القطن المحصول النقدي الرئيسي، ويشكل 60% من عائد الصادرات)، وتم تغليب وظيفة زراعة المحصول النقدي علي وظيفة توفير الغذاء للناس في الزراعة. هذا اضافة لسيطرة الشركات والبنوك البريطانية علي معظم التجارة الخارجية، وارتباط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي، وفي علاقات تبادل غير متكافئة، صادرات: مواد أولية(قطن، صمغ، ماشية، جلود،..)، وواردات سلع رأسمالية مصنعة. ففي عام 1956م، كان 72% من عائد الصادرات تتجه الي اوربا الغربية وامريكا الشمالية، و50% من الواردات تأتينا منها، أى كان الاقتصاد السوداني في ارتباط وثيق مع النظام الرأسمالي العالمي. كما كان مجموع الواردات والصادرات تشكل 40% من اجمالي الناتج القومي، هذا اضافة لتصدير الفائض الاقتصادي للخارج فعلي سبيل المثال في الفترة: 1947 – 1950م، كانت ارباح شركة السودان الزراعية اكثر من 9,5 مليون جنية استرليني، تم تحويلها الي خارج البلاد. كما كانت الصناعة تشكل 9% من اجمالي الناتج القومي ، واجهض المستعمر اى محاولات لقيام صناعة حرفية وطنية ، كما تم تدمير صناعة النسيج والاحذية التي كانت موجودة خلال فترة المهدية، بعد أن غزت الأقمشة والاحذية الرأسمالية المستوردة السوق السوداني. وكان نمط التنمية الاستعماري الذي فرضه المستعمر يحمل كل سمات ومؤشرات التخلف التي يمكن تلخيصها في الآتي: • 90% من السكان يعيشون في القطاع التقليدي. • قطاع تقليدي يساهم ب56,6% من اجمالي الناتج القومي. • القطاع الزراعي يساهم يساهم ب61% من تكوين الناتج المحلي. • ضعف ميزانية الصحة والتعليم، تتراوح بين(4- 6%). • كان دخل الفرد 27 جنية مصري. • اقتصاد غير مترابط ومفكك داخليا ومتوجه خارجيا. • تنمية غير متوازنة بين أقاليم السودان المختلفة. وبعد الاستقلال استمر هذا الوضع، وتم اعادة انتاج التخلف واشتدت التبعية للعالم الخارجي أو التوجه الخارجي للاقتصاد السوداني: ديون بلغت 31 مليار دولار، عجز غذائي( مجاعات)، حروب أهلية، تصنيع فاشل، اشتداد حدة الفقر حتي اصبح اكثر من 90% من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر حسب الاحصاءات الرسمية، اضافة لانهيار القطاعين الزراعي والصناعي وانهيار خدمات التعليم والصحة، انهيار القيم والاخلاق، واصبحنا معتمدين علي سلعة واحدة: البترول الذي اصبح يشكل 80% من عائدات الصادر، وحتي عائدات البترول لايحس بها المواطن في دعم الصناعة والزراعة والتعليم والصحة والخدمات..الخ، اضافة لعدم توازن علاقاتنا التجارية الخارجية حيث تعتبر الصين الشعبية حاليا اكبر مستورد للصادرات السودانية حيث بلغت 69,3% من اجمالي الصادرات اغلبها من النفط ، وهذا خلل كبير). واضح من اعلاه اتساع دائرة التخلف في السودان أو اعادة انتاج التخلف، فرغم محاولات الدفع التنموي المستند علي الفكر التنموي الرأسمالي التي تمت منذ احتلال السودان عام 1898م، الا أن السودان ظل في مجموعة الدول الاكثر تخلفا وفسادا في العالم. والواقع أن الدفع التنموي الرأسمالي لم يفشل في السودان فقط، بل فشل في حل مشاكل بلدان العالم الثالث. وعليه يصبح من المهم والضروري البحث عن صياغة نظرية للتنمية المستقلة، لاتعتمد فقط علي المنقول من الكتب، بل تستند الي الواقع السوداني وخصائصة وسماته المادية والروحية، وخاصة في ظروف المتغيرات المحلية والعالمية التي نعيشها الآن. ثانيا: الاطار النظري للتنمية: التدهور الشامل الذي يعيشه السودان الآن في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لابد من مواجهته بالبديل الوطني الديمقراطي وبتنمية مستقلة يتم فيها التفاعل بين الاصالة والمعاصرة، ومن الخطأ تصور نظرية عامة للتنمية تصلح لكل زمان ومكان، كما يتطلب ذلك الوضوح حول أسباب التخلف والانحطاط ودراسة التبعية في منشأها وجذورها وفي انتدادتها الراهنة ودلالاتها وفي جوانبها الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وكما أوضحنا سابقا، أن التخلف ليس قدرا لايمكن الفكاك منه، وانما هو نتاج تطور تاريخي. ومن نافلة القول عندما نتحدث عن تنمية مستقلة أو بديل وطني ديمقراطي ، لايعني ذلك الانعزال عن العالم. أشرنا سابقا الي أن تجربة السير في طريق التنمية الرأسمالية منذ احتلال السودان عام 1898م، وبعد الاستقلال، كانت فاشلة وكان من نتائجها : تشويه القطاع الزراعي، استمرار وتعميق كل من الفقر وسوء توزيع الدخل، اهدار الاستثمارات والموارد الوطنية في برامج التصنيع الفاشلة، تعميق التبعية للعالم الرأسمالي المتقدم. كما أن علم الاقتصاد البورجوازي شكل الخلفية النظرية التي استندت علي أساسها نظريات ومفاهيم التخلف والتنمية، تلك النظريات التي عجزت عن تفسير التخلف واهملت الطبيعة الخاصة للبلاد المتخلفة. وترد قوائم وتقسيم المؤشرات الاحصائية للتخلف مثل: 1- النظرة الديمقرافية(السكانية): التي تشير الي معدلات الولادة والوفيات المرتفعة كسمة لتخلف وسببه بالذات. 2- النظرة الاقتصادية: وتشمل سمات تعطي طابعا وصفيا مثل: أ – انخفاض متوسط دخل الفرد، نقص الادخار ورؤوس الاموال ، ضعف مستوي الانتاجية والتقدم التكنولوجي، ارتفاع نسبة المشتغلين بالزراعة، تفشي الامراض والامية وسوء التغذية، انخفاض متوسط عمر الفرد، شيوع الاكتناز..الخ. ب- التخلف كنتيجة للثنائية والتخلخل القطاعي(قطاع حديث وقطاع تقليدي)، ج- التخلف باعتباره تأخرا زمنيا(نظرية روستو حول مراحل النمو: مجتمع تقليدي- مرحلة انتقالية- مرحلة الانطلاقة- اندفاع نحو الاستثمار- الاستهلاك). د- نظرية الحلقة المفرغة: التي تقول أن البلد فقير لأنه فقير(الطلب علي الاستثمار – الحافز ضعيف – ضعف السوق – انخفاض القوي الشرائية- تدني مستوي دخل الفرد – انخفاض مستوي الانتاجية- انخفاض مستوي التراكم والاستثمار- انخفاض الحافز علي الاستثماروهكذا). 3- النظرة السيوسيولوجية: أسباب مفسرة للتخلف مثل: غياب روح المغامرة- عدم وجود المنظم- انعدام الروح الفردية- وضعف الحوافز الاقتصادية وتحفيز الكسب المادي، عدم وجود التخصص الواضح في النشاط الاقتصادي- جمود الحراك الاجتماعي، تخلف القيم والعادات الاجتماعية..الخ. ومن خلال النقد للفكر الاقتصادي البورجوازي وفشل مفاهيمه ومقولاته حول التخلف والنمو وعجزها عن تفسير التخلف ظهرت دعوات جديدة بديلة لنظريات التنمية الثقليدية، تري ضرورة التنمية المستقلة، ويمكن تحديد مقولات ومفاهيم التنمية المستقلة علي النحو التالي: 1- الاعتماد علي النفس في مواجهة الاعتماد فقط علي المعونات والقروض والاستثمارات، دون الانغلاق والانعزال عن العالم. 2- التوجه الداخلي للتنمية في مواجهة انقسام الاقتصاد الي قسم حديث مرتبط عضويا بالشركات متعددة الجنسيات وقسم تقليدي. 3- توفير احتياجات الناس الأساسية في مواجهة اثراء الأقلية وفقر الأغلبية. 4- التنمية البيئية في مواجهة نهب الموارد الطبيعية حتي الاستنفاد. 5- في مواجهة النظم الشمولية والديكتاتورية ظهرت فكرة الديمقراطية ومشاركة الجماهير باعتبارها الشرط لنجاح التنمية. 6- برزت فكرة التكنولوجية الملائمة في مواجهة الانبهار باحدث تكنولوجيا العصر. 7- كما ظهرت فكرة بناء قاعدة علمية وتكنولوجيا وطنية في مواجهة التبعية الناشئة عن الاعتماد علي استيراد تقنيات الانتاج. 8- ظهرت فكرة الاصالة والهوّية الثقافية في مواجهة الذوبان في الثقافة أو الحضارة الغربية. 9- كما برزت فكرة الانفلات الجزئي عن الدوران في مسار أو فلك النظام العالمي. 10- كما ظهرت فكرة الاستقلالية بمعني انتقال مركز صنع القرار من الخارج الي الداخل. علي أن الفكر النظري توصل الي اجراءات، لابد من اتخاذها لدولة تهدف للتحرر من التخلف مثل: أ- سياسة ضريبية تصاعدية تمتص الفائض من القوي الشرائية(القضاء علي الاستهلاك غير الضروري)، وتوجيه الادخارات الاجبارية نحو استثمار منتج. ب- انشاء محطات توليد الطاقة، سكك حديد، نقل، وسائل ري، استصلاح التربة، مما يؤدي في النهاية الي خلق جو يساعد علي الانتاجية. ت- انشاء مدارس مهنية علي مختلف المستويات لتقديم التدريب الصناعي للشباب وللعمال العاطلين عن العمل، ونظام منح يفسح المجال أمام ذوي الدخل المحدود في التخصص. ث- تعهد الدولة بتغطية الخسارات في المرحلة الاولي من المبادرة والتعليم مما يؤدي الي تطور رجال الاعمال منها. ج- القضاء علي ضغط التضخم المالي: سياسة ضرائبية لابطال مفعول زيادة الدخل التقليدي الاجمالي الذي ولده الاستثمار. ح- وضع حد للارباح نتيجة لللاتجار بالسلع النادرة والأساسية. خ- التقليل من استيراد السلع الكمالية( قوانين تحدد الاسبقية). د- الرقابة علي التبادلات المتعلقة بالنقد الاجنبي تحول دون خروج روؤس الاموال وصرف الاموال الاجنبية المحدودة علي السلع الكمالية والرحلات الباذخة الي الخارج وماشابه ذلك. الاجراءات اعلاه كما يقول بول باران تحقق حدا ادني لاشباع حاجة المجتمع الي الانماء الاقتصادي وبواسطة الحد من استهلاك ذوي المداخيل الكبيرة ، يمكن وضع حد لبعثرة موارد النقد الاجنبي المحدودة الناتجة عن تهريب رؤوس الاموال واستيراد كميات ضخمة من السلع والخدمات الأجنبية، وبذلك يمكن توفير النقد الاجنبي لشراء الالات المصنوعة في الخارج التي يحتاجها الانماء الاقتصادي( بول باران: الاقتصاد السياسي للتخلف، دار الطليعة، بيروت 1978، ص 29). وغني عن القول، لكي تتمكن البلدان المتخلفة من السير علي طريق التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، لابد من تغيير كامل في الاطار السياسي الذي تعيش ضمنه. كما توصل الفكر النظري التنموي الحديث الي خمسة مبادئ لتعزيز فاعلية المساعدات الحكومية للبلدان النامية تتلخص في الآتي: 1- ينبغي أن تكون المساعدة مندمجة في مجهود قومي للتنمية. 2- ينبغي للمساعدة الا تكون هبة بصورة ثابتة. 3- يجب أن تأخذ المساعدة الغذائية طابعا وظيفيا. 4- المساعدة التقنية يجب الا تسبب شكلا جديدا من التبعية. 5- ينبغي للمساعدة أن تصب في تعاون دولي حقيقي. كما يحددون خاصيتين هامتين للقروض الانمائية: أ – ان مهلة الوفاء ينبغي أن تكون طويلة جدا، لأنه من غير الممكن مباشرته، الا منذ اللحظة التي يعطي فيها مجهود التنمية ثماره. ب – ان معدلات الفائدة ينبغي أن تكون منخفضة جدا، ان لم تكن معدومة. وحول المساعدات التقنية توصل الفكر التنموي الحديث الي الآتي: 1- ينبغي أن يكون من هدف العون التقني أن يهئ ما يعوضه، ويجعل الامور تسير بدونه. 2- ينبغي أن يتكيف العون التقني مع الظروف الملموسة لكل بلد. 3- العون التقني يجب أن يتحول الي تعاون تقني. علي أن الفكر التنموي الحديث وحسب ما اكدت تجارب بلدان العالم الثالث، أشار الي أن الاقتصاد الليبرالي أو اقتصاد السوق الخالص غير قادر علي الحل التلقائي لمعضلات العالم الثالث. وهذا النظام لم يوجد البتة فتدخل مختلف السلطات المركزية(بدرجات متفاوتة) هو ثابتة في التاريخ الاقتصادي للبلدان من ثلاثة قرون علي الأقل. كما يشيرون الي درجة معينة من التخطيط، لابد منها للانطلاق الاقتصادي للاغلبية من بلدان العالم الثالث(لايشمل المشروعات الصغيرة ولاقطاع التوزيع، اصلاح زراعي فعّال). والحفاظ علي فعّالية الاستثمارات الكبيرة وادماج وسائل التقنية المتاحة، أى نظم مخطط علي درجة كافية من المرونة، هو الانسب الذي ينصح به لتسهيل الانطلاق الاقتصادي في الشروط الصعبة التي تعيشها معظم بلدان العالم الثالث. ثانيا: ماذا عن السودان؟ تناول مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوداني رؤية الحزب حول: الديمقراطية، الاقتصاد(بقطاعاته: الصناعي والزراعي والحيواني والخدمي) ، البيئة، السياسة الصحية، التعليم والبحث العلمي، الثقافة الوطنية، المرأة والشباب، قدسية الدين ودنيوية السياسة، الاشتراكية، تجديد المشروع الاشتراكي. اما عن شكل ومضمون الدولة، فقد اشار مشروع البرنامج: الي الوحدة من خلال التنوع ، والي الديمقراطية التعددية، والاصلاح الديمقراطي في جهاز الدولة حتي يصبح في متناول خدمة قضايا الجماهير، وقيام جمهورية برلمانية اتحادية. اما في الاقتصاد فقد تناول مشروع البرنامج بالتقويم الناقد حصيلة التنمية الرأسمالية التابعة في الفترة: 1967- 2007م، والتي كرست التخلف والفقر حتي اصبحت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 95%، وزيادة حدة التفاوت الطبقي، وسيادة النشاط الرأسمالي الطفيلي أو التداولي علي حساب النشاط الرأسمالي المنتج في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، كما طرح البرنامج البديل الديمقراطي والذي يتلخص في تنمية ديمقراطية ومتوازنة ومستقلة تستهدف توفير احتياجات الانسان السوداني الاساسية( تعليم، صحة، خدمات .الخ)، واعادة استثمار الفائض الاقتصادي في المشاريع المنتجة بدلا من تبديده في الصرف البذخي أو تهريبه الي الخارج، كما أشار البرنامج الي اهمية الدور الاقتصادي للدولة، اضافة الي نشاط القطاع الخاص والذي لايتناقض مع دور الدولة، اضافة لاهمية ودور القطاع التعاوني، كما اعطي البرنامج اهمية للتصنيع والصناعة المحلية. اما في يختص بتوزيع الثروة فقد اشار البرنامج الي قوميتها والتنمية المتوازنة مع اعطاء الاهتمام للمناطق الاقل تخلفا. اما فيما يختص بالثروة النفطية: فقد أشار مشروع البرنامج الي ضرورة الشفافية في عقود النفط وتوزيع عائداته، وتوجيه جزء من العائدات لدعم الزراعة والصناعة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء، اضافة لحماية البيئة، وقيام الصناعات البتروكيميائية، وتاهيل وتدريب الكادر السوداني المحلي. أي ان مشروع البرنامج وضع مؤشرات عامة موجزة، تصلح في بلورة تنمية وطنية ديمقراطية أو تنمية مستقلة، وتحتاج لمناقشة عميقة ودراسات تفصيلية في كل فصل من فصول المشروع ، ذلك ان مشروع البرنامج يضع الخطوط العامة بايجاز شديد، والتي يتم استكمالها بالدراسات التفصيلية التي تسهم في تغيير تركيب المجتمع السوداني الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، اضافة الي استكمال دراسة الواقع حتي يأتي البرنامج اكثر دقة ووضوحا فيما يريد الحزب تحقيقه من اهداف وشعارات.
#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول الفصل الثامن من مشروع البرنامج- قدسية الدين ودنيوية السي
...
-
دراسة في برنامج الحزب الشيوعي السوداني
-
تجربة الصراع الفكري في الحزب الشيوعي السوداني، الفترة(1951-
...
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(6)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(7)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(الحلقة الأخيرة)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان (4)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(5)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(1)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(2)
-
الجذور التاريخية للتهميش في السودان(3)
-
الجذور التاريخية للتخلف في السودان
-
الدولة في السودان الحديث(3)
-
الدولة في السودان الحديث( الحلقة الاخيرة)
-
الجذور التاريخية لبذور العلمانية في السودان
-
الدولة في السودان الحديث(2).
-
الدولة في السودان الحديث(1)
-
الحزب الشيوعي السوداني والمناطق المهمشة
-
الدولة في السودان الوسيط(2)
-
الدولة في السودان الوسيط(الحلقة الاخيرة)
المزيد.....
-
مزارع يجد نفسه بمواجهة نمر سيبيري عدائي.. شاهد مصيره وما فعل
...
-
متأثرا وحابسا دموعه.. السيسي يرد على نصيحة -هون على نفسك- بح
...
-
الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف على أطراف م
...
-
السيسي يطلب نصيحة من متحدث الجيش المصري
-
مذكرات الجنائية الدولية: -حضيض أخلاقي لإسرائيل- – هآرتس
-
فرض طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن والشرطة تنفذ تفجي
...
-
الكرملين: رسالة بوتين للغرب الليلة الماضية مفادها أن أي قرار
...
-
لندن وباريس تتعهدان بمواصلة دعم أوكرانيا رغم ضربة -أوريشنيك-
...
-
-الذعر- يخيم على الصفحات الأولى للصحف الغربية
-
بيان تضامني: من أجل إطلاق سراح الناشط إسماعيل الغزاوي
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|