-1-
يقصد بمصطلح (اليسار)، هنا، الحزب الشيوعي السوري وما أفرزه من تنظيمات
واتجاهات بعد انشقاق عام 1972، ومن اتجه إلى الماركسية من أفراد أو تنظيمات
كانت تتبنى الاتجاه القومي العروبي بين عامي 1967-1972: هذا لا يعني
إقصاءً للآخرين، من ناصريين أو بعثيين أو (حزب العمال الثوري العربي) الذي اتجه
من البعث إلى الماركسية منذ النصف الأول من عقد الستينيات، بقدر ما يعود
الأمر إلى غايات بحثية تتعلق بظواهر محددة من اليسار، ذات طابع يساري
ماركسي ارتبطت بموسكو أو حاولت التمرد عليها، أو كانت بالأصل في موقع متفارق
معها ثم اقتربت بهذا الشكل أو ذاك منها، يراد دراستها، هنا.
بداية، إذا أردنا مقارنة التجربة الشيوعية السورية مع غيرها من التجارب
العربية، فإننا نجد أن الحزب الشيوعي السوري لم يجد مرتكزاً اجتماعياً
محدداً في النسيج المجتمعي السوري، بخلاف الشيوعيين السودانيين الذين وجدت لهم
امتدادات مجتمعية قوية بين الفئات الحديثة (عمال-طلاب-نساء-مزارعي
الجزيرة-الخريجون)، أو العراقيين الذين وجدت امتدادات قوية لهم بين العمال، وكذلك
ضمن الطلاب خلال فترة (1941-1961) قبل أن يدخل حزب البعث العراقي في طور
القوة ابتداءً من التاريخ الأخير، أو إذا شئنا المقارنة من خلال الواقع
السوري، بخلاف حزب البعث الذي وجدت له، منذ بداياته وعبر تركيزه على
المسألتين الزراعية والقومية، جذور اجتماعية قوية بين الفلاحين والفئات الوسطى،
وبالذات ضمن شريحة الطلبة من الأخيرة.
تجاهل الحزب الشيوعي السوري المسألة الزراعية، ووقف في موقع التضاد من
المسألة القومية، نظرياً أولاً، ومن ثم سياسياً كما ظهر في فترة الوحدة، فيما
صدم الشارع السوري في موقفه من القضايا العربية، كما حصل يوم قرار تقسيم
فلسطين. وهو إذا حصلت له فترات من القوة والمدّ الاجتماعي كما في فترة
1945-1947، أو 1956-1958، أو 1967-1972، فقد كان ذلك ناتجاً عن الإعجاب
والانبهار بسجل السوفيات ضد النازية وعن المراهنة على قوة كبرى جديدة يمكن أن
يستغلها العرب ضد بريطانيا وفرنسا كما حاولوا مع هتلر، فيما كان ذلك ناتجاً
في الخمسينيات عن موقف السوفيات المؤيد للعرب في حرب 1956، بينما نتجت قوة
الشيوعيين السوريين، في النصف الثاني من الستينيات، عن تداعيات حرب حزيران
وما ولدته من هزيمة للتيار القومي الحاكم، من البعث وعبد الناصر في سورية
ومصر، وما أدى إليه ذلك من ابتعاد الكثيرين عن الحركات القومية إما باتجاه
الماركسية أو نحو التيار الديني.
لم يؤد ذلك إلى استقطاب الشيوعيين السوريين لطبقات أو فئات اجتماعية محددة
يرتكزون عليها، في بلد لم يكن فيه التصنيع متجذراً وما أدى إليه من ضعف
الطبقة العاملة، الشيء الذي جعلها غير قادرة على أن تكون رافعة للحزب، كما
حصل في تجربة الشيوعيين الفرنسيين مثلاً، مع العلم أن الحزب الشيوعي السوري
لم يكن، طوال تاريخه، قوياً بين العمال، ولم تتجاوز نسبتهم، حتى في فترات
مدّه، بين أعضاء الحزب نسبة (13%) كما حصل في المؤتمر الثالث للحزب
(حزيران 69). بل كان الأمر مؤدياً إلى تسرب مثقفين وطلبة وموظفين أو مستخدمين،
كانوا كلهم من أفراد الفئات الوسطى المدينية التي شكلت القاعدة الاجتماعية
لأحزاب وحركات أخرى مثل الناصريين والإخوان، وعندما وجد الشيوعيون
السوريون امتداداً في الريف فقد كان ذلك بعد دخول التحديث إليه بين عامي
1958-1963 وضمن نفس الفئات الوسطى ولكن ذات المنشأ الريفي.
إذا أردنا التحدث عن فئات اجتماعية وجد الحزب قاعدة قوية فيها، فيمكن
الإشارة، في هذا الصدد، إلى الأكراد، إذا اعتبرناهم فئة اجتماعية أو جماعة
قومية، في دمشق وعفرين والجزيرة، وقد ظل الحزب قوياً بينهم إلى أن دخلت
الأحزاب الكردية على خط المنافسة معه منذ السبعينيات، وقد كانت نسبة الأقليات
القومية، من أكراد وشركس وأرمن، عالية في الحزب، وقد ذهبت الغالبية الكاسحة
منهم مع خالد بكداش في انشقاق عام 1972.
بعد هزيمة حزيران 1967، نشأت ظاهرة الخروج من الأحزاب القومية (القوميين
العرب – الاشتراكيين العرب – بعث 23 شباط بعد عام 1970) إلى الاتجاه
الماركسي، ولكن نحو اتجاه يتخالف مع الشيوعيين الكلاسيكيين، هو أقرب إلى ظواهر
(اليسار الجديد)، ونحو رموز مثل (تروتسكي) و(غيفارا)، ويأخذ موقفاً نقدياً
وضدياً من التجربة السوفياتية، ويلاحظ بأن معظم من أتى إلى هذا الاتجاه قد
كانوا من منشأ ريفي، في ريف اللاذقية وحمص وحماه أو في بلدة السلمية،
وكانت نسبة القاعدة الاجتماعية المدينية ضعيفة عندهم، حيث كان تواجدهم في مدن
دمشق وحلب متركزاً أساساً بين الوافدين من تلك المناطق إلى هاتين
المدينتين وكذلك في اللاذقية وحمص، مع استثناء حماه التي وجد لهم فيها أفراد
مدينيين عديدين شكلوا فيما بعد قيادات، أتت بمعظمها من تنظيم (الاشتراكيين
العرب) بقيادة أكرم الحوراني.
-2-
كان (الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي) من أبرز الظواهر التي أفرزها
اليسار السوري في العقود الثلاثة الأخيرة، وقد تميز هذا الحزب بثلاثة
أشياءٍ، الأمر الذي يمتد بأبعاده إلى نطاق اليسار العربي: 1- الاستقلالية عن
السوفيات، على الأقل في التنظيم والسياسة، وإن ظل الأمر غائماً على صعيد
الفكر. 2- رسم السياسة من خلال التفاعل المستقل مع القضايا العربية
والمحلية، وليس من خلال ما تتطلبه المصالح السوفياتية، 3- مبادرة هذا الحزب، من
دون اليسار السوري كله، إلى المصالحة مع مفهوم (الديمقراطية)، ابتداءً من
عام 1978، بعيداً عن (الديمقراطية الشعبية)، أو عن ربطه مع مفهوم
(الديمقراطية الاجتماعية)، مما شكّل منعطفاً في تاريخ اليسار السوري (إن لم نقل
العربي) الذي سيطرت عليه، منذ أن طرح السوفيات مفهوم (الديمقراطية الثورية) في
عام 1963، اتجاهات عدائية للنزعة البرلمانية، وللديمقراطية السياسية
بمعناها البرجوازي، وإلى اعتبار الأخيرة "جوفاء" إن لم ترتبط بإزالة الاستغلال
الاجتماعي، أو كانت مجردة من التوجه نحو "أفق اشتراكي".
ولكن هذا الحزب لم يستطيع أن يقدم مفهوماً للماركسية [أو يستعير إن لم
يستطيع الابتكار] مختلفاً عن ما هو موجود عند السوفيات، وظلت تتنازعه، طوال
تاريخه، مدارس ماركسية شتى تمتد من ستالين إلى غرامشي وما بينهما، بالترافق
مع اتجاهات للتفارق عن الماركسية ظهرت بذور لها منذ السبعينيات، ثم نمت
كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. كما أن هذا الحزب، الذي استقل
تنظيمياً عن السوفيات وكذلك سياسياً، قد ظل محتفظاً بالشكل اللينيني للتنظيم، أو
بالأحرى بطبعته الستالينية التي وُرِّثت للأحزاب الشيوعية العالمية، بحيث
أن الحزب الذي كان رائداً في طرح الديمقراطية، كبرنامج سياسي، قد كان في
الوقت نفسه مفتقداً للديمقراطية في علاقاته، وزاد ذلك في فترة العمل السري
بعد عام 1980، كما أن القيادة التي تولت الأمور، بعد حملة عام 1980، قد
تركته حزباً سائباً من الناحية الفكرية ولم تحاول (أو لم يكن بمقدورها ذلك
من حيث الأهلية والإمكانيات) سدّ النقص في هذا المجال والذي وجد منذ بداية
تكوّن هذا الحزب، مما جعل هذا الحزب عندما تلاقى أعضاءه، في المؤتمر
التداولي (آذار 2001)، يجد نفسه في وضعية حزب أصبحت توجد فيه مدارس فكرية
مختلفة ومتناقضة، ولم يكن الأمر مقتصراً على وجود تيارات، مما يمكن أن يوجد في
أي حزب شرط أن تتوفر الديمقراطية في علاقاته التنظيمية الداخلية.
إن مسألة إنتاج ماركسية مختلفة، مثل ما فعل الشيوعيون الطليان عبر
(غرامشي) أو الصينيين عبر (ماو)، لا يمكن أن تتحقق، فقط، عبر التفاعل السياسي مع
قضايا مثل (الوحدة العربية) أو (قضية فلسطين)، وكذلك مسألة تَبْيِئَةْ
الماركسية عربياً وسورياً، كما كان يؤمل منذ بداية تكونه، وهما شيئان لم
يستطع تحقيقهما هذا الحزب في فترة السوفيات، ولا أن يستغل انهيارهم، وتداعياته
على أتباعهم السابقين، من أجل تحقيق ذلك، مما جعله في النهاية يفشل في
إنشاء