|
أيديولوجيا و حتمية
محمد شرينة
الحوار المتمدن-العدد: 2397 - 2008 / 9 / 7 - 01:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أثارت قراءة مقالة السيد د. وائل غالي (دلالة "البَلطة والسُّنبلة " في الإطلالة على اللسانيات المصرية دراسة نقدية لكتاب مهدى بندق) في ذهني فكرتين أحببت أن أطرحهما. بداية أرجو المعذرة لأنني غير متخصص و لكنني مطلع متواضع ، أما لماذا أدلي برأيي و أنا غير متخصص فلأن من أكثر ما أعجبني المقولة التي تقول (لو أن كل طائر لا يعتقد أن صوته جميل كف عن الغناء لبدت الغابة أكثر صمتا من المقابر) . أولا : فيما يخص الوعي الزائف حيث يقول د. غالي (لكن الوعي الزائف لا يزيف وعي أصحاب الأيديولوجيا إنما هو يزيف وعي الغير. فالهدف من الأيديولوجيا هو الخداع والحجب عن أعين وعقل الآخرين من دون تزييف وعي أصحاب الأيديولوجيا نفسها. فإذا صحّ أنَّ الأيديولوجيا تحصر نفسها في الموقف الساكن الذي يعزلها عن حركة التاريخ في تدفقه وتغيره، فإنَّ ذلك هو جوهر الخداع والحجب عن الغير وليس الخداع أو الحجب الذاتي. وإذا صح أن الأيديولوجيا لا تشير إلى وقائع متكاملة على مستوى رؤية العالم وإنما تعبر جزئيا عن مصالح أصحابها وحسب من دون مصالح الآخرين فإنَّ ذلك لا يعني أنها تزيف وعي أصحابها إنما تزيف وعي المجتمع دون وعيها هي: هي تقدم وعيا مقلوبا لواقع قلبته هي بنفسها. وإذا صح أنّها تشوه المعطيات الواقعية لكي تناسب مصالحها فإنَّ ذلك يعني كذلك أنَّها لا تزيف وعي أصحابها إنّما تزيف وعي الآخرين صيانة لمصالحها. وأدق مثل على ذلك ما يذكره مهدي بندق في "غير" سياق "الأيديولوجيا" هو العبيد الذين حاربوا في صفوف سادتهم ضد من جاءوا ليحرروهم والعمال المقهورون الذين ناصروا " رأسماليي.. هم " المستغلين له) . و هنا أؤكد من اطلاعي و من تجربتي الخاصة أن أصحاب الأيديولوجية عاجزين عن تزييف أي وعي قبل أن يتموا بإتقان تزييف وعيهم هم ، خذ مثلا الذي يجني أموال الناس العاديين الذين يكدون و يتعبون للحصول عليها ثم تأتيه سهلة ينفقها حيث يشاء ، و غالبا ما ينفقها في غير وجه حق ، إنهم أشد اقتناعا بأن ما يفعلونه هو عين الصواب من اقتناع الناظر إلى قرص الشمس وسط السماء أن الوقت ليس ليلا ، و هنا تكمن المشكلة فلو كانوا يعرفون الحقيقة ثم يقومون بإيهام الناس بالعكس فما كان أسهل التعامل معهم . أصحاب الأيديولوجية هم أناس من طبيعة هتلر و ستالين و ربما صدام حسين و غيرهم ، يملكون نظرة إلى العالم تمر من خلال ذواتهم و هنا تكمن المعضلة ، فهم يصلون إلى مرحلة يعتقدون أن نظرتهم للعالم مطلقة الصحة و مع أنها ليست كذلك ، و بالتالي هم يبنون كل تحليلاتهم و مدارسهم الفكرية على هذا الفرض ، إنهم ببساطة كرجل الدين الذي يطلع عليك كل يوم بأدلة تدعم فكره ، جمعها من علوم الفيزياء و الحياة و الفلك و الجيولوجيا ، ما يفعله بالضبط أنه ينتقي المواضيع التي تناسبه و يهمل البقية ، حتى لو كانت هذه البقية أضعاف ما أخذ ، و حتى المواضيع التي ينتقيها فهو يعدلها و يحورها لتخدم هدفه . انه إطلاقا لا يخدع الآخرين بل هو لا شعوريا يخدع نفسه قبل كل شيء ، أن أكثر شخص اقتناعا بفكر أيديولوجي ما ، هو صاحبه. المسلم به أن الغالبية الساحقة من الأيديولوجيات خاطئة ذلك أن كل أيديولوجية شمولية تقدم تفسيرا كليا للعالم بأجمعه و بالتالي لا مجال لصحة أكثر من أيديولوجية واحدة ، هذا لمن يؤمن أنه يمكن إيجاد أيديولوجيا صحيحة لأن الأيديولوجية بدون شك تمثل فكرا شموليا ، أما بالنسبة لمن لا يؤمن بذلك فكل الأيديولوجيات خاطئة بدرجة أو أخرى . و بالتالي فأصحاب الأيديولوجيات لا يخدعون الناس و إنما يفكرون بطريقة شمولية عادة ما تمر من خلال ذواتهم . الواقع أن فكرة أن أصحاب الأيديولوجيات يزيفون وعي الناس و هم بالتالي يخدعونهم تلتقي مع نظرية المؤامرة ، فهنا لا يتم النظر إلى العالم و الناس بمن فيهم المفكرين كبشر عاديين ربما يقصدون الخير و لكنهم يقعون في العكس ، يتوخون الصواب كل جهدهم لكنهم يقولون الخطأ ، بل ينظر إلى المفكرين كبشر سوبر أو سوبر بشر ، لا يمكن أن يخطأوا فإذا كان هناك من خطأ فهم قد تعمدوه ، و يقودني هذا الحديث إلى كثير من نقاشات تقييم القادة العرب ، فنظرا للويلات التي جرتها تصرفات صدام حسين مثلا (و ربما جمال عبد الناصر ) كثيرا ما أسمع من يقول هذا خائن ، أ لا ترى ما سببته أفعاله من ضرر للأمة ؟ و أنا أرفض هذا القول جملة و تفصيلا و ليس عندي و لو ذرة واحدة من الشك أن الرجلين و كثير غيرهم ممن أساؤوا لأممهم كانوا في منتهى الإخلاص و لكنه طبع الانسان خطاء . و يقودني إلى أهم من ذلك أن كل إنسان(معظم الناس على الأقل) يميل بطبعه إلى التأله و أن ما يمنع القادة في المجتمعات الحية ( و منها المجتمعات الديمقراطية و لكن هناك مجتمعات حية من غير أن تكون ديمقراطية كمجتمع الاسلام في سنواته الأولى حيث نلاحظ بسهولة أن الخليفة بل النبي ذاته لم يكن قادرا على فعل ما يشاء و كانت هناك معارضة حقيقية من مراكز القوى في الدولة الناشئة لكثير من قراراته ، لقد خرج النبي إلى معركة أحد و هو كاره لذلك ) ، أن ما يمنع هؤلاء القادة من ارتكاب أخطاء فادحة تدمر مجتمعاتهم هو النظام و ليس مناقبهم و أقرب دليل هو الوضع الأميركي في العراق فقد أُجبر الرئيس و نائبه على تغيير كامل إستراتيجيتهم و ها هم قد جنوا بعض النتائج . واهم كل الوهم من يبحث عن إنسان مثالي ، و ما يزيد الأمر سوءا أن الإنسان كلما زادت إمكانياته و قدراته كلما كان ميالا للسيطرة و التحلل من كل الضوابط ، بل وضع ضوابط يبتدعها هو و يلزم الناس بها ، بقصد تعزيز ذاته على حساب الآخرين ، أن أكثر الناس خُلقا و التزاما بمثاليات هذا العالم هم أضعفهم . و مهما بدا هذا الكلام جافا فهو عين الحقيقة و يرحم الله القائل( المتنبي): (و الظلم من شيم النفوس فأن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم) . من المهم خلق مجتمع حي و بدون ذلك فالأخطاء الكارثية التي ارتكبت ستتكرر بالتأكيد ،و هذا مثال جيد للفرق الكبير بين التفكير العلمي و غير العلمي ، فالأول يقبل العالم كما هو و يحاول إيجاد طرق ناجعة للتعامل معه و هو يفلح دائما ، بينما الثاني يفترض مثالية غير موجودة في العالم و يظل يحاول تحقيقها دونما جدوى و هذا طبيعي فهي غير ممكنة أصلا ، عندما لا تستطيع الجماهير الدفاع عن حقوقها بنفسها فان الممكن الوحيد هو ضياع هذه الحقوق ، لقد كف الناس عن محاولات تحويل النحاس إلى ذهب ، وعن محاولة اكتشاف ماء الحياة الذي من يشرب منه لا يموت ، و الواقع أنك عندما تجد شخص أو مجموعة أشخاص خالدين لا يموتون، ستجد شخص أو أشخاص مثاليين . هنا يأتي دور اللا منتمي و أقصد الإنسان ذو الروح الحرة فهو شخص مهما بلغت الفوائد التي تعود عليه من فكرة ما ، يظل عاجزا عن إتباعها ما لم تكن ذات محتوى أخلاقي رفيع ، يظل عاجزا عن ذلك حتى لو أراده ، فهو يملك حس شديد الشفافية و ضمير شديد اليقظة و التحكم و بالتالي كثيرا ما يتهمه أقرانه بأنه (أهبل ) أن اللامنتمي ببساطة هو إنسان يعجز عن تزييف وعي ذاته و بالتالي لا يتمكن من تزييف وعي الآخرين ، حيث أن الأول (تزييف وعي الذات ) مدخل لا بد منه للثاني (خداع الآخرين) و مع ذلك فمثل هؤلاء الأشخاص يميلون بشدة لأن يكونوا ضعفاء و نظريين و غير فعالين و أفضل مثال لهم هو (هملت) في مسرحية شكسبير الشهيرة ، و من هنا يتولد تناقض هام في الاجتماع البشري فالناس الأكثر قدرة على الانضباط و الأخلاقية هم الأكثر ميلا للضعف و التردد و العجز عن الفعل ، بينما الأشخاص الأكثر قدرة على الفعل و الحزم هم بنفس الوقت الأكثر ميلا للتسلط و الجبروت و التفرد بالرأي ، و الديمقراطية الحديثة تشكل أفضل حل ممكن حتى الآن ، فهي تسمح للأقوياء الميالين للتسلط بتولي القيادة و بالتالي تستفيد من قدراتهم و بنفس الوقت تمكن الضعفاء الأكثر ميلا للعدل من مراقبة القادة بل وتقرير مصيرهم . و هذا يذكرني بقول عمر (لقد حيرني أهل العراق إذا وليت عليهم التقي الضعيف عصوه(لم يستطع قيادتهم) و إذا وليت عليهم القوي الفاجر شكوه (اشتكوا من ظلمه لهم)) فقد أدرك عمر منذ ذلك الزمن السحيق أن التقى و القوة أمران متنافران لا يكادان يجتمعان و إلا لماذا لا يولي عليهم القوي التقي ؟ و ختاما فأنا لا أنفي وجود القوي التقي و لكنه نادر الوجود جدا ، و هو استثناء و ليس القاعدة و المجتمعات الفاشلة فقط هي التي تنتظر الاستثناءات ، أنها كطالب الثروة بربح ورقة يانصيب (لوتري) . ثانيا الحتمية و اليقين هما شيئان مشكوك بوجودهما في هذا العالم . بدأت القصة قديما مع السحر و الذي هو المحاولة البشرية البدائية لتفسير ما لا يمكن تفسيره ، ثم استمرت مع الدين تلتها الفلسفة و صولا إلى العلم (الفيزياء) و من حسن الحظ أن الفيزياء الحديثة قد توصلت بطريقتها الخاصة إلى الشك بوجود شيء ثابت أو حتمي أو يقيني في هذا الكون . الفيزياء الحديثة بدأ من النسبية مرورا بالنظرية الكمومية ( الكوانتا) ثم الفوضى أوضحت بجلاء أن الحتمية و الثبات في هذا العالم مشكوك بهما . كما أن أبحاث فيزيائيي الكم (الكوانتا) لم تترك مجالا للشك بأن الراصد يؤثر في نتيجة التجربة بما يعني أنه لا يمكن وجود حقيقة موضوعية بحته (مستقلة تماما عن الراصد الذي هو الإنسان) . نظرية الفوضى تعطي تفسيرات متعددة لعدم اليقينية ، بمعنى أننا عندما ننطلق من معطيات بدائية معينة فإننا ليس بالضرورة نصل إلى النتيجة التي تتوقعها قوانيننا ، أحد هذه التفسيرات هو ما يذهب إليه السيد د. غالي و يعود إلى عدم دقة قياساتنا و يعبر عنه كالتالي :(فإن لم تكن "حافة" النظام المقبلة محددة تماماً بحالته الراهنة, فذلك دال على أنّها ترتبط كذلك بحالة الأجسام الخارجة عنه. ولكن هل يحتمل عندها أن توجد من بين الوسائط n المحددة لحالة النظام "معادلات", مستقلة عن حالة الأجسام الخارجية هذه ؟ وإذا ذهبنا في بعض الحالات إلى القول بوقوع ذلك, أفلا يكون ادعاؤنا ذاك بسبب جهلنا لا غير, ولأنَّ تأثير تلك الأجسام ضئيلة للغاية, بحيث لا يتأتى للتجربة أن تقف عليه ؟) و مع ذلك فهذا لا يعني الحتمية الفلسفية أو ما يُسمى بالسببية كما أنه ليس الرأي العلمي الوحيد بل هو ليس الرأي العلمي المُرجح في الآونة الأخيرة . و أقتبس هنا عدة نصوص من كتاب بعنوان(الفوضى و الحتمية) تم تأليفه ، بإشراف : آمي داهان دالمديكو – جان لوك شابير – كارين شملا ، ترجمة هاني حداد ، منشورات وزارة الثقافة ج. ع. س. دمشق . والنص التالي من بحث بعنوان (تاريخ مبدأ الحتمية و علاقته مع الرياضيات) ل جورجيو إسريل [ مؤرخ للعلوم أستاذ في قسم الرياضيات في جانعة روما ((لاسابينزا))] منشور بالكتاب المذكور ( الصفحة246 ) : {كانت الحتمية العلمية في القرن التاسع عشر عقيدة معرفية نتجت من طروحات كلود برنار ، و انفصلت عن الحتمية الأنطولوجية( أو السببية )على طريقة ليبنتز . و منذ زمن طويل لا يعتقد أي عالم حتى في مجال العلوم الفيزيائية الرياضية ، إن النموذج الرياضي هو تعبير مباشر عن الواقع . و إذا كان النموذج حتميا و يصف الواقع وصفا جيدا ، فان ذلك لا يعني أن الواقع يتبع قوانين سببية و لكنه يعني بكل بساطة ، أن المعرفة العلمية الحتمية ناجعة . و مع ذلك ، و إن كانت وجهة نظر كهذه إلزامية في علوم الحياة و المجتمع ، فأنها ليست كذلك في علوم العالم الفيزيائي . إن ذلك يفسر بقاء بعض الأنطولوجيا السببية في أذهان علماء في بعض الاختصاصات الفيزيائية الرياضية ، مع أنهم يخفون بمهارة هذه الخطيئة المخزية . و إلا كيف نستطيع تفسير الجدال المعاصر حول ((نتائج)) اكتشاف الجمل العشوائية ؟ إن إثبات وجود نماذج ((حساسة للشروط الابتدائية)) – و هي لذلك لا يمكن التبوء بها أبدا – يظهر أن العالم لا تحكمه قوانين حتمية - . و مع ذلك، إذا كانت هذه النماذج مخططات ذهنية لا ترتبط حتما بالواقع ، فان ذلك يعني ببساطة أن الوصف الحتمي للظواهر يصادف بعض الصعوبات و قد يكون مستحيلا أحيانا ، دون أن يكون لذلك علاقة بالطبيعة السببية أو غير السببية للظاهرة . إنها ليست المرة الأولى التي تظهر فيها صعوبة من هذا النوع و يعلمنا التاريخ أن نتائج هذه (( المآسي)) كانت محدودة ، لأن ((المأساة)) الحقيقية للعلم الحديث ، سواء أ كانت معترفا بها أم مخفية خلف ستار أنيق من اللامبالاة ، هي اضطرارنا لقبول أن الوصف العلمي للعالم المبني على العلم النيوتني ليست له قيمة أنطولوجية و أنه ليس الصورة(الوحيدة-الحقيقية) للواقع، و هو لذلك ، على رغم قوته و نجاعته ، يعمل ضمن مستوى معرفي مختلف عن الوصف القديم الميتافيزيائي للعالم و الذي يسعى للحلول محله.} أ.ه. و في نفس المقال يقول المؤلف ( صفحة 258 ) : {و خلال الحقبة المعاصرة تلقت الحتمية عددا من الهزائم ، بعضها على المستوى المعرفي . وهكذا وصلنا إلى الأمل بالتوصل إلى بنى معرفية جديدة . من نمط احتمالي أو مختلط. و من الواضح أن كثيرا من العلماء كانوا يأملون (و مازالوا يأملون) ، و بشكل ظاهر أحيانا، الوصول إلى أنطولوجية جديدة لا سببية . و لكن كل ما نستطيع قوله هو أن العلم ((ما بعد المعاصر)) يبدو على صورة توسع أسي متعدد المراكز و لا ضابط له ( وهذا مثال حقيقي على الحساسية للشروط الأولية)}. أ.ه. و أنا لا أريد أن أنفي و جهة النظر المخالفة (التي تعتقد بالحتمية ) و لكن أريد أن أبين أنها ليست النظرة الوحيدة للكون بل ليست الأقوى ، و أقتبس من نفس الكتاب من بحث بعنوان(حتمية بيير سيمون لابلاس و الحتمية المعاصرة ) ل آمي داهان دالمديكو[باحثة في المركز الوطني للبحزث العلمية (تاريخ العلوم )و محاضرة في المدرسة المتعددة التقنيات -فرنسا] صفحة389 النص التالي : {اقترح ((جاك هارثونغ )) مؤخرا ، مع قليل من الفكاهة ، شكلا خامسا من النزاع بين هذه الأفكار المتعالية: الدعوى: القانون الأساسي للكون هو المصادفة، و أية حتمية جزئية نصادفها هي من تأثير قانون الأعداد الكبيرة. نقيض الدعوى: القانون الأساسي للكون حتمي بكامله، و أية ظاهرة احتمالية قد نشاهدها هي ناتجة عن الفوضى الحتمية. و على مستوى الأنطولوجيا،لا نملك الوسائل لحل هذا النزاع المتعالي . و على مستوى فلسفة العلوم ،و العلاقات بين الوقائع و النماذج ، وجدنا أن الواقعة الواحدة يمكن تفسيرها بنموذجين نختار أحدهما ،و قد لا نرى من واقعة إلا ظاهرها الاحتمالي و إن كنا نستطيع التأكد من حتميتها.} أ.ه. و في نفس المقال صفحة 382 : {.........و القوانين (سواء أ كانت حتمية أو إحصائية)وفقا للتفسير الأول لا تحدد إلا احتمال وجود العوالم الحقيقية ، أما تحول هذا الاحتمال إلى حقيقة فيرتبط، في كل مرة، بشروط طارئة ، فيما يتعلق بهذه القوانين على الأقل . و عالمنا إذا هو أحد العوالم الممكنة . أما التفسير الثاني فيرى أن بنية العالم تحدد أيضا الشروط الابتدائية لكل جملة معزولة . و ينتج أن عالمنا هو العالم الوحيد الممكن .لا يمكن إثبات أو نقض أي من هذين التفسيرين ، و لكنهما يقودان إلى موقفين مختلفين في مواجهة العلم .} أ.ه. و في نفس المقال صفحة 283 : {......إن الميكانيك الكمومي قرر بصورة نهائية عدم صلاحية مبدأ الحتمية السببية التام ، و على الأقل عدم امكانية تطبيقه في الفيزياء التجريبية } و في مقال (نفس الكتاب ) بعنوان(الحتمية و اللاحتمية ضمن نموذج رياضي ل أدريان دوادي[ رياضي – أستاذ بجامعة باريس الجنوبية(أورسي)] (نفس المصدر الصفحة 15) يقول الكاتب : و هكذا نصل إلى الفرق بين وجهة نظر هايزنبرغ و وجهة نظر شرودنغر :يرى أحدهما أن العالم مستقر و إجراء القياس يؤدي إلى حدوث تغير فيه بينما يرى الآخر أن العالم نفسه يتغير مع الزمن........................ و نعرف منذ زمن طويل أن هذين الموقفين متكافئان في الميكانيك الكمومي : و هما يتنبأان بالنتائج نفسها لكل تجربة ،و نجد هذه النتيجة أيضا في الجمل العشوائية . تبين لّمة التتابع أننا عند اتخاذ قرار ، نستطيع الافتراض ، مع شرودنغر، أننا نؤثر على مسيرة التاريخ ، أو مع هايزنبرغ أننا تعلمنا شيئا جديدا عن حال الكون لحظة الانفجار الكبير(البيغ بانغ). و لا توجد أي طريقة أخرى لاكتشاف هذه المعلومة ، مهما كنا مؤمنين بالحتمية. و لماذا لا نقول إننا في كل مرة نتخذ فيها قرارا ، نحدد حال الكون في لحظة الانفجار الكبير.} أ.ه. هذه العبارة الأخيرة تعجبني للغاية ، إننا غير ملزمين بتبني نظرة حتمية للعالم و في نفس الوقت فهذه النظرة ليست بالضرورة صحيحة بل على الأغلب خاطئة. و عموما و بغض النظر عن كل ما سبق فحتى لو كانت الفيزياء الحديثة تتبنى الحتمية كتفسير وحيد للعالم و هي لا تفعل فهل هذا التبني ملزم للفكر العالمي؟ هذه نقطة في غاية الأهمية فقد كان للسحر يوما ما ثم الدين ثم الكثير من الأيديولوجيات ، كان لها من السلطة على عقول الناس ما للعلم و بالتحديد الفيزياء من سلطة على العقول في زماننا الحاضر ، و من المهم أن نتذكر أن كثير من الأفكار الاجتماعية التي سببت دمارا واسعا كانت مستوحاة من أفكار علمية كان يسلم بأنها صحيحة في ذلك الوقت ، فقد أدى التصور النيوتني الحتمي و الجامد للكون إلى ثقافة مادية و قاسية سيطرت على أوربا عدة قرون و كذلك دفع علم الوراثة في بدايات تطوره إلى تبني فكر قومي عنصري . تقوم ثقافة أمم الشرق الأقصى على التعامل مع العالم كما هو دون محاولة البحث عن مكمل خيالي لجعل العالم كاملا (من وجهة نظر بشرية ) كالدين و الفلسفات الشمولية أو حتى الفيزياء( لا أقصد أنهم لا يهتمون بالفيزياء و لكن أقصد أنهم لا يقومون بقياس أفكارهم الاجتماعية و ثقافاتهم و تفصيلها بما يتناسب مع الفلسفة أو الدين أو حتى الفيزياء) و بالتالي لنكف عن محاولة تفسير العالم بطريقة تجعله يبدوا كاملا (مثاليا) من خلال إقحام كائن فوق كوني كامل و بنفس الوقت عدم النظر إلى العالم على أنه مجرد لعنة يتوجب المرور منها بأقل الخسائر و بأقل ارتباط ممكن بهذا العالم الفاني الرجس ، و بالمقابل فان هذه الثقافات(ثقافات الشرق الأقصى) تركز على العمل المنتج و تقبل العالم ايجابيا كما هو ، و لا أدري هل استلهم الأميركيون فلسفتهم البرجماتية من مصادر شرق أقصوية ؟ و لكن هذه الطريقة في التفكير هي التي تفسر الدعة و اليسر اللذين أمكن بهما تحديث أمم الشرق الأقصى بينما لا تزال أمم بدأت التحديث قبل أمم الشرق الأقصى بمدة طويلة كشعوب الشرق الأوسط و أميركا اللاتينية و ربما روسيا تدور في ثوابتها الأيديولوجية لعدة قرون دونما نتيجة ، كمُُ مخيف من التفسيرات الأيديولوجية و تفسيرات التفسيرات دون عمل حقيقي ، و الواقع أنه من الصعب جمع الاثنين فالإنسان إما إن يُنظر أو يعمل. و الأسوأ من ذلك أن محاولات هذه الأمم المأدلجة لإصلاح و تطوير أيديولوجياتها لم تأت إلا بمزيد من السوء و التعقيد مع مرور الوقت. و أنا هنا أحب أن أكرر مقولة : دعوا ما لله لله و ما لقيصر لقيصر ،و مع أننا نعلم أن ما لله و ما لقيصر متداخلين بشدة فلا بد من الفصل بينهما ما أمكن . و كذلك أقول : دعوا ما للفيزياء للفيزياء و ما للفلسفة للفلسفة ،فأنا أميل بشدة للاعتقاد بأن تدخل الفيزياء سريعة التغير في العصور الأخيرة ، في فرض طريقة تفكير ثقافية معينة على الناس هو مماثل لما فعلته الأفكار الدينية في الماضي و التي فرضت أفكار اعتبرتها مطلقة الصحة على ثقافة البشر ، و أنا لا أميل بل أجزم أن ما من شيء مطلق الصحة في هذا العالم و أنه حتى حقائق الفيزياء تظل صحيحة في مجال معين ، أما العالم على إطلاقه فلا يقبل التوصيف علاوة على أن يقبل التقنين . و لست أعني أن الفكر أو الفلسفة يجب أن يعمل بمعزل عن المعارف العلمية و منها الفيزياء و لكنني أقصد أنه لا يجب بحال من الأحوال أن يكون مقيدا بها ، ذلك أن الفيزياء مهما علا شأنها تظل فرع من فروع المعرفة و لا أحد يريد أن يكرر تجربة اختزال المعرفة البشرية في أحد فروعها. الفكر البشري أكثر اتساعا من العلم و أكثر رحابة و دعة و ينطلق من مبادئ إنسانية لا يتعرف عليها العلم كالرحمة و التسامح و الحب و أكتفي بإيراد مثل واحد : فمن وجهة نظر علم الوراثة يتوجب علينا أن نحدد آباء و أمهات النسل القادم على أساس علمي للحصول على نسل متفوق و بالتالي نمنع الأزواج الذين لا يحققون هذه الشروط من الإنجاب بل نملي على كل زوج الزوج الأكثر مناسبة له وراثيا بهدف إنتاج نسل متفوق ، و هذا صحيح علميا دون شك و نطبقه في تحسين النباتات و الماشية منذ زمن طويل، و لكنه مرفوض أخلاقيا (إنسانيا) .
#محمد_شرينة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
-
فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران
...
-
مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو
...
-
دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
-
البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
-
ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد
...
-
بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
-
مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
-
مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو)
...
-
الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|