|
الثّقافة والدّراسات الثّقافية
عزالدّين بن عثمان
الحوار المتمدن-العدد: 2402 - 2008 / 9 / 12 - 08:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تمهيد: تحمل كلمة "ثقافة" معان عديدة ومختلفة. بعض النّاس يعتقدون أنّها الأدب الجميل والفنّ الرّاقي من موسيقى ورسم ومسرح وسينما وطرق الطـّـبخ لأكل شهيّ يعبّر عن طريقة عيش معيّنة ولكنّها أوسع بذلك بكثير إذ يتـّـفق الدّارسون للأشكال الثـّـقافيّة وعلماء الإجتماع على أنّها تشمل طرق الزّراعة والرّيّ مثلا وطرق البناء والطرق المعماريّة والصّناعات والحرف والأساطير والرّصيد القصصيّ... وحسب علم الأنثروبولوجيا وفي مختلف العلوم السّلوكيّة تشمل الثـّـقافة كلّ ما ينتجه المجتمع وكلّ ما يتعلـّـمه الإنسان من سلوك وأنماط معيشيّة وأفكار ومعتقدات ومعان عن الذّات والهويّة وغير ذلك. ويُجمع علماء الإجتماع والمؤرّخون للأفكار على أنّ أوّل من استعمل كلمة "ثقافة" بمعناها الحاليّ كان عالم الأنثروبوجيا البريطانيّ إيدوارد تايلر (Edward Burnet Tylor) في كتابه "الثـّـقافة البدائيّة" الذي نشر سنة 1871 ولكنّ العرب عرفت كلمة ثقافة منذ القديم لأنـّـها مشتقـّـة من الفعل "ثقف". ثقف العود تثقيفا أي هذّبه وصقله وقوّمه. ونستشفّ من هذا أنّ العرب استعملت كلمة "تثقيف" بمعنى التـّـربية والتـّـقويم، والثـّـقافة، إلى يومنا الحاضر، تـُـفهم على أنّها تكوين مستوى عال، لدى الفرد والمجموعة، من الذّوق والتـّـنوير عبر التـّـدريب الواسع النّطاق على الفنون وطرق الاستمتاع بها.
أمّا إدوارد بورنت تايلر (1832ـ 1917) فقد عرّف الثـّـقافة في كتابه المذكور أعلاه بأنّها الكلّ المركّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والقانون والأخلاقيّات والعادات والتـّـقاليد وكلّ القدرات الأخرى والانتاجات الأبداعيّة التي يتلقـّـاها الإنسان ويتعلـّـمها من المجتمع. وبالطـّـبع إذا كانت الثـّـقافة تـُـطلق على ما يُـتـَـعلـّـمُ فليست بالتـّـالي مقتصرة على الإنسان لأنّ الحيوان يتعلـّـم أيضا. وهنا أعرّج على مسألة نجدها في بعض النـّـظريّات الأنثويّة التي تقول بأنّ الثـّـقافة رجاليّة لأنّ الرّجال هم الذين صنعوها وهم الذين يمتلكونها في الوقت الحاضر ويستعملونها في استعباد المرأة فأقول إنّ الثـّـقافة ليست مقتصرة على الرّجال فقط فالنـّـساء أيضا يمتلكن الثـّـقافة ويساهمن في صناعتها. ومنذ ظهر كتاب تايلر صارت الثـّـقافة الموضوع الرّئيسيّ للأنثروبوجيا الثـّـقافيّة .
علم الإنسان علم قائم بذاته ينتمي للعلوم الإجتماعيّة، وموضوعه الرّئيسيّ الإنسان، إذ يهتمّ بخصائصه الإنسانيّة الفيزيائيّة والغير بيولوجيّة أيضا (الفكر، الثـّـقافة، طرق العيش، النـّـظم العقائديّة...). وأمّا علم الأناسة الثـّـقافيّ فموضوعه الأفكار وكيفيّة تطوّرها عبر الزّمن واختلافها من مجتمع إلى آخر أي أنّه يدرسها في أطرها الإجتماعيّة والجغرافيّة والتـّـاريخيّة وفي نطاق علاقاتها ببعضها البعض. ويقول البعض بأنّ علم الأناسة ليس سوى تيولوجيا تبحث في الأديان وأصولها وتريد أن تجعل الإنسان حيوانا وهذه إشارة إلى الإتـّـجاه الدّاروينيّ فيه. وقد انبثق علم الأناسة الثـّـقافيّ من علم الأعراق كردّة فعل ضدّ الخطابات القديمة المستندة إلى البيولوجيا التي كانت تميّز بين الثـّـقافة وطبيعة الإنسان والتي كانت تزعم أنّ بعض المجتمعات لازالت تعيش في "حالة طبيعيّة" أي أنـّـها متخلـّـفة أو بدائيّة وبعضها الآخر تخطـّـى تلك المرحلة ليدخل مرحلة التـّـحضـّـر.
وفي إطار التـّـحدّي لتلك الرّؤى العنصريّة، يقول علماء الأناسة الثـّـقافيّة ألاّ فرق بين طبيعة الإنسان وثقافته وإنّ كلّ البشر لديهم القدرة على إنتاج الثـّـقافة واكتساب الخبرات وإجراء التـّـصنيفات الرّمزيّة عن طريق اللـّـغة وتعليم تلك الخبرات والتـّـجارب لغيرهم وكلـّـهم يمارسون التـّـثقيف والتـّـنشئة الاجتماعيّة وكلـّـهم يطوّرون الثـّـقافة.
ولقد كانت الثـّـقافة تُدرس في إطار علم الأناسة الثـّـقافيّ لكن في منتصف القرن العشرين صاغ ريتشرد هوغارت مصطلح "الدّراسات الثـّـقافيّة" كمادّة بحثيّة أرادها أن تكون مستقلـّـة بذاتها عن باقي العلوم الاجتماعيّة. وخلال السـّـبعينات برز ستيوارت هول (Stuart Hall) وصديقه بول ويلـّـس (Paul Willis) إلى جانب مجموعة أخرى من الباحثين أرادوا أن يجعلوا الدّراسات الثـّـقافيّة حركة فكريّة عالميّة. وقد نقدوا ما أسموه الثـّـقافة الشـّـعبويّة والثـّـقافات الجماهيريّة واعتبروها نتاجا رأسماليّا مستعيرين الكثير من المفاهيم التي طوّرتها مدرسة فرانكفورت كمفهوم "صناعة الثـّـقافة". وقد اتـّـبعوا مناهج ماركسيّة في استكشاف العلاقات بين الأشكال الثـّـقافيّة إذ اعتبروها أشكالا للبنى الفوقيّة أنتجتها البنى التـّـحتيّة. لكن مع تقهقر الحركات العمّاليّة وصعود الحركات اليمينيّة إلى السـّـلطة ومع تغيّر الواقع السّياسيّ العالمي الذي أدّى إلى انهيار الإتـّـحاد السّوفييتي، لم يجد هؤلاء من تعليل لذلك سوى في السياسة الثـّـقافيّة التي جعلت العمّال يحيدون عن مسارهم. ولتفسير تلك التـّـحوّلات انكبّ هؤلاء الباحثون على أعمال ماركسيّة قديمة عنيت بالثـّـقافة كأعمال الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) الذي رأى أنّ الثـّـقافة وسيلة ناجعة في التـّـحكـّـم الاجتماعيّ والسـّـياسيّ (الهيمنة الثـّـقافيّة عند غرامشي).
الهيمنة عند غرامشي ثقافيّة إيديولوجيّة: "الجماعات المهيمنة في المجتمع، بما في ذلك، بصفة أساسيّة وليس حصريّا، الطـّـبقة الحاكمة يُبقون على هيمنتهم عبر ضمان القبول العفويّ من طرف الجماعات التـّـابعة، بما في ذلك الطـّـبقة العاملة، وعبر البناء المتفاوَض عليه لاتـّـفاق سياسيّ وإيديولوجيّ يشمل كلاّ من المهيمن والمهيمن عليهم". (Dominic Strinati (1995), An Introduction to Theories of Popular Culture, P165)
ثمّ ظهر خط فكريّ آخر في الدّراسات الثـّـقافيّة ركـّـز على دور "الوكالة" في الثـّـقافة فاعتبر الجماعات الاجتماعيّة وكالات (agencies) خاضعة للثـّـقافة لأنّ وعيها السّياسيّ ومدى أفعالها محدودين بموقعها من البنى الاقتصاديّة والسّياسيّة. القول بخضوع الوكالات الاجتماعيّة يستبعد عنها كلّ مساهمة في صنع الثـّـقافة أو تشكيل الواقع. وفي مقابل هذا، قالت الانثروبولوجيا بأنّ الوكالات تتمتـّـع بقوّة تجعلها تناهض وتقاوم البنى المجتمعيّة. ومن الجليّ من خلال الأعمال التي كتبها أصحاب الدّراسات الثـّـقافيّة عن الوكالات أنّهم لم يولوا أهمّية للاضطهاد وأساليب الهيمنة في المجتمعات الحديثة ولم يعترفوا بأنّ تلك الوكالات لها سياسات خاصّة بها قد تكون مناهظة لسياسات البنى الاجتماعيّة. وأمّا الفكرة الثـّـانية التي ركـّـزت عليها الدّراسات الثـّـقافيّة فهي "إنتاج المعاني" ودور المعاني في الممارسات وفي الحياة اليومّية. وفي نهاية المطاف حوّلت بعض الدّراسات الثـّـقافيّة اهتمامها إلى العولمة ونقد الممارسات المعارضة لهيمنة الثـّـقافة الغربيّة.
ولا زالت بعض الدّراسات الثـّـقافيّة الماركسيّة تركـّـز على الممارسات اليوميّة في علاقتها بالسـّـلطة وتدرس الثـّـقافات الثـّـانويّة في علاقتها بالثـّـقافات المهيمنة. لكنّ عدم توحّد النـّـظريّات التي أنتجتها الدّراسات الثـّـقافيّة بكلّ اتـّـجاهاتها وكذلك اتـّـساع الحقل البحثيّ الذي اتـّـخذته موضوعا لها جعل النـّـاقدين يرفضون أن تكون موضوعا بحثيّا أكاديميّا. ومع بداية القرن الواحد والعشرين لم تعد تهتمّ الدّراسات الثـّـقافيّة سوى بدراسة ونقد الثـّـقافة الشـّـعبويّة أو ثقافة الجماهير، كما يحلو للبعض أن يسمّيها، مركـّـزة على المؤسّسات التي تصنع الثـّـقافة وتروّجها كسلع استهلاكيّة.
تعريف الثـّـقافة:
الثـّـقافة أدوات قويّة يمتلكها الإنسان ويستعملها في الإستمراريّة على قيد الحياة إذ هي التي تعطي معنى لوجوده وهي التي تحدّد العلاقات الاجتماعيّة القائمة في مجتمع ما فلو أردنا أن نقيس درجة التـّـقدّم أو التمدّن في مجتمع ما، ما علينا إلاّ أن نفحص الأفكار المحمولة والمنظومات الثـّـقافيّة الموجودة فيه. ولكنّ الثـّـقافة تتـّـصف أيضا بكونها ظاهرة هشـّـة فهي تتغيّر باستمرار ولا تثبت على حال وقابلة للضـّـياع والتـّـلاشي، وقابلة للكسر بسهولة والإضمحلال أمام ثقافات أخرى. وقد تكون الثـّـقافة عاجزة أو غير مرنة وقد توصف بأنـّـها ثقافة عنف أو ثقافة سلم وانفتاح أو أنّها ثقافة حرب وعدوانيّة أو أنّها ثقافة راقية أو منحطـّـة. أذكر هذه النـّـعوت حتـّـى أبيّن منذ البداية أنّ الثـّـقافة موضوع معقـّـد وأنّها في ذهن العامّة خاضعة دوما للمقاييس المعياريّة. أمّا هشاشة الثـّـقافة وتغيّرها واضمحلالها فيحدث لسبب بائن وهو أنّها موجودة في أذهاننا فقط وليس على أرض الواقع. وحتـّـى الأشياء الموجودة فعلا على أرض الواقع والتي تدخل في إطار الثـّـقافة مثل الكتابة (كرموز) واللـّـغة (المنطوقة والمكتوبة) وطرق الحكم (أجهزة السـّـلطة مثلا) والمباني (الجانب المعماريّ) فهي نتائج للثـّـقافة وليست هي الثـّـقافة ذاتها. معنى هذا أنّ الثـّـقافة نسيج أو بناءات أو تركيبة ومنظومات مجرّدة تتشكـّـل من عدّة طبقات أو من عدّة بناءات ومكوّنات. وللتـّـدليل على هذه الفكرة أضرب مثالا: عندما أشاهد مباني أو آثارا قديمة لمباني وقصور، تلك المباني والقصور تعكس أنماطا ثقافيّة أي فكرا معيّنا وليست هي الثـّـقافة ذاتها، ولكن يمكنني أن أستقرئ الأشكال الثـّـقافيّة التي كانت موجودة عندما شيّدت تلك المعالم. وعندما أقوم بزيارة لأهرامات مصر، أشاهد رسوما تروي قصصا عن الفراعنة وبفحص ما أشاهد يمكنني التـّـعرّف على الأفكار التي كان يحملها المصريّون القدامى. الأهرامات أضرحة بُنيَت كنتيجة لمعتقدات معيّنة آمن بها المصريّون القدامى واستعملوا في تشييدها المعرفة والمهارات المتوفـّـرة لهم. المعالم الأثريّة والمباني حتـّـى القائمة منها في الوقت الرّاهن وكلّ شيء ماديّ ليس هو الثـّـقافة وإنّما نتاج للمنظومة الفكريّة والعقائديّة أو للثـّـقافة.
وفي السـّـنوات الأخيرة تحدّث أصحاب نظريّات الصـّـراع والتـحكـّـم الاجتماعيين عمّا أسموه "سراب الثـّـقافة الوطنيّة" وهذه التـّـسمية تطلق على الطـّـرق التي بواسطتها تعمل الأنظمة الوطنيّة، في البلدان الرّاسماليّة، على الحفاظ على التـّـحكـّـم الاجتماعيّ الذي لا يتمّ فقط عبر التـّـسلـّـط (coercion) وإنـّـما عبر الهيمنة باستعمال منظومة من "الحقائق" المفتـَـرَضة تـُـبقي على الامتيازات وعلى التـّـفاضل والتـّـمايز الموجودين في المجتمع. تلك المنظومة الثـّـقافيّة تعمل، دون أدنى شكّ، لصالح الطـّـبقات المهيمنة وتفضـّـل جنسا على آخر وعرقا على باقي الأعراق وجهات جغرافيّة على جهات أخرى. لكنّ الثـّـقافة الوطنيّة، لكي تضطلع بتلك المهامّ على أحسن وجه، تنشئ باسمرار "حقائق" جديدة "واضحة" تساير التـّـغيّر الذي يحدث في النـّـظام الاجتماعيّ. وتكرّس الثـّـقافات الوطنيّة نوعا من الإقصاء والحرمان القائمين على نظرة تزعم أنّ الفكر والفنون ميادين خاصّة لا مجال فيها لعامّة النـّـاس ولذلك تنشئ الأنظمة ثقافات خاصّة بالعامّة تسمّى ثقافات شعبيّة. (سأتحدّث في الجزء الثـّـاني من هذا عن مدرسة فرانكفورت وصناعة الثـّـقافة).
ويمكن القول إنّ عمليّات صنع الثـّـقافة الوطنيّة كانت في أقدم العصور متمثـّـلة في الخرافات والأساطير، واليوم تغيّرت تلك العمليّات، شكلا ومضمونا، فصارت عامّة النّاس لا تشارك فيها وإنّما هي خاضعة لتأثيرها خضوعا تامّا. اليوم يعيش النـّـاس في زمن أصبحت فيه الثـّـقافة الوطنيّة المشتركة "الواضحة" هي التي تجمع بين "الدّول" ورعاياها عبر الاشتراك في رؤية للوجود بحقائقة وبأوجه عدم اليقين فيه. ومن دون تلك الثـّـقافة الوطنيّة يكون من الصـّـعب على الدّول الحديثة أن تتواجد؛ النـّـاس لئن لم يحصلوا على "تعليمات" حول معنى الدّولة الحديثة ومعنى الحياة الاجتماعيّة لن يستطيعوا التـّـأقلم مع التـّـعقيد الكبير الذي حصل في الدّولة نفسها وما تقوم به وكانـّـما تدرّبهم الدّولة على كيفيّة التـّـعامل مع التـّـعقيد. اليوم يُصوّر العمل على أنّه الأساس الوحيد للكرامة والازدهار وهذا يجعل العاطلين شريحة غير مرغوب فيها حتـّـى أنّ المواطن العاديّ لا يدرك أنّ البطالة ليست من صنع أيديهم. ويتمّ التـّـركيز على العمل والانتاج لأنّ الاقتصاد هو الذي يتحكـّـم بكلّ البنى الاجتماعيّة والمجتمعيّة الحديثة. غير أنّ وصف الثـّـقافة الوطنيّة بالسـّـراب يوحي بأنـّـها كذبة وهذا قول غامض وإن كان الكذب موجودا فيها. وصفها بالثـّـقافة الشـّـعبيّة يصبح بالتـّـالي الأصحّ لكن لا وجود لأدلـّـة يقينيّة تثبت أنّ تلك الثـّـقافة ناتجة عن تخطيط مسبق أو عن تآمر على الجماهير العريضة.
تركيبة الثـّـقافة:
الثـّـقافة يتمّ توارثها وتعلـّـمها وتنعكس في أنماط السّلوك وطرق الإدراك للأشياء وكيفيّات التـّـعامل معها. هي منظومة متكاملة ولكن لها مستويات أو طبقات. هي جسم يتكوّن من الأفكار والمعتقدات ومن العادات والتـّـقاليد يميّز المجتمع. وذلك الجسم ككلّ يمتاز، بكونه مشتركا، أي يملكه الجميع ويتعلـّـمه الصّغار من الكبار عبر ما يسمّيه علماء الإجتماع "التـّـنشئة الإجتماعيّة" ويساهمون في صناعته أيضا. وهنا أشير في عجالة إلى أنّ التـّـنشئة الإجتماعيّة (socialization) ليست مجرّد التـّـعلـّـم للرّصيد الثـّـقافي وليست مجرّد التـّـلقـّـي، ولكنّها، بالإضافة إلى ذلك، تعلـّـم لكيفيّة العيش داخل الثـّـقافة (ترسيخ المطابقة للأخلاق والقيم والمعايير والأدوار الموجودة في المجتمع) فهي إذا تكريس للتـّـحكـّـم الإجتماعي (Social Control). التـّـحكـّـم الإجتماعيّ تكريس للقيم والمعايير و يتمّ عن طريق الوكالات الرّسميّة formal agencies مثل القانون والمدارس أو عن طريق الوكالات غير الرّسميّة مثل الأنداد والعائلة. وقد اختلفت الرّؤى حول التـّـنشئة الإجتماعيّة حسب المدارس، ولكنّي أقول إنّها إعداد الفرد لعمليّة الإضطلاع بدور ما في عمليّة الإنتاج وهذا يتطلـّـب تعلـّـم الثـّـقافة الموجودة وغرسها فيه (enculturation). وخلال عمليّات التـّـنشئة الإجتماعيّة تصبح الثـّـقافة نسيجا نفسيّا داخليّا للفرد تنعكس فيه مختلف الضّوابط الإجتماعيّة إلى جانب القيم والمعايير والأخلاقيّات التي تحدّد الخطأ والصّواب في السّلوك. الثـّـقافة إذا يتعلـّـمها الأفراد طوال حياتهم، ويتعلـّـمونها وهم يكبرون، ولا تنتهي عمليّة التـّـعلـّـم إلاّ بموت الشـّـخص. وقد حدّد علماء الإجتماع ستّ "وكالات" للتـّـنشئة الإجتماعيّة هي: العائلة والمدرسة والأنداد ووسائل الإعلام والدّين ومؤسّسات العمل.
المعايير هي قواعد اجتماعيّة تعرّف التـّـرقـّـبات المتعلـّـقة بالأفراد في وضعيّات وحالات معيّنة: هي قواعد للسـّـلوك تعرّف ما هو "طبيعيّ" في المجتمع. أمّا القيم فهي الأفكار والمعتقدات التي تحدّد ما هو مهمّ وتعرّف الخطأ والصّواب في السّلوك. القيم هي المبادئ التي نجدها وراء المعايير. القيم والمعاييرُ التي تنبثق منها تمثـّـل إذا ثقافة المجتمع التي هي أفكار تتعلـّـق بطريقة الحياة في المجتمع.
نظرنا في الفقرة السّابقة للثـّـقافة كتركيبة كلـّـية أو كنسيج مجرّد في أصله يجمع الكلّ في منظومة واحدة. تلك الثـّـقافة ككلّ متكامل موجودة، داخليّا، لدى كلّ فرد ولدى المجموعة التي ينتمي إليها. ولكنّ ذلك الكلّ الثـّـقافيّ يمكن تجزئته إلى أقسام أو مركـّـبات تسمّى "ثقافات ثانويّة" أو "تحتيّة" (subcultures). أقول "ثقافة تحتيّة" لأنّها قد تكون خاضعة أو مهمّشة أو غير مطابقة للثـّـقافة الرّئيسيّة. قد نجد لدى الفرد ثقافة ثانويّة تتعلـّـق بهويّته وتحدّدها، وقد نجد لديه ثقافة إثنيّة أيضا لأنّه ينتمي لعرق معيّن، وقد نجد لديه ثقافة ثانويّة أخرى تتعلـّـق بانتمائه الجندريّ (كونه أنثى أو ذكر أو ما بينهما).
النّاس منذ تشكـّـلت المجتمعات البدائيّة حتـّـى اليوم يبحثون عن طرق بها يفهمون المجموعات البشريّة التي تعيش من حولهم ففي اللّـغة تقول "هم" عند التـّـحدّث عن الآخرين وتقول "أنا" أو "نحن" عند الحديث عن نفسك أو عن مجموعتك التي تنتمي إليها. وهذا الاهتمام بالآخر أدّى إلى ظهور تصنيفات عديدة للثـّـقافات وذلك بربطها بالتـّـاريخ إذ قد تمّ تصنيف المجتمعات بدءا بالحقبات البدائيّة التي توصف إلى اليوم بالهمجيّة حتّـى المجتمعات الصّناعيّة الحديثة، وحتـّـى مرحلة الحضارة الحاليّة لا تخلو من همجيّة أيضا. وتلك التـّـصنيفات تعكس التـّـنوّع البشريّ. وفي أغلب الأحيان يعكس تصنيف البشر إلى أنماط ثقافيّة أحكاما صادرة على الآخرين فيما يخصّ معتقداتهم وثقافاتهم وممارساتهم. وكثير من التـّـصنيفات تعكس ما يسمّى "مركزيّة الإثنيّة" (ethnocentrism) وهو القول بأنّ إثنيّة معيّنة أو عرقا معيّنا هو أفضل من باقي الأعراق ومتفوّق عليها. وأمّا تصنيف المجتمعات منذ القدم حتّى اليوم فيمكن تلخيصه في هذه الأنواع: ـ مجموعات الصّيـّـادين، الذين كانت مجتمعاتهم (البدائيّة) منظـّـمة حول الصّيد. ـ الرّعاة، الذين يعيشون من الرّعي في مجتمعات بدائيّة أيضا. ـ المزارعون الذين يعيشون من فلاحة الأرض. ـ المجتمعات الصّناعيّة. ـ مجتمعات ما بعد التـّـصنيع الحالية.
السّمات أو الميزات الثـّـقافيّة المشتركة بين مجموعة من مجتمع معيّن تـُـعتبَر أيضا ثقافة ثانويّة لأنـّـها تفصل المجموعة عن باقي المجتمع أو تجعلها مكوّنا متميّزا بخصائص معيّنة. ومن الأمثلة على الثـّـقافات الثـّـانويّة أذكر سكـّـان الصّحراء في تونس إذ يعتبرون أنفسهم مختلفين عن باقي التـّـونسيّين بقيمهم التي يحملون، والقبائل في الجزائر، والصّعيديّين في مصر. وفي لبنان ثمّة مجموعات عديدة تختلف كلـّـية عن بعضها البعض: دروز، أرمن، إغريقيّون كاثوليك ، إغريقيّون أرثودوكس، سنـّـة وشيعة وموارنة وأكراد وفلسطينيّون وغيرهم. هذه المجموعات لها ثقافات ثـانويّة ولكنّها تشترك في هويّة واحدة تجمع الكلّ وفي عادات تتعلـّـق بطرق العيش، وأمّا أهمّ قاسم مشترك موحّد فهو بلا شكّ اللـّـغة حتـّـى وإن نطقت بها كلّ مجموعة بلهجة مختلفة. وثمـّـة خصائص ثقافيّة توحّد الثـّـقاقات الثـّـانويّة، موروثة تاريخيّا، متأتـّـية من الانتماء إلى أصل واحد. وأمّا ما يدعـّـم الإنتماء ويجعل الثـّـقافات الثـّـانويّة تنصهر في ثقافة واحدة فهي التـّـجارب المشتركة التي تمرّ بها مجموعات المجتمع. فعلى سبيل المثال الحرب الأهليّة التي مرّ بها لبنان وكذلك الاحتلال الإسرائيليّ له جعل المسيحيّين والمسلمين أقرب من بعضهم البعض من ذي قبل. وإذا كان لبنان حالة خاصّة فإنّ مجتمعات أخرى مثل المجتمع الفرنسيّ نجد فيه الثـّـقافة الأمّ هي المهيمنة فالإختلافات موجودة ولكنّ المجموعات الثـّـقافيّة الثـّـانويّة تبقى منخرطة تحت ثـقافة فرنسا ككلّ.
الثـّـقافة المهيمنة تحجب الثـّـقافات الثـّـانويّة وقد تؤدّي إلى اضمحلالها وبذلك ينقطع وجود المجموعة الثـّـقافيّة كمجموعة تنتمي إلى جذور تاريخيّة مشتركة. الإيرلنديّون الذين يعيشون في بريطانيا فقدوا لغتهم المسمّاة (Gaelic) وصاروا يعتبرون أنفسهم بريطانيّين وفي سلوكهم هم منضوون تحت التـّـيّار الثـّـقافيّ الرّئيسيّ. وبصفة عامّة الثـّـقافة الثـّـانويّة تدعمها اللـّـغة المشتركة بين عناصر المجموعة الإجتماعيّة وكذلك التـّـقاليد والقيم والمعتقدات المشتركة. وهذه كلـّـها أشياء يتعلـّـمها الإنسان عبر التـّـنشئة الإجتماعيّة.
قلت إنّ المستوى الأوّل للثـّـقافة هو التـّـركيبة الكلـّـيّة والمستوى الثـّـاني يتمثـّـل في الثـّـقافات الثـّـانويّة. أمّا المستوى الثـّـالث للثـّـقافة فيتمثـّـل في مختلف الأفكار والمبادئ العامّة أو ما يسمّى "الشـّـموليّات الثـّـقافيّة" (Cultural Universals) أو القيم العالميّة التي تشترك فيها البشريّة جمعاء. فبقطع النـّـظر عن التـّـواجد الجغرافيّ للبشر فإنّهم يشتركون في هذه الخصائص التي تعتبر مبادئ أو قواسم مشتركة لـ "ثقافة الإنسان": ـ التـّـواصل عبر اللـّـغة ـ استعمال الجندر والعمر في تصنيف البشر ـ الإيمان بالأديان وممارسة الطـّـقوس الدّينيّة وغير الدّينيّة ـ الإرتباط بين النّساء والرّجال عبر مؤسّسة الزّواج ـ العيش في عائلات وتصنيف النّاس حسب القرابة والعرق وتحديد العلاقات حسب معايير واحدة ـ الإيمان يمسلـّـمات واحدة فيما يتعلـّـق بتربيّة الأطفال وتوزيع العمل وإدارة الإنتاج ـ الإيمان بقوانين معياريّة واحدة تحدّد السّلوك الجنسيّ ومعاني الاستقلاليّة ـ الإشتراك في أفكار وقيم تحدّد كيفيّة التـّـعامل مع الجسد: تجميل الجسم بالحليّ على سبيل المثال ـ الإشتراك في الفنون والآداب والميثولوجيا ـ دفن الأموات وتذكـّـرهم وتخليد أعمالهم، على الأقلّ البعض منهم الذين قدّموا خدمات عظيمة لمجتمعاتهم وغير ذلك.
الثـّـقافة والمجتمع:
الثـّـقافة مادامت تـُـتـَـعلـّـم فهي تنتج سلوكا، ولذلك هي تركيبة من السّلوكات ومن طرق الإدراك يتمّ تلقـّـيها من المجتمع الذي هو أيضا تركيبة من النـّـظم المترابطة عضويّا والمتفاعلة مع بعضها البعض (حسب نظريّات الوظيفيّة والتـّـفاعليّة الرّمزيّة) أو المتصارعة (حسب نظريّات الصّراع). وليس البشر وحدهم هم الذين ينظـّـمون أنفسهم في مجتمعات بل إنّ الحيوانات الإجتماعيّة مثل الذّئاب والفيلة والقردة تعيش في مجتمعات خاضعة لضوابط الأدوار. ولذلك يقول علماء السّلوك الحيواني بأنّ الحيوان يستعمل الثـّـقافة أيضا. وهذه المسألة مثيرة للجدل لأنّ الحيوان إذا كان يستعمل الثـّـقافة فمعنى ذلك أنّه يصنعها أيضا، وهذا الأمر نجد حوله تضارب في الآراء. لكنّ الأمر اليقينيّ فيما يتعلـّـق بالإنسان فهو أنّ الثـّـقافة سلوك متوارث (نابع من منظومة الأفكار والقيم المتوارثة أيضا)؛ فإذا اكتفينا بهذا القول في تعريف الثـّـقافة يمكن الجزم بأنّ الحيوان أيضا يستعمل الثـّـقافة إذ أنّ بعض الحيوانات تعلـّـم أبناءها كيفيّة العيش وطرق الصّيد وكيفيّة تجنـّـب المخاطر من أجل الإستمراريّة في البقاء. هذا صحيح بالنـّـسبة للحيوانات التي تمتلك نوعا من الذّكاء كالشـّـامبنزي مثلا لكنّ السّؤال الذي لازال مطروحا هو الآتي: هل أنّ الحيوان يفكـّـر مادام يتعلـّـم؟ بعض الأنواع من الحيوانات تعلـّـم أبناءها هيرارشيّة السـّـلطة الموجودة داخل المجموعة ومختلف القواعد الإجتماعيّة التي تحكم القطيع. ثمّ إنّ الذّكور يتعلـّـمون مهارات الصّيد وتتعلــّـم الإناث كيفيّة السّهر على الصّغار.
بيد أنّ المجتمعات البشريّة عبارة عن مجموعات متعدّدة تتفاعل فيما بينها إمّا بطرق مباشرة أو غير مباشرة، والمجموعات ترى أنّها متميّزة عن غيرها بما يحمل أعضاؤها من أفكار وتقاليد ومعتقدات وترقـّـبات مشتركة. وإذا كانت ثقافات المجموعات المتعدّدة التي نجدها في المجتمع الواحد مختلفة فإنـّـها قطعا مرتبطة ببعضها البعض لأنّ الثـّـقافة موجودة في الأذهان كما قلت ولأنّها موروثة. الثـّـقافة لا يمكن أن تكون إنتاجا لشخص واحد أبدا بل هي جماعيّة ولذلك فهي تتطوّر باستمرار إذ هي منتجات تنتجها أذهنة الأفراد والجماعات التي تتفاعل فيما بينها وتتصارع فيما بينها أيضا. الأنماط الثـّـقافيّة مثل اللـّـغة والأفكار السّياسيّة لا معنى لها، أي لا قيمة لها على أرض الواقع، إلاّ فيما تلعبه من دور في عمليّات التـّـفاعل بين النّاس. اللاّتينيّة لا قيمة لها اليوم لأنّها لغة ميّتة ولا يتواصل بواسطتها النّاس ولكنّ الأكادميّين يدرسونها لأنـّـها كانت في زمن ما لغة منطوقة تحمل ثقافة وعلما وقيما وغير ذلك. والأفكار السّياسيّة لا قيمة لها فيما لو كنت أعيش، على سبيل المثال، في جزيرة منعزلة ضمن عدد قليل من النّاس لا يفوق الخمسة أو العشرة: هل سنحتاج إلى انتخاب رئيس وتكوين برلمان وإلى نظريّات سيّاسيّة؟ في هذه الحال نظلّ نحمل ثقافة ما ولكنّها تكون بسيطة.
خصائص الثـّـقافة:
أوّلا: الثـّـقافة توفـّـر ميكانيزمات للتـّـأقلم:
يقرّ علماء الإحاثة أو الباليونطولوجيا (دراسة أشكال الحياة القديمة بالإعتماد على الحفريّات والمخلـّـفات البشريّة) بأنّ المجتمعات الأولى ظهرت في إفريقيا قبل مليونين ونصف من السـّـنين تقريبا ثمّ ارتقى الإنسان البدائيّ وتمكـّـن من الإنتقال إلى مناطق جغرافيّة أخرى. ولكي يتمكـّـن الإنسان من العيش في ظروف غير ملائمة كالمناطق الباردة مثلا كان لا بدّ له من الثـّـقافة ومن المعرفة لكي يستمرّ في البقاء. ولعلّ الثـّـقافة بدأت في التـّـجمّعات البشريّة في شكل قصص تقدّم تفسيرات لظواهر شاهدها الإنسان الأوّل في محيطة وفي اكتساب مهارات تمكـّـنه من الصّيد ومن إشعال النّار وغير ذلك ثمّ تطوّرت مع تطوّره لتشمل كيفيّة صنع الملابس من جلود الحيوان وحفر الكهوف ثمّ بناء الأكواخ... وكلـّـما ازدادت تلك الجماعات تعقيدا اردادت إتقانا لصناعة الثـّـقافة إلى أن اكتشفت وطوّرت أساليب الزّراعة ثمّ التـّـجارة. بهذه الطـّـريقة نفهم الثـّـقافة على أنّها عامل يقدّم أدوات تساعد على التـّـأقلم فالأب يعلـّـم ابنه كيفيّة فلاحة الأرض والأمّ تعلـّـم ابنتها رعاية الأطفال، والغرض من ذلك كلـّـه في الأزمنة الغابرة المحافظة على النـّـوع البشريّ. هذا ما تقول به نظريّات الأنثروبولوجيا: الثـّـقافة قدّمت للإنسان أدوات مفيدة له في عمليّة التـّـنافس من أجل البقاء والصّراع من أجل البقاء. وهذا القول يفترض أنّ الإنسان كان يتنافس مع كائنات أخرى من أجل السـّـيطرة على المحيط وتعميره. صراع الإنسان من أجل البقاء جعله أشرس كائن على وجه الأرض.
واليوم لا زال الإنسان بحاجة إلى الثـّـقافة لأنـّـها تمكـّـنه من إضفاء معنى على وجوده ولأنـّـها تكرّس قوّته وتشرعن صراعه وتضمن توراث المهارات بين الأجيال المتعاقبة. الإنسان لا زال يوجد تقنيّات جديدة تمكـّـنه من البقاء والتـّـأقلم مع المحيط. والحقيقة هي أنّ التـّـطوّر الثـّـقافيّ يحدث حسب وتيرة أسرع بكثير من الإنتخاب الطـّـبيعيّ ومن الإرتقاء البيولوجيّ ولذلك ظلّ الإنسان على حاله أي أنّ الإنتخاب الطـّـبيعيّ لم يؤثـّـر فيه. هذا ما تقول به النـّـظريّات الأنثروبولوجيّة الدّاروينيّة.
ثانيا: الثـّـقافة موروثه ويتمّ تعلـّـمها:
الطـّـفل عندما يولد يجيئ إلى هذا العالم مسلـّـحا بدوافع غريزيّة أساسيّة تتمثـّـل في الحاجة إلى الغذاء والشّرب وغيرهما فنجده يبكي عندما يكون جائعا ويبتسم عندما يكون راضيا. وسواء اعتبرنا ذلك أنماطا سلوكيّة غريزيّة تمكـّـنه من إشباع تلك الدّوافع أم لا فمن المؤكـّـد انّ تلك التـّـصرّفات تفتقر إلى المحتوى الثـّـقافيّ وإلى المعرفة الثـّـقافيّة. ولكنّ الرّضيع الذي يحتاج إلى رعاية الكبير لكي يعيش وبيقى على قيد الحياة يحمل استعدادا غريزيّا للتـّـعلـّـم فنجده يبدأ في تعلـّـم اللـّـغة منذ السّنة الأولى من ولادته. الطـّـفل "كائن" له قدرة عجيبة على التـّـعلـّـم إذ ما إن يبلغ الخامسة أو السّادسة حتـّـى يستوعب قسطا كبيرا من ثقافة والديه وعائلته. الثـّـقافة إذا ليست غريزيّة ولا تولد مع المولود وليس المولود مبرمَجا باستعداد مسبق لتعلـّـم ثقافة معيّنة وإنّما يتعلـّـم ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه. المولود لا يولد بقيم ومعايير ومفاهيم عن الخير والشـّـرّ وبأفكار عن جنسه وإنـّـما يتعلـّـم ذلك كلـّـه.
وفي خضمّ عمليّات التـّـعلـّـم والتـّـفاعل بين النّاس ينتج ويكتشف كلّ جيل أفكارا جديدة ويخترع تقنيات جديدة ويتعلـّـم مهارات جديدة وبذلك يساهم في تطوّر الثـّـقافة. ولكنّ الكثير من النّاس غافلون عن هذه الحقيقة ولا يرون التـّـطوّر الذي يحصل في الفكر الدّينيّ مثلا وفي الفكر السّياسيّ وفي الفنون بصفة عامّة. التـّـغيّر الإقتصاديّ والإجتماعيّ بصفة عامّة ينعكس في التـّـغيّر الثـّـقافيّ. على سبيل المثال نجد، اليوم، أنّ دخول رأس المال في قطاعات التـّـرفيه قصد تشجيع الاستهلاك أدّى إلى تغيّر في مفهوم الجماليّة التي كانت من قبل تضع معايير للفنّ الرّاقي. اليوم تتغنّى الثـّـقافة الرّأسماليّة بالإختلاف وبخاصّية التـّـنوّع في التـّـجربة الجماليّة وعدم استقرارها وذلك بهدف ترسيخ الموضة والعروض الثـّـقافيّة، والهدف النّهائيّ من ذلك كلـّـه المحافظة على النـّـظرة إلى الأشكال الثـّـقافيّة كسلع يتمّ إنتاجها وبيعها وتسويقها. هذه خاصّية من خصائص مجتمعات ما بعد الحداثة التي لم تكن موجودة في مجتمعات القرون الوسطى مثلا.
وبالعودة إلى تطوّر الثـّـقافة، أقول إنّ الخاصّية الأولى التي تتـّـضح ممّا ذكرت هي أنّ الثـّـقافة تراكميّة (cumulative): كلّ جيل يزيد إلى المنظومة الثـّـقافيّة الكبرى منظومات ومكوّنات أخرى. كان النّاس في العصور الغابرة لا يعرفون لما تثور البراكين والزّوابع ولما تحدث الزّلازل فأرجعوها إلى أرواح شرّيرة (في حقبة ما يسمّيه علماء الأنثروبولوجيا "الأرواحيّة البدائيّة") ولكنّ النّاس اليوم يعلمون الكثير عن هذه الظـّـواهر وبالتـّـالي لو قلت لشخص ما إنّ روحا شرّيرة سبّبت ثورة بركان إيتنا مثلا لسخر منك. المهمّ هو أنّ التـّـطوّر الثـّـقافيّ يحدث نتيجة التـّـأثير التـّـراكمي للثـّـقافة. وفي هذا الصّدد يتحدّث بعض الدّارسين للثـّـقافة عن الإختراع الثـّـقافيّ: ممارسة الزّراعة جاءت كنتيجة لاختراع ثقافيّ قبل 8000 أو 10000 سنة فتأثـّـرت الثـّـقافة التي وُجدت بعد ذلك بذلك الإختراع. وأمّا ما يؤدّي إلى التـّـطوّر الثـّـقافي فهو التـّـعقيد الذي يحصل في المجتمع كما قلت. والمجتمع يزداد تعقيدا بازدياد أعداده ومؤسّساته وذلك الإزدياد يؤدّي إلى تراكم الأفكار والثـّّـقافة. وبهذا المعنى تصبح الثـّـقافة حلولا لمشاكل البقاء على قيد الحياة والإستمراريّة ولمختلف التـّـهديدات التي تهدّد الحياة في محيط يتغيّر دائما ولايثبت على حال.
اختراع الزّراعة وممارستها في بلاد الرّافدين كان الهدف منه إيجاد الغذاء والتـّـحكـّـم بعمليّة إيجاده لا لشيء إلاّ لضمان البقاء للنّوع البشريّ. وأمّا النـّـتائج التي ترتـّـبت على ذلك فتمثـّـلت في جعل المجتمعات تستقرّ في أمكنة جغرافيّة معيّنة، وذلك الإستقرار أدّى إلى مزيد من الإختراعات التـّـقنيّة وغير التـّـقنيّة وإلى تطوير أفكار سياسيّة ومعتقدات وطرق تنظيميّة. ولم تتوقـّـف التـّـراكمات عند ذلك الحدّ بل استمرّت تلك المجتمعات في إيجاد نظم جديدة اجتماعيّة واقتصاديّة تتحكـّـم بها "نخب" معيّنة ماسكة بزمام الأمور. ظهرت الزّراعة ثمّ التـّـجارة لتحلّ محلّ المقايضة ثمّ تمّ تشييد المدن (بابل العراق، طيبة في مصر Thebes ...)، ثمّ ظهرت صناعات يدويّة وحرف وهكذا دواليك.
الإشكال القائم اليوم في البلدان العربيّة هو أنّ النّاس يعانون من نقص التـّـعليم ويحجب عنهم الحقائق الإعلامُ الموجّه فلا يدركون التـّـغيير الحاصل ولا يبصرونه ولا يؤمنون بوجوده. وفي المجتمعات الغربيّة ثمّة أيضا مقاومة نّـفسيّة للتـّـغيير وخلط موجود في الأذهان بخصوص الثـّـقافة يسمّى "إنصدام المستقبل" (Future Shock). انصدام المستقبل كتاب ألـّـفه عالم الإجتماع ألفين توفلر (Alvin Toffler) ونشره سنة 1970، وفيه يصف الحالة النـّـفسيّة للأفراد والمجتمعات المتمثـّـلة في خوف مبالغ فيه من الإختراعات التي تتمّ بصورة متلاحقة في أزمنة قصيرة وكذلك عدم القدرة على فهم ما يحدث. يقول توفلر إنّ المجتمع يمرّ بحالة من التـّـغيّر السّريع وبثورة تقنيّة سريعة أثـّـرت في النّاس. وغالبيّة المشاكل الإجتماعيّة الحالية (كآبة، إحباط، قلق...) في رأيه هي أعرَاض لصدمة المستقبل. ولشرح فكرته أضرب هذا المثل: نجد أشخاصا كـُـثرا يحملون ثقافات تعود إلى ما قبل اختراع الهاتف المحمول وأجهزة الحاسوب والإنترنات وغير ذلك، ولدوا قبل الحرب العالميّة الثـّـانية، يعانون من صعوبة في التـّـأقلم مع المجتمع "ما بعد الصّناعيّ" الحديث.
تغيّر الثـّـقافة:
التـّـراكم الثـّـقافيّ لا يتمّ بصورة آليّة أو على وتيرة معيّنة يمكن قياسها ولكنّ الجديد في الثـّـقافة قد يتعايش مع القديم. والقديم يتلاشى شيئا فشيئا ويختفي كليّة عندما تنعدم الحاجة إليه. النّاس مثلا في المدن الكبيرة وفي معظم بلدان العالم لم يعودوا بحاجة إلى التـّـدرّب على العيش في الصّحاري والتـّـنقـّـل على ظهور الخيل ولذلك لا توجد اليوم في ثقافاتهم قيم أو أفكار تتغنّى بالفروسيّة وركوب الأهوال ومطاعنة الرّجال وغير ذلك من الأفكار التي كانت موجودة في المجتمعات القديمة. لو أنّ شاعرا كتب اليوم شعرا مثل شعر أبي الطـّـيّب الذي قال فيه: الخيل واللـّـيل والبيداء تعرفني والسّيف والرّمح والقرطاس والقلم لسخر منه النّاس. أفكار الفروسيّة وقطع الصّحاري واستعمال السّيوف ليست موجودة إلاّ كهوايات لدى أقلـّـية من النّاس فقط يتدرّبون من خلالها على التـّـحكـّـم بالنّفس، وأمّا عامّة النّاس وخاصّة منهم سكـّـان المدن فلم تعد لهم المهارات الخاصّة بهذه الأشياء: لا يحسنون ركوب الخيل ويسافرون بالقطار والطـّـائرة وفي الحرب يستعملون الأسلحة الحديثة وليس السّيوف. الثـّـقافة الحاليّة تركـّـز على تعلـّـم مهارات أخرى تشجّع على الاستهلاك وطلب العلوم الحديثة من علم فلك وتقنيّات الإعلام الآلي والـطـّـيران وغير ذلك.
الثـّـقافة في أيّة مرحلة من التـّـاريخ هي مزيج من أمجاد الماضي وإرهاصات الحاضر أي أنّها متجذّرة في الواقع والتـّـقاليد التي تحكمه لكنّ بعض الثـّـقافات قد تظلّ متقوقعة في الماضي ولا تستجيب للقوى الإبداعيّة الحيّة التي ترغب في مسايرة التـّـغيير الذي يحدث بصورة حتميّة.
كلّ الأفكار الموروثة تتغيّر وتتطوّر بما في ذلك الدّين والمعتقدات. الله في المجتمعات الغربيّة أصبح مجرّد مفهوم أو فكرة، وهذا ما أوضحه لودفيغ فيتغنشطاين، وفي مجتمعاتنا العربيّة سيحدث ذلك أيضا. الثـّـقافة وكلّ شيء موروث يتغيّر عبر الزّمن ويتطوّر ولكنّ التـّـغيّر يختلف من مجتمع إلى آخر. ونفهم من خلال ما تقدّم أنّ التـّـغيّر الثـّـقافيّ يكون أحيانا سلبيّا، إذ عندما يضطرّ الحضريّ إلى العيش في ظروف قاسية هل سيقدر على التـّـأقلم وقد فقد المهارات التي تمكـّـنه من ذلك؟
ويمكن أن نضرب مثالا آخر على تغيّر الثـّـقافة؛ اللـّـغة، وهي آداة أو نظام ثقافيّ في الأساس: العربيّة اليوم تتغيّر باستمرار بسبب الرّصيد الهائل من الألفاظ التي تدخلها عبر الإستعارة وذلك قصد مواكبة التـّـطوّر العلميّ الحاصل في الغرب فنجد كلمات كثيرة مثل كمبيوتر، ويب، تليفون، إيمايل إلخ. ذلك أمر طبيعيّ فالعربيّة في حقبة ما من التـّـاريخ أثـْـرَتِ اللـّـغات الغربيّة بألفاظ عديدة. هذا المثال يقودني إلى الحديث عن تغيّر الثـّـقافة عبر ما يسمـّـى الإستعارة. الثـّـقافات تتفاعل أيضا وتتصارع أيضا، وسأتحدّث عن ذلك لاحقا. الثـّـقافة تتطوّر عبر الإختراع للأفكار أوّلا وعبر التـّـأثـّـر بثقافات أخرى لمجتمعات أخرى أي أنّ للثـّـقافة خاصّية الإنتشار أو الانتشاريّة (diffusion or propagation). وممّا لا شكّ فيه هو أنّ المجموعات الإجتماعيّة والمجتمعات تقاوم التـّـغيّر الثـّـقافيّ حتـّـى أنّه يصعب التـّـكهّن بالخصائص التي قد تتغيّر في ثقافة معيّنة. الثـّـقافة نظام معقـّـد من المكوّنات المتشابكة ومن الثـّـقافات الثـّـانويّة التي تكوّن مع بعضها البعض نمطا أو شكلا ثقافيّا. في مجتمعاتنا العربيّة النّاس يقاومون التـّـغيير الذي قد يحصل في علاقات الزّواج والأسرة ولكنّ التـّـغيّر بصدد الحصول ويمكن أن نلاحظه اليوم: الفتاة لم تعد تتزوّج في سنّ مبكـّـرة، العائلة الممتدّة بصدد الإضمحلال، بعض الشـّـبـّـان والشـّـابّات استعاضوا عن الزّواح بالمعاشرة كما في البلدان الغربيّة. ذلك التـّـغيّر سيجبر النـّـظم القضائيّة على مواكبته في المستقبل.
الثـّـقافة والوعي:
النـّـاس في المجتمع غير واعين بثقافاتهم لأنـّـها مغروسة فيهم وتمثـّـل النـّـسيج النـّـفسيّ لهم. ولذلك هم لا يبصرون ثقافاتهم إلاّ عندما يحتكّون بمظاهر ثقافيّة لأناس أخرين فقط إذ يتفطـّـنون إلى أنّ سلوكاتهم مختلفة. وكلّ شخص، حيثما كان، يصدر أحكاما معياريّة على قيم وعادات وتقاليد الغير انطلاقا من الثـّـقافة التي يحمل. وقد يصل الاعتزاز بالثـّـقافة حدّ العداوة لثقافات أخرى لأنّ المظاهر التي لا توجد في ثقافات مجموعة ما قد تـُـعتبر ناقصة أو منحطـّـة. الأروبّيون مثلا يدينون الثـّـقافات التي تبيح تعدّد الزّوجات والثـّـقافات التي تبيح أكل الكلاب. الهنود لا يأكلون لحوم البقر وتلك فكرة ثقافيّة تعود إلى الهندوسيّة القديمة تعتبر البقرة حيوانا مقدّسا. هذه الفكرة تمثـّـل معتقدا دينيّا عندهم وتبرز أنّ الثـّـقافة، وهي فكر، هي كذلك ممارسة لسلوك معيّن. الهندوس وإن كانوا يمتازون بدرجة عالية من التـّـسامح لا يطيقون آكلي لحوم البقر. ما نستخلصه من هذا هو أنّ مركزيّة الإثنيّة لا توجد في المجتمعات الغربيّة فقط بل في كلّ المجتمعات دون استثناء. "مركزيّة الإثنيّة" تسبّب انصداما وتقزّزا من ممارسات الغير وتمنع التـّـفاهم الثـّـقافيّ.
وممّا يجعل الإنسان غير ملمّ بثقافة مجتمعه أو بالأحرى بثقافات مجتمعه هو أنّ الثـّـقافات جندريّة أي متعلـّـقة بالجندر (gender)، والجندر كما تعرّفه لورين كود (Lorraine Code) في كتابها "موسوعة النـّـظريّات الأنثويّة" ص 220: "الجندر هو تصنيف الأفراد حسب الجنس. وتـُـلصَـق بالجنس (كون الشّخص أنثى أو ذكر) منظومة ثقافيّة: أدوار اجتماعيّة قائمة على الجنس البيولوجيّ للفرد...". التـّـفرقة بين الجنس والجندر تتمثـّـل في التـّـفسير الثـّـقافيّ للجنس والتـّـعبير عن الجسد المُجَـنْـسَـن... (the sexed body). الثـّـقافة تجعل المرأة "نوعا" (category) مختلفا عن الرّجل عبر البناءات الإجتماعيّة وذلك بالإستناد إلى جسد المرأة. وبعبارة أخرى: الجنس هو الخصائص البيولوجيّة التي تجعل المرأة أنثى كالحمل والولادة والإرضاع وتجعل الرّجل رجلا بما يملك من خصائص بيولوجيّة لا تملكها المرأة. هذه أفكار في الثـّـقافة تحدّد دور المرأة ودور الرّجل أنطلاقا من الجنس البيولوجيّ وتلك الأفكار تتمثــّـل في ترقـّـبات متعلـّـقة بدور كلّ منهما. تلك الأفكار والتـّـرقـّـبات والمعايير التي تحدّد سلوك المرأة والرّجل تسمّى الجندر لأنـّـها قائمة على الجنس، والجندر بناءات ثقافيّة كما قلت. وللتـّـدليل على الخاصّية الجندريّة للثـّـقافة أقول إنّ الرّجل قد لا يعرف أشياء تعرفها المرأة والمرأة قد لا تعرف أشياء يعرفها الرّجل. هذا الأمر يجعل الثـّـقافة غير واعية أو غير قائمة على الوعي بل على التـّـقليد: المرأة تعلم أشياء عن الحمل والإرضاع لا يعلمها الرّجل ولا يمكن أن يكون واعيا بها إلاّ إذا كان طبيبا مختصّا.
كما أنّ الثـّـقافة مرتبطة بالموقع الطـّـبقيّ للفرد أو بمهن معيّنة أو بمجموعات دينيّة معيّنة فهل يمكن أن يكون الشـّـخص عارفا بكلّ تلك الثـّـقافات؟ ذلك غير ممكن طبعا. الثـّـقافة كما قلت سلوك وعمليـّـات إدراكيّة نابعة من كون الطـّـفل والبنت يتلقـّـيان نوعين مختلفين من الثـّـقافة ويـُـعاملان بطريقتين مختلفتين. ثمـّـة أشياء في الثـّـقافة خاصّة بأصحابها لا يعلمها الآخرون. هل كلّ شخص على وعي بالثـّـقافات الموجودة بين المحامين والأطبـّـاء والجنود؟ الأطبـّـاء مثلا يستعملون اختصارات عند الحديث عن الأمراض والأدوية ممّا يجعل فهم ثقافتهم عسيرة على الشـّـخص الذي لا ينتمي إليهم.
الثـّـقافة تـُـشرْعِـنُ أنماط السـّـلوك:
الثـّـقافة تقنـّـن السـّـلوك وتخضعه للمعايير وبذلك تجعله إمّا مقبولا وإمّا مرفوضا. الثـّـقافة عبر المعايير تجعل المرأة تتصرّف كامرأة وتجعل الرّجل يتصرّف كرجل. لو أنّ شخصا شاهد فريقين من النّساء يتنافسان في مباراة في كرة القدم، وإن كان هذا موجودا في المجتمعات الغربيّة، لاندهش لأنّ المعايير التي يحمل لا تخوّل للمرأة أن تمارس كرة القدم (وكذلك الملاكمة). ولو شاهد شخص رجلا يقوم بالتـّـطريز أو بغزل الصّوف لاندهش أيضا. وعندما يشاهد رجلا يلبس فستانا، وهذا موجود في البلدان الغربيّة لأصيب بالذّهول والأمثلة كثيرة. التـّـرقـّـبات (Expectations) التي يحملها كلّ شخص تحدّد بوضوح الأدوار التي يقوم بها الرّجال والنـّـساء، والتـّـرقـّـبات هي ما ننتظره من شخص أكان رجلا أم امرأة عند قيامه بدور ما أو بنشاط ما. التـّـرقـّـبات المتعلـّـقة بالرّجل هي أن يكون متـّـصفا بالثـّـقة بالنـّـفس، قويّا، مبجّلا، شجاعا، وغير ذلك. وأمّا التـّـرقـّـبات المتعلـّـقة بالمرأة فهي أن تكون عاطفيّة، حنونا، مهذّبة، وجذّابة. الثـّـقافة إذا تصوّر الرّجل والمرأة كقطبين متناقضين ومتكاملين في ذات الوقت، لكنّ الأشكال الثـّـقافيّة تختلف من مجتمع إلى آخر في درجة الهيمنة فيما بين الإثنين. الثـّـقافة توفـّـر لنا طرقا عديدة في تفصيل الأدوار والحكم عليها. هذه القواعد التي نحمل عن السّلوك هي معايير (Norms) توضـّـح وتضبط السّلوك المباح وهي تمتاز بالمرونة إذ عندما يتعلـّـق الأمر بالأفراح والمناسبات يسمح الأب في المجتمعات العربيّة لابنته بأن ترقص في عرس وأن تلبس لباسا جميلا وأن تتزيّن وفي مناسبات أخرى لا يسمح لها بذلك. السـّـلوك يكون دوما مطابقا لنمط ثقافيّ وقد لا يفهم شخص الغرض من سلوك معيّن أو يسيء تأويل ذلك السـّـلوك: قد يرى في اختلاط النـّـساء بالرّجال في المجتمعات الغربيّة انحطاطا أخلاقيّا. وإذا كان السـّـلوك قابلا للتـّـأويل فلأنّ الثـّـقافة تفترض أنّ كلّ سلوك يحمل معنى أو رسالة. ويلعب العمر والإنتماء والدّرجة العلميّة دورا في الحكم على السـّـلوك وتأويله.
وكثيرا ما يخطئ الشـّخص في تأويل السـّـلوك عندما لا يكون منتميا إلى ثقاقة الشـّـخص الذي يصدر عنه السـّـلوك. الثـّـقافة توضـّـح ما هو مباح وتجعله شرعيّا أو أمرا طبيعيّا وهذا ما يسمّى في علم الإجتماع بـ"التـّـطبيع" (normalization). هذا يقودنا إلى التـّـمييز بين أنواع من السـّـلوك والغرض منه. قد نتصنّع سلوكا معيّنا، وقد نسلك سلوكا ما انطلاقا من إيماننا بما نقوم به. أفعالنا في بعض الأحيان تختلف عمّا نؤمن به وبالتـّـالي الثـّـقافة والسـّـلوك غير متطابقين أحيانا.
الخاتمة: غموض التـّـعريف وكثرة العناصر:
الحديث عن الثـّـقافة، الآن، ليس بالأمر السـّـهل لأنّ مصطلح الثـّـقافة ارتبط تاريخيا بدراسة الفنّ، حيث قـُسـّـمت الثـّـقافة إلى ثقافة راقية وثقافة مبتذلة؛ وهذا يجعل تعريفها مبهما أكثر. هل هي ممارسات فنـّـية تبرز في الأشكال الفنـّـية المتجذرة في البنى المؤسّسية، أم هي الأشكال الحضاريّة القديمة والحالية، أم هي الحياة برمّتها بما تحويه من فنون وتعابير أسلوبيّة عن الحياة اليوميّة بطرق خطابية رمزيّة أو فنّية؟ الإنسان بطبعه فنـّـان أو مبدع والحياة تصوّر اليوم على أنـّـها فنّ وإبداع رمزيّ، وكلّ جماعة إنـّـما هي جماعة فنـّـية يعتمد اندماجها الدّاخلي على المعاني التي تبتدعها: هذا القول يفرض الرّؤية القائلة بـثقافة النـّـخب وثقافة الفقراء (بيار بورديو، ريتشارد هوغارت). وما أكثر التـّـعريفات التي جعلت الثـّـقافة تشمل كلّ شيء في المجتمع وكلّ ممارسة اجتماعيّة هدفها شرعنة الحياة الاجتماعيّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ الثـّـقافة تؤثـّـر على كيفيّة فهم الجماعات المحلـّـية والعالميّة لذواتها وتجعلها تعبّر عن الهويّة والأشكال القيميّة بطرق معيّنة. وتقول بعض الآراء أنّ المنظومات الثـّـقافيّة تاريخيّة في جوهرها ولكنّ القيم الحديثة تشكـّـلت نتيجة التـّـقدّم العلميّ والتـّـقنيّ، وهذا صحيح إلى حدّ ما. الإنسان اليوم يتـّـبع الإنتقائيّة أو الاصطفائيّة (éclectisme) وهي طريقة فكريّة قائمة على الاستعارة من نظم مختلفة واستعمال ما هو إيجابيّ منها: قد يكون مثاليا وعلمانيا في نفس الوقت وقد يكون مادّيا أو براغماتيا ومؤمنا بالأخلاق وقد يكون متفتــّـحا وقوميّا في نفس الوقت. وفي كلّ تلك الأشكال الموقفيّة، يؤوّل الإنسان ذاته وهوّيته أو ينفيهما للهروب من الواقع أو للقبول به من خلال تقبل التـّـأويلات التـّـعليميّة أو التـّـوجيهيّة التي تطرحها السـّـلطة. معنى هذا أنّ الإنسان، الكائن الثـّـقافيّ، قادر على التـّـكيّف الطبيعيّ (تكيّف مع بيئته) من خلال التـّـكيّف الثـّـقافيّ.
تلك إذا قوّة الثـّـقافة: المساعدة على العيش والتـّـأقلم والمساعدة على تغيير الواقع الطـّـبيعيّ، وهذه نظرة شموليّة تحاول أن تتجاوز الاختلافات الثـّـقافيّة بين البشر خاصّة وأنّ نظريّات الإثنولوجيا القائلة بالاختلاف بين الأعراق قد استـُبعدت. لكنّ الوحدة الثـّـقافيّة السـّـاعية إلى طمس الأقطاب الثـّـقافيّة تبقى ضعيفة في ظلّ الاختلافات والصّراعات الموجودة. وللإجابة على السّؤال الذي طرحته في الفقرة أعلاه أقول إنّ المفهوم الشـّـامل للثـّـقافة الذي يعرّفها بأنـّـها طرق الحياة وكلّ ما يتعلـّـمه الإنسان وكلّ ما ينتجه من أجل العيش يبقى هو المفهوم السّائد اليوم. وتبقى الثـّـقافة مرتبطة ارتباطا عضويّا بمعاني الهويّة التي قد تكون منفتحة عن العالم أو منغلقة، بل هي عنصر أساسيّ من عناصر الهويّة التي تجعل الفرد مختلفا عن غيره. وهذه عناصر الهويّة: العرق، الدّين، اللـّـغة، اللـّـون والجنس، التـّـاريخ، وأخيرا الطـّـبقة والانتماء الاجتماعيّ. وفي الحقيقة مكوّنات الهويّة هذه يتعلـّـمها الإنسان مذ يولد. أمّا العناصر الأساسيّة المكوّنة للثـّـقافة فهي أشمل بكثير إذ تدخل فيها طرق العيش، كما قلت، وطرق الحكم والتـّـحكـّـم، وطرق السـّـلوك... إلخ. ولو أردنا أن نضع قائمة بعناصر الثـّـقافة الأساسيّة لحصرناها فيما يلي: 1. اللـّـغة: وهي نظام من الرّموز يُستعمل في إضفاء المعاني على الأشياء وتصنيفها وتبادل تلك المعاني عبر التـّـواصل. اللـّـغة نتاج اجتماعيّ، وهي آداة التـّـفاعل الإجتماعيّ. 2. المعايير: وهي قواعد للسـّـلوك أنتجها المجتمع من أجل التـّـحكـّـم وضمان تفاعل اجتماعيّ مستقرّ ومنظـّـم (يمكن التـّـنبّؤ به). وتلعب السـّـلط الإجتماعيّة دورا أساسيا في صناعة المعايير. ولا بدّ من التـّـشديد هنا على أنّ المعايير ناتجة عن القيم. وتتـّـخذ المعايير أشكالا عديدة: أحكاما نابعة من التـّـفكير والشـّـعور (folkways)، أعرافا، طقوسا... 3. القيم: هي كلّ شيء تؤمن به جماعة ما لما له من قيمة. وقد تكون القيم متكاملة أو متصارعة، كما أنـّـها تـُـعاد صياغتها ويتمّ تعديلها باستمرار. (القيم تـُـنتج المعايير). 4. المعتقدات والإيديولوجيات: وتتمثـّـل في كلّ شيء فكريّ مجرّد تعتبره المجموعة الثــّـقافيّة صحيحا أو مطلقا (الدّين ومختلف المعتقدات والمعارف الأخرى المشتركة ). 5. الجمعيّات أو التنظيمات الاجتماعيّة: وتشمل المجموعات والمنظـّـمات والمؤسّسات والطـّـبقات وهذه كلـّـها منتـَـجَة اجتماعيّا. الجمعيّات هويّات رمزيّة تعرّف من خلال الكيفيّة التي بها يعرّف المنتمون إليها أنفسهم ولكنّها على أرض الواقع كائنات موضوعيّة. 6. الأدوار والمكانات الاجتماعيّة التي تجعل المجتمع شبكات متداخلة ومعقّدة من المكانات والهويّات. 7. طرق الإدماج الثـّـقافيّ: كلّ الثـّـقافات تتعامل مع التـّـعقيد والاختلاف ولا تتعامل معهما ومع الثـّـقافات الثـّـانويّة والمضادّة بنفس الطـّـريقة. لكنّ طرق الإدماج عنصر ثقافيّ مرتبط بأساليب الحكم وبوسائل الإعلام والثـّـقافات الشـّـعبيّة.
أمّا الرّصيد المرئيّ لكلّ ثقافة فيتمثـّـل في القصص والأساطير والأدب والفنّ وما يُروى من نكت وملح وفي الطـّـقوس والمراسم والاحتفالات وفي الأبطال والبطولات والرّموز وفي المواقف والأخلاقيّات. وفي ختام هذا الفصل أقول إنّ الثـّـقافة هي كلّ أرضيّة تـُـنتـَج وتتطوّر فيها القيم وكلّ مسرح تحدث فيه دراما أو مأساة القيم. وهي الحقل الذي يدور فيه الفعل الاجتماعيّ، كما يقول ماكس فيبر، بجماعاته الاجتماعيّة ذوات المصالح المتضاربة التي تحدّد سمات المجتمع.
#عزالدّين_بن_عثمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدّين في العلوم الإجتماعيّة: الدّين ودوره في الثّقافة
-
خرّب العرّاف بيتي: فصّة
-
خرّب العرّاف بيتي: قصّة
-
حبّ صنعته القسوة: قصّة
-
العولمة والبروبغندا الأمريكيّة وجهان للهيمنة على العالم:
-
تعطّل وظيفيّ: قصّة
-
أنا القاتلة
-
علاقات السّلطة في المجتمع: فصل من كتاب في علم الإجتماع
-
معنى استقلاليّة القضاء وشروط المحاكمة العادلة
-
حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود
...
-
حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود
...
-
حقوق الإنسان ومضمون نظريّات حقوق الإنسان:
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|