أولاً: المشكلات التي تواجه العراق حالياً
لم تكن الحرب هي الوسيلة الصائبة للخلاص من الدكتاتورية والمستبد المطلق في العراق والسير بعملية دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي, إذ أنها جلبت معها من المشكلات والتداعيات ما يصعب تجاوزها بسرعة. ولكن الحرب الإستباقية كانت مطلوبة بالنسبة للولايات المتحدة, رغم معارضة المجتمع الدولي لها, باعتبارها جزء من الاستراتيجية والعلاقات الدولية الجديدة للقوى المحافظة الجديدة في الحزب الجمهوري والإدارة الأمريكية الحالية. كما أن النظام العراقي كان قد استنفذ أغراضه بالنسبة للمصالح الأمريكية وأصبح مصدر قلق مستمر لها في المنطقة. والتقت إرادة الحرب الأمريكية بإرادة أبرز قوى المعارضة السياسية العراقية حينذاك للخلاص من النظام الدكتاتوري, مع واقع وجود خلافات بينهما حول عراق ما بعد صدام حسين.
حررت حرب الخليج الثالثة الشعب العراقي من أشرس دكتاتورية فردية بوليسية نحو الداخل وعدوانية نحو الخارج عرفتها المنطقة خلال العقود الأخيرة. وحققت الولايات المتحدة نصراً عسكرياً سريعاً كما كان متوقعاً, ولكنها لم تكسب السلام, ولم تحقق الأمن والاستقرار للشعب حتى الآن, بسبب تداعيات الحرب ذاتها وجملة من الأخطاء المبدئية التي ما تزال ترتكبها الإدارة الأمريكية في العراق. وتفجرت دفعة واحدة كل المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت عبر السنين بسبب سياسات النظام وقمعه وحروبه والحصار الاقتصادي الدولي. ولم تكن إدارة الاحتلال في البدء جادة وقادرة على احتواء الوضع الجديد ومعالجته. فالفوضى وعمليات التخريب والقتل والمقاومة والعجز عن إنجاز سريع لمشاريع البنية التحتية التي هدمتها الحرب وعطلها الحصار الاقتصادي هي حصيلة منطقية للسياسات التي مارستها إدارة الاحتلال بعد سقوط النظام وللتراكمات السابقة. فالحرب لم تسقط النظام فحسب, بل أسقطت الدولة العراقية بكاملها حين حلت الجيش والشرطة والأمن والوزارات والمؤسسات الحكومية وسرحت مئات الآلاف من الجنود والضباط والموظفين وألغت القوانين كلها تقريباً, في وقت لم تكن قد هيأت البديل ورفضت تسليم السلطة إلى القوى العراقية السياسية التي قاومت النظام السابق ورفضت عقد مؤتمر وطني لها لانتخاب هيئة تقود البلاد, مما أوجد رفضاً لإجراءاتها وخلق فراغاً سياسياً عجزت سلطات الاحتلال عن إملائه. ورافق ذلك إصرار الولايات المتحدة على إصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي يعترف لها ولبريطانيا العظمى باحتلال العراق وإدارته مباشرة, مما ساهم في تفاقم الوضع الداخلي والصراع السياسي الدولي حول العراق واتجاهات تطوره ورفض التعاون لمعالجة الوضع الجديد.
كان المجتمع متلهفاً للخلاص من نظام صدام حسين, ولكنه كان يرفض الاحتلال. ولهذا كان قرار الاحتلال بمثابة صدمة شديدة ومشكلة جديدة ينبغي التخلص منها. ومع أن الفرحة بسقوط النظام كانت كبيرة ولكنها سرعان ما تحولت إلى تحفظ وقلق إزاء المستقبل, خاصة وأن عمليات النهب والسلب وإشعال الحرائق والقتل قد أعطى الانطباع بأن قوات الاحتلال عاجزة عن مواجهة مثل هذه الممارسات. وبدأ الصدام غير المباشر بين الأهداف التي تسعى إليها الإدارة الأمريكية في إطار إستراتيجيتها السياسية والاقتصادية, بما فيها النفطية, والعسكرية والثقافية العولمية إزاء العراق والمنطقة بأسرها, وبين أهداف الغالبية العظمى من القوى السياسية العراقية التي ترفض تلك السياسة بشكل عام.
كل الدلائل تشير إلى أن الإدارة الأمريكية لم تكن على معرفة دقيقة بأوضاع المجتمع العراقي ومشكلاته ولم تكن المعلومات المعطاة لها أمينة لهذا الواقع, إضافة إلى الفجوة القائمة بين قدراتها العسكرية وبين قدراتها واستعداداتها لإدارة أوضاع ما بعد الحرب, إضافة إلى عدم ثقتها بالكثير من القوى السياسية التي كانت تصارع نظام صدام حسين.
منحت الأخطاء السياسية للإدارة الأمريكية وعدم تعاونها مباشرة مع القوى السياسية الجديدة في العراق وتخلف أعادة تشغيل الخدمات فراغاً سياسياً ومجالاً رحباً للقوى المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية وللوضع الجديد على التحرك صوب إثارة المشكلات وتعقيد الأوضاع أمام سلطة وقوات الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي ومنع تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد. ويمكن أن نشير وبعد مرور عشرة شهور على سقوط النظام بأن القوى التي تشارك في العمليات العسكرية المعادية للوجود الأمريكي في العراق والمناهضة للقوى السياسية التي ناصبت النظام السابق العداء هي:
1. فلول قوى صدام حسين التي تعمل في مناطق مختلفة ولها اتصالات منظمة مستفيدة من تجارب العمل السياسي السري وتمارس تكتيك "أضرب وأهرب". وهي قوى مخلصة لصدام حسين ومؤمنة به. والمستهدف من هذه العمليات ثلاث جهات هي قوات الاحتلال, قادة ومؤيدي مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة والأحزاب التي تقف وراءها, ومجموعة من أعوان النظام السابق التي قررت التعاون مع الوضع الجديد والشرطة العراقية الجديدة.
2. تتوزع قوى الإسلام السياسي السنية الوهابية المتطرفة على ثلاث مجموعات أساسية:
- جماعة أنصار الإسلام التي تشكلت في كردستان ولقيادتها علاقة مباشرة بمجموعة القاعدة. وكانت المجموعة تعمل في أفغانستان وعادت إلى العراق في أعقاب جريمة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وهي مجموعة شرسة جداً تسنى لها التوسع في عملياتها الإرهابية, وتجد التأييد من جماعات مماثلة موجودة في إيران ومنتشرة بين الجماعات الدينية السنية على الحدود الإيرانية – الأفغانية. وهي تقوم بتهريب الأسلحة والمعدات والرجال إلى كردستان العراق عبر إيران, وتعمل في تجارة المخدرات وفي التهريب على حدود هذه البلدان. وتجد هذه القوى دعم وحماية بعض القوى السياسية في إيران نكاية بالولايات المتحدة, ولكنها لا تجد التأييد من الحكومة الإيرانية الحالية .
- جماعة جهاد الإسلام التي تشكلت في البداية من مجموعة من المتطوعين العرب الذين قدموا من الدول العربية ومن أتباع حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين لمقاومة الحرب, وكانوا يقيمون في المخيمات الفلسطينية في الدول العربية.
- مجموعة من, وليس كل, أئمة المساجد السنية التي تحفز المسلمين على مقارعة الاحتلال والعودة بالبلاد إلى الوضع الذي كان عليه العراق في فترة صدام حسين إذ كانت المدللة منه بشكل خاص. ويأتي الدعم لهذه القوى من بعض الدول العربية وخاصة من الشيوخ الذين يملكون الأموال الكثيرة في السعودية وبعض إمارات الخليج ومن صناديق الدعم الإسلامية ومن قوى تريد تلقين الإدارة الأمريكية درساً قاسياً لتبتعد عن التفكر بحرب مماثلة جديدة.
3. مجموعات عديدة من أتباع المذهب الشيعي ذات الاتجاهات السلفية واليمينية الطائفية المتطرفة. وهي تمتلك ميليشيات مسلحة بصورة سرية وقابلة للتنشيط في كل لحظة. تجد هذه القوى التأييد من القوى المحافظة والمتشددة في إيران. إنها تتبنى نهجاً مغامراً واستبدادياً خطراً, يؤكد بأنها تريد شن عمليات استباقية أو وقائية بدفع من تلك الأوساط في إيران لمنع الإدارة الأمريكية من شن حرب ضد إيران.
4. العدد الكبير من سجناء الحق العام من قطاع طرق وسراق وقتلة ومزورين ومهربي مخدرات .. الخ, الذين أطلق النظام السابق سراحهم قبل الحرب بفترة وجيزة, يمارسون اليوم نشاطاً إجرامياً واسعاً يتمثل بعمليات خطف للبنات والأولاد لأغراض الابتزاز أو الدعارة و سرقة البيوت وقطع الطرق وإثارة الفوضى والرعب في البلاد. وأغلبهم يشكلون جزء من جماعات الجريمة المنظمة التي بدأت نشاطها قبل سقوط النظام وتفاقم في الآونة الأخيرة.
5. هناك بعض الأفراد الذين يشاركون في عمليات القتل الجارية انتقاماً من قتل أقاربهم بصورة عشوائية من قبل القوات الأمريكية والبريطانية أو كرهاً لهما منطلقين من موقف مناهض للاحتلال.
إن الدلائل المتاحة تشير إلى أن قوى الإسلام السياسي المتطرفة, وخاصة مجموعات القاعدة والمماثلة لها وبعض القوى القومية الشوفينية, تريد تحويل العراق إلى ساحة مكشوفة ومركزية لخوض الصراع ضد الولايات المتحدة أولاً, لتتوسع بعدها صوب بقية الدول العربية,. خاصة وأن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتأييدها المطلق لإسرائيل والموقف من المسألة الفلسطينية عموماً وبقية الأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان تثير المزيد من الكراهية والعداء لها. إن مواجهة إرهاب قوى الإسلام السياسي المتطرفة والقوى القومية المتطرفة يحتاج إلى جهد دولي مشترك وعلى أسس بعيدة عن العداء للإسلام والعرب, كما يلاحظ حالياً على الحملة الأمريكية التي لا تأخذ بالاعتبار حساسية المسالة الدينية والقومية.
ثانياً: الصراع حول المصالح في العراق
جاء سقوط النظام في مصلحة الغالبية العظمى من الشعب العراقي, فالفئات المستفيدة من ذلك هي: البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وجمهرة واسعة من الفئات المنتجة والكادحين في المدينة والريف والغالبية العظمى من المثقفين وكذلك المقيمين في المهجر, إذ أبعدت عن الهيمنة مجموعات من المقاولين والعقاريين والتجار المحسوبين على النظام وحاشية صدام حسين وكبار موظفي الدولة والقوات المسلحة ومجموعة من السماسرة العاملة في تهريب الأسلحة والسوق السوداء. كما كانت في مصلحة الشعب الكردي والأقليات القومية التي وضعت على هامش الحياة السياسية أمداً طويلاً, ثم حوربت وعانت الكثير وقدمت عشرات الآلاف من القتلى والمغيبين والجرحى والمعوقين. كما استفادت من سقوط النظام الأوساط الواسعة من الشيعة التي تعرضت إلى تمييز الحكم واضطهاده وقهره وتهجيره القسري. في حين شعر أتباع المذهب السني, الذين لم تكن معاناتهم كبيرة أيضاً في فترة حكم صدام حسين, إلى أنهم قد أبعدوا عن المشاركة الفعلية في البلاد لحساب الشيعة. وقد أعطت الإدارة الأمريكية هذا الانطباع من خلال تصرفاتها غير المعقولة في توزيع المراكز والمسؤوليات على أساس ديني ومذهبي غير سليم وغير غير مدني أو حضاري, ويدق إسفين خلافات دينية و طائفية مرفوضة يصعب تجاوزها.
تتفق القوى السياسية المختلفة على خمس نقاط جوهرية, وهي:
1. إنهاء الاحتلال بأسرع وقت ممكن وإحلال قوات من الأمم المتحدة محلها إلى حين الانتهاء من الانتخابات العامة وتشكيل حكومة عراقية شرعية, واستعادة العراق وضعه الطبيعي في الأمم المتحدة والجامعة العربية.
2. التصدي الحازم لقوى الإرهاب والتخريب والقتل وإعادة الأمن والاستقرار.
3. إعادة إعمار البلاد وضمان تشغيل العاطلين عن العمل وتنشيط الاقتصاد الوطني وتشجيع التوظيفات الرأسمالية.
4. إقامة علاقات صداقة وحسن جوار مع البلدان المجاورة وبقية بلدان العالم.
5. رفع الطاقة الإنتاجية والتصديرية للنفط في العراق لتحسين قدراته المالية والسعي لإعفائه من ديونه الثقيلة والتعويضات المفروضة عليه بسبب حروب النظام السابق.
ولكن القوى السياسية العراقية تختلف في مواقفها إزاء عدة قضايا جوهرية, وهي:
1. الموقف من النظام السياسي الجديد, الذي يتجلى في الموقف من طبيعة الدستور والعلمانية وخاصة في مسألة فصل الدين عن الدولة والشريعة الإسلامية في بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب.
2. الموقف من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا بمفاهيمها العامة, بل بتفاصيلها, ومنها حقوق المرأة ومساواتها بالرجل والموقف من برامج الإذاعة والتلفزيون والغناء والمسرح والسينما ..الخ.
3. الموقف من الاتحادية (الفيدرالية) في كردستان العراق والحقوق القومية لمختلف القوميات.
4. الموقف من توقيت الانتخابات العامة وسبل التهيئة لها بعد انتقال السلطة إلى العراقيين, ففي الوقت الذي تريد القوى الإسلامية البدء حالياً, تجد القوى الديمقراطية ضرورة التهيئة الديمقراطية الجيدة لمستلزمات انتخابات حرة ديمقراطية نزيهة.
وهذه النقاط تعتبر ألغاماً يمكن أن تتفجر في كل لحظة خاصة وأن موازين القوى في الوقت الحاضر ما تزال قلقة أو حتى أنها تميل لصالح قوى الإسلام السياسي بسب السياسات التي مارسها النظام السابق في العراق وتدميره الواسع للقوى الديمقراطية وعجزه عن تدمير القوى الدينية إذ أنها كانت موجودة وتعمل في الجوامع والعتبات المقدسة.
وبهذا المعنى فالصراع في العراق يدور حالياً بين القوى التالي:
1. القوى التي تسعى للعودة بالعراق إلى الحالة التي كان عليها قبل سقوط النظام أو إقامة نظام مشابه لطالبان. ولكن متابعة نشاط هذه القوى تصطدم بإرادة الغالبية العظمى من المجتمع ولن يكون في مقدورها تغيير الوضع لصالحها على المدى المتوسط والمدى البعيد, ولكنها ستثير ولفترة غير قصيرة المتاعب أمام سلطة وقوات الاحتلال من جهة, ومجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة والشعب العراقي من جهة ثانية, كما ستسقط. الكثير من الضحايا. وسيتراجع نشاطها تدريجاً بمقدار تسريع عملية إعادة بناء الاقتصاد وتشغيل الأيدي العاملة العاطلة وتسليم السلطة للمجلس والحكومة المؤقتة فعلياً.
2. الصراع بين المجتمع وسلطة الاحتلال التي تعبر عن إرادة ومصالح الولايات المتحدة في العراق وتريد تنفيذ استراتيجيتها التي نفذت الحرب في سبيلها, وهي تصطدم بإرادة المجتمع. ومن الممكن عبر وحدة الشعب ومساعدة الأمم المتحدة والرأي العالمي وبالطرق السلمية معالجة هذا التناقض لصالح العراق, خاصة وأن الولايات المتحدة تواجه الكثير من المصاعب على الصعيد الدولي والداخلي وفي العراق, خاصة وأن أسلحة الدمار الشامل لم تكتشف حتى الآن لدى النظام الدكتاتوري المخلوع.
3. وعلى الطرف الثاني تتجمع الغالبية العظمى من الأحزاب والكتل السياسية التي قاومت صدام حسين وسعت إلى إسقاطه وعجزت عن ذلك واستعان بعضها بالولايات المتحدة. وهي مكونة من أحزاب دينية وأخرى علمانية وديمقراطية وقوى مستقلة, بعضها ما يزال يتسم بالفردية والرغبة في الهيمنة على الحكم, وبعضها الآخر يتسم بالديمقراطية والانفتاح والرغبة في التعددية السياسية وإقامة المجتمع المدني الحديث.
ثالثاً: مستقبل العراق ...إلى أين؟
أدت سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية والحروب العديدة والحصار الاقتصادي الطويل إلى حصول تغيرات عميقة في البنية الطبقية والتكوين النفسي للفرد والمجتمع. فقد تقلصت قاعدة الطبقة العاملة الصناعية المنتجة للخيرات المادية بسبب تدمير المنشآت الصناعية وقلة التوظيفات وتراجع الإنتاج الزراعي, وتركت نسبة مهمة من الفلاحين الريف إلى المدينة لحصول على فرصة عمل, ولكنها أصبحت تعيش في مستوى أشباه البروليتاريا التي تعيش على أعمال موسمية بسبب اتساع البطالة وبلوغها مستويات عالية تقترب من 65 % من القوى القادرة على العمل, كما تقلصت فئة البرجوازية الصناعية وعموم البرجوازية المتوسطة والصغيرة لصالح أشباه البروليتاريا والمعدمين في الريف والمدينة. وهاجرت أعداد غفيرة من القوى المعلمة والمثقفة على خارج العراق. كما انتشرت العلل الاجتماعية في مختلف أنحاء العراق, بما في ذلك الجريمة المنظمة والتزوير والرشوة والشخصية المزدوجة والروح الانتهازية ...الخ. كما غاصت أعداد غفيرة من الناس في الغيبيات وأعمال السحر والشعوذة لتطلب النجاة من أوضاعها المزرية, وعادت إلى البلاد التقاليد والعادات والروح العشائرية التي كادت تترك مكانها لمجتمع مدني جديد.
ولعبت قوى النظام السياسي المخلوع دورها في تغييب كل القوى الحزبية عن الساحة السياسية العراقية واحتكرت العمل السياسي, ولم يبق أمام الناس سوى الجوامع لتلتقي وتحتمي بها. وكان لهذا تأثيره ودوره البارز في الواقع الراهن في العراق. واختفت المرأة من الحياة العامة والحياة السياسية والاقتصادية تقريباً وأجبرت إلى الركون إلى البيت والمطبخ والعائلة وارتداء الحجاب.
سيحتاج الشعب العراقي فترة طويلة لكي يستطيع الخروج من العتمة التي عاشها طويلاً بعيداً عن الحضارة والعالم
والحياة السياسية الحرة والديمقراطية والتمتع بحقوق الإنسان بشكل سليم وصادق.
كانت وما تزال الأحزاب السياسية العراقية تمتلك برامجاً وأهدافاً متباينة حول سبل بناء العراق الجديد. وقد أجبرت تحت ضغوط عديدة التعاون في ما بينها في برنامج مشترك وجد تعبيره في إعلان مجلس الحكم الانتقالي عند تشكيله. وهو الحد الأدنى لفترة الانتقال. ولكن نقل السلطة والبدء بالتحضير لتشكيل هيئة انتقالية جديدة للتحضير لانتخابات عامة في عام 2005 سيؤجج الصراعات بين ثلاثة اتجاهات أساسية تتوزع عليها القوى السياسية العراقية, وهي:
1. التيار الديني الإسلامي السياسي بمختلف أجنحته واتجاهاته السياسية الذي يسعى إلى إقامة نظام سياسي عراقي يدين بالإسلام وينفذ الشريعة الإسلامية. وفي هذا التيار الواسع والمتعدد الأجنحة يدور الصراع بين المذاهب حول أيهما تكون له الغلبة في العراق, ورغم محاولات إظهار الوحدة في التصريحات العلنية, إلا أن الصراع قد بدأ منذ وقت غير قصير وسيتصاعد كلما برز خيط من الأمل لدى كل منهما في الفوز بالأكثرية.
2. التيار البعثي والقومي العربي الذي تمارس بعض قواه النشاطات الإرهابية والتخريبية الراهنة والتي تشكل مخاطر على وجهة تطور العراق وإدامة فترة الاحتلال. وهي ستبدي استعدادها غير المباشر لدعم التيار الديني السني في العراق بسبب مواقفها من أتباع المذهب الشيعي التي تعتبرهم من مؤيدي السياسية الإيرانية. وهذا التيار ليس أي حظ من النجاح. كما ستحاول بعض قوى التيار القومي العربي العمل مع التيار العلماني وخاصة تلك التي رفضت المساومة مع النظام العراقي وقاومته.
3. التيار الديمقراطي بكل أطيافه الفكرية والسياسية الذي يسعى إلى إقامة مجتمع مدني ديمقراطي يستند إلى دستور يؤكد الالتزام بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحياة البرلمانية والتداول الديمقراطي والسلمي للسلطة ... الخ. إلا أن هذا لا يعني بأن هذا الاتجاه موحد ودون تناقضات أو صراعات.
4. ويبدو حتى الآن بأن التيارات التي تقف ضد التيار الديمقراطي قادرة على التعاون والتحالف, في حين عجزت القوى الديمقراطية عن تحقيق التعاون والتحالف في ما بينها حتى الآن.
تشير وقائع الشارع العراقي إلى أن ميزان القوى يميل حالياً لصالح التيار الديني الإسلامي الذي يعتمد على القوى العشائرية والريف المتخلف وأشباه البروليتاريا, ولكنه يحمل معه مخاطر كبيرة على العراق والمنطقة, حيث يمكن أن يؤجج السلفية. إذ أن الطرح شبه الديمقراطي الذي تطرحه قوى الإسلام السياسي حالياً سرعان ما يتبخر ليتحول إلى استبداد فكري وسياسي شديد الشراسة والعدوانية إزاء الأديان والمذاهب والأفكار المختلفة, أي إزاء الآخر. ولهذا لا بد من العمل لتدارك الوقوع في فخ قوى الإسلام السياسي التي تبدو اليوم معتدلة ولكنها سرعان ما تسعى إلى إقامة نظام مماثل لإيران أو للسعودية أو لطالبان.
وتقع على عاتق القوى الديمقراطية العراقية مهمة تجديد خطابها السياسي وتحديث علاقتها بالمجتمع وتنشيط فعالياتها وإعلامها للوصول إلى الجماهير الواسعة ذات المصلحة بالتحول الديمقراطي في العراق ومعالجة المشكلات باتجاه ديمقراطي تقدمي. إن مثل هذه الإمكانية متاحة في العراق ولكنها لن تتحقق بصورة أوتامتيكية, بل تستوجب برنامجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واضحاً يستجيب لمصالح الغالبية العظمى من المجتمع, وهو أمر ممكن ومطلوب حالياً وفي المستقبل.
إن مستقبل المجتمع المدني الديمقراطي في العراق يرتبط بمدى قدرة المجتمع على إيصال القوى الديمقراطية إلى البرلمان في انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة تحت رقابة الأمم المتحدة وبعد فترة مناسبة من الوقت وعلى برنامجها السياسي لمعالجة المشكلات القائمة وفي المقدمة منها:
- الاتفاق السريع على إنهاء الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق ورفض وجود قواعد عسكرية فيه مع توقيع اتفاقية مع الأمم المتحدة لضمان التطور السلمي والديمقراطي للعراق ورفض التسلح الواسع النطاق وتحريم الانقلابات العسكرية وغيرها فيه.
- تسريع عملية إعادة إعمار العراق بوضع برنامج مشترك مع الأمم المتحدة وبدعم دولي مشابه لمشروع مارشال لإعادة إعمار العراق وتطور الاقتصادي المعجل.
- الموافقة على إقامة دولة مدنية دستورية ديمقراطية فيدرالية في العراق يتمتع فيها الشعب الكردي بالحكم الفيدرالي والأقليات القومية بحقوقها الإدارية والثقافية, كما تتمتع كل الأديان والمذاهب والأفكار بالاحترام وبحرية ممارسة طقوسها الدينية والمذهبية وحرية التعبير ...الخ.
- عقد اتفاقيات صداقة وحسن جوار مع جميع البلدان المجاورة وحل المعضلات بالطرق التفاوضية والسلمية وعبر الأمم المتحدة.
- لهذه الوجهة مستقبل التحقق في العراق, ولكنهها لن تأتي دون وحدة القوى الديمقراطية ودون نضالها الدءوب ودون الحصول على دعم فعلي من جانب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والجامعة العربية وبقية المنظمات الدولية والإقليمية, بما فيها منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني الديمقراطية والرأي العام العالمي من أجل ضمان التطور المدني والديمقراطي للعراق. إن مخاطر وصول قوى إسلامية سياسية إلى الحكم في ظل الأوضاع الراهنة ليست بعيدة, لهذا لا بد من بذل الجهود المشتركة لضمان بناء عراق مدني, حر, ديمقراطي وفيدرالي.
كاظم حبيب
شكر وامتنان وتقدير
أتشرف بأن أتقدم بالشكر الجزيل والامتنان والتقدير العالي لكل الأخوات والأخوة والمعارف ومنظمات حقوق الإنسان والجمعيات والأحزاب الذين أغرقوني بفضلهم وودهم وصدق مشاعرهم حين تضامنوا معي حين تعرضت إلى إساءة كبيرة لكرامتي كإنسان وكمواطن عراقي واتهامي بما لا يمكن أن ينطبق مع طبيعة تكويني وأخلاقي والمبادئ الإنسانية التي أحملها ولا مع موقفي السياسي إزاء النظام المخلوع والسياسات الأمريكية في المنطقة أو إزاء الاحتلال الراهن. وكان للتضامن الصادق كبير الأثر على نفسي. فشكراً وألف شكر.
عندما اتصلت بالسادة مسؤولي إدارة وبرامج شبكة الأخبار العربيةANN في لندن راجياً البحث في موضوع الاتهامات التي وجهت لي من على شبكتهم في يوم 4/2/2004 كنت أسعى إلى وضع حد للاتهامات الباطلة عموماً التي توجه في الحارات التلفزيونية المختلفة, ومن أجل البدء بالحوار الجاد والمسؤول حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق وفي المنطقة العربية والتصدي للمشكلات الحقيقية التي تواجهنا جميعاً. أي أن نتعلم جميعاً ممارسة الحوار الديمقراطي المسؤول, الهادئ, الرصين والموضوعي بعيداً عن المهاترات والإساءات والاتهامات المتبادلة, كما نراه ونسمعه في بعض الفضائيات العربية. ولم يتردد مدير شبكة الأخبار العربيةANN السيد الدكتور قاسم المزرعاني عن الموافقة فحسب, بل ورحب بالفكرة وأمن إمكانية سفري إلى لندن والحوار الذي تم في يوم 8/2/2004 التي أتمنى أن تكونوا قد شاهدتموها. لهذا أقدم شكري الجزيل لشبكة الأخبار العربية وللعاملين فيها وتقديري لصدق المشاعر التي أبدوها إزاء رفض وإدانة تلك الاتهامات.
كما كان اعتذار السيد الدكتور محمد صالح المسفر بالطريقة التي جرت مناسباً. ولهذا قبلت اعتذاره. أرجو وآمل أن يكون ما حصل حتى الآن رادعاً في المستقبل ومانعاً لوقوع ما حصل مرة أخرى.
مرة أخرى أشد على أيديكم وأرجو للجميع موفور الصحة والمزيد من الجهد لصالح بناء عراق ديمقراطي مدني فيدرالي موحد.
مع خالص التقدير والاعتزاز.
برلين في 9/2/2004 كاظم حبيب