منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 740 - 2004 / 2 / 10 - 06:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"من لا يعرف أحمق , أما من يعرف ويسكت فهو مجرم" بريشت
كتب روبرت دافيد في (رسالة من إسرائيل إلى الكسندر دوغين) نشرت في جريدة(زافترا"الغد") الروسية (ع 26 عام2000 ):" كلّما امتدحَكم الصهاينة والإمبرياليون مرّة يجب أن تبحثوا عن خطأ لا بد أن تكونوا قد ارتكبتموه". جاءت الرسالة ردا على مقال عنوانه (إسرائيل المحكوم عليها) نشرته الجريدة نفسها (زافترا) في عددها رقم 23 من العام ذاته. كتب المقال الذي استدعى ردَّ دافيد زعيم حركة يوروآسيا في روسيا الكسندر دوغين , وفيه يبحث هذا الأخير عن حلفاء جدد في اليمين الإسرائيلي المتطرف. وفي ردّه على دوغين يختار دافيد (الكاتب الإسرائيلي –الروسي) إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي نموذجا لمعاداة الصهيونية والإمبريالية ويرى في التحالف معهما نشدانا للعدالة وإعادة الحقوق المغتصبة إلى (السكان الأصليين). أمّا وضعنا للسكان الأصليين ضمن قوسين فيأتي انسجاما مع استهجان دافيد لقيام دوغين بإطلاق هذه التسمية على المهاجرين الروس: " أنتم تُسمّون حلفاءكم الجدد (سكانا أصليين). لا بد أن يكون لهذه الكلمة معنى , فهي ليست تعويذة ! كيف يمكن أن نسمّي مهاجري الأمس , المحتلين والمستوطنين " مواطنين أصليين" ؟ أم يكفي اليهودي أن يصعد إلى ارتفاع ثمانمائة متر فوق سطح البحر ليصبح حالا ممثلا للسكان اليوروآسيويين الجبليين الأصلييين ؟ " ثم , بعد أن يستعرض دافيد , - تماشيا مع دوغين الباحث عن ركائز تاريخية تسوّغ وجود الصهيونية -, تاريخ نشوء الحركة الصهيونية كحركة قومية , ينتهي إلى قرابتها الشديدة بالحزب القومي الاشتراكي الألماني (ناسيونال – سوسياليزم = ناسيزم) النازي. وعلى الرغم من كل الاعتبارات التاريخية يرى دافيد أن من غير الممكن التحالف مع الصهيونية أو قبول صداقتها , الأمر الذي عافته حتى النازية:" ثمة قوى شيطانية لا تجدر محاولة التحالف معها . ليس عبثا أن القوميين الاشتراكيين(النازيين) الألمان أعرضوا في نهاية المطاف عن قبول عروض الصهاينة العديدة بالصداقة ". أما التحالف فيجدر البحث عنه في المناضلين الراسخي القناعة ضد الصهيونية والإمبريالية من أمثال إدوارد سعيد , فـ:" أصدقاء روسيا في الأرض المقدسة – هم أولئك الفلسطينيون والإسرائيليون الذين يقفون على أرضية أممية معادية للإمبريالية. إن أكثر أعداء أمريكا في منطقتنا ثباتا هما الفلسطيني الأرثوذكسي ابن القدس , البروفيسور في جامعة (كولومبيا) إدوارد سعيد واليهودي نعوم تشومسكي , اللذان أساندهما من مدينتي يافا ". وفي الوقت الذي تتوِّج فيه رسالة دافيد إدوارد سعيد ممثلا لقوة تملك من المصداقية ما يؤهلها لأن تكون نصيرا قويا لحق جميع الشعوب بالحرية والعيش الكريم المستقل , فإن هذه الرسالة نفسها تكرّس , من خلال الأمثلة التي سيقت فيها عن تجربة جيش لبنان الجنوبي وجيش فلاسوف أيام الحرب الوطنية العظمى ضد النازية في الاتحاد السوفيتي , تكرّس التنديد بالخيانة مبدأ سياسيا لمن يدعي السعي إلى إحقاق حقوق أي من الشعوب , وبالتالي خسارة الرهان على قوى وحركات وأحزاب من نمط النازية وقريبتها الحميمة الصهيونية.
بما يناقض هذه النظرة الإسرائيلية الإيجابية إلى إدوارد سعيد بصفته نموذجا فلسطينيا مناهضا للصهيونية والإمبريالية , تجد نظرة الصهاينة الذين يرون في إدوارد سعيد خطرا يجب إقصاؤه. الأمر الذي يؤكد بالسلب ما تم تأكيده بالإيجاب من فاعلية سعيد الاستثنائية كمفكر فلسطيني وخطورة مكانته المميزة في الأوساط الأكاديمية.وهكذا يتبع الكاتب الإسرائيلي- الروسي إسرائيل إيلداد التقاليد الصهيونية في التعمية والتزوير والاستناد في الحجة إلى تفاهات وإغماض العيون عن الحقائق الكبرى , جاعلا من إدوار سعيد نموذجا يتمثل فيه تزييف الإعلام العربي للحقائق. وفي الوقت الذي يصعب فيه الدفاع عن الإعلام العربي , وليس من زاوية علاقته بالصهيونية , فإن تاريخ إدوارد سعيد العلمي والفكري يدافع عن صاحبه تلقائيا. وهذا ما يجعل الصهاينة يبذلون المزيد من الجهد لتشويهه. يكتب إيلداد مقالا بعنوان (مهارة الكذب) نشر إلكترونيا(13/08/2003) , يهاجم فيه العرب كأفراد وكأمّة , دون الخشية من أن يتهمه أحد بالعداء للعرب أو بالعنصرية :" من شأن المراقب الحيادي أن يلاحظ أن اللون الغالب عند العرب هو البني , لون اللاسامية والنازية [...] وقد صار فن التعتيم مهارة أساسية من مهارات العقل العربي. فالأمة العربية في هذا المجال (وخاصة جناحها الفلسطيني) تملك العديد من المعلمين الذين لا يضاهون. على واحد من هؤلاء عرّف الصحفي كوبي ميدان مشاهدي القناة الثانية. فمنذ شهر سافر هذا الصحفي إلى سويسرا وأجرى لقاء صحفيا مع أحد زعماء الجماعة الفلسطينية في الولايات المتحدة البروفيسور إدوارد سعيد بوق الفكر الفلسطيني". وإيلداد لا يتردد بتسمية إدوارد سعيد بـ (دفتر الكذب) عاكسا مدى ملامسة سعيد لمواضع الحقيقة ومدى الإرباك الذي سببه للصهيانة وجوده كرمز , رمز اللاجئ الفلسطيني الذي استطاع بالمكانة العلمية الرفيعة التي بلغها وبمثابرته ورسوخ قناعاته ومتابعته المنطقية لقضية شعبه أن يجعل الآخرين يصغون إلى صوته , فمنهم من يناصر المظلوم ويقف ضد الظلم , ومنهم من يبقى على زيفه , ومنهم من يكتفي بهز رأسه مستسلما لعجزه. يتابع إيلداد:" سأل الصحفيُ البروفيسور عن "عملية السلام" وعن مأساة الشعب الفلسطيني وعن آفاق التعايش المشترك بين الشعبين الفلسطيني واليهودي - ( بالمناسبة فإن إدوارد سعيد يعدّ ذلك غير ممكن بوجود دولة يهودية) - , ولكن السؤال الذي كان من شأنه أن يسوّغ المبالغ التي أنفقت على هذه الرحلة لم يُطرح من قبل الصحفي. أمّا السؤال المعني فبسيط: لماذا تكذبون أيها البروفيسور إدوارد سعيد ؟
وأمّا السند الذي يبني عليه إيلداد تهمة الكذب , فهو أن " سعيد الأستاذ ذا الشأن الكبير في جامعة كولومبيا" من عائلة غنية - كما يقول إيلداد - وأنه عاش في مصر في ظروف رغيدة " ناهيك عن أنه لم يعش يوما واحدا في مخيم اللاجئين , بل إنّه حقق مكانة أكاديمية ليست سيئة". وهكذا , يبدو أنّ مستوى سعيد الأب المادي وعيشه في مصر ينزعان عنه وعن ابنه الجنسية الفلسطينية , كما تنزع عن ابنه ولادته أثناء زيارة أهله إلى القدس جنسيته الفلسطينية , وتحول دونه ودون حقّه في أن يكون لاجئا: " أسرة سعيد المسيحية عاشت بصورة دائمة في القاهرة. والده رجل أعمال غني واظب على زيارة أقاربه في القدس بصحبة عائلته. في إحدى تلك الزيارات عام 1935 ولد إدوارد. وفي شهادة الميلاد كتبوا (ولد في القدس. ويعيش بصورة دائمة في القاهرة). يقول إيلداد ذلك دون أن يتساءل عن إمكانية ربط القارئ , أي قارئ لا على التعيين بشرط ألا يكون أعمى البصيرة , بين وضع سعيد وملايين الفلسطينيين من أمثاله , و وضع المهاجرين الذين ساقتهم الصهيونية إلى أرض لا علاقة لهم بها والذين لا يخجل دوغين من تسميتهم بالسكان الأصليين. ولكن , دعونا من مقولة الخجل الأخلاقية فالسياسة لا تعنى بهكذا مقولات. ناهيك عن أن الصهيونية لا تعنى حتى بالمقولة التي عبّر عنها المسرحي الألماني العظيم بريشت بقوله: " أرني وسائلك كي أحب هدفك !".وهكذا يبلغ السعار الصهيوني بإيلداد حدّاً يطالب معه بطرد سعيد من جامعة كولومبيا , محمّلا الجامعة تبعات أخلاقية على قبول وجود سعيد فيها فـ:" في جامعة كولومبيا لا يحبون الكذابين . ومن فترة قريبة طرد أحد البرفيسوريين على حشر وقائع غير صحيحة. أمّا في حالة إدوارد سعيد فقررت إدارة الجامعة أن لا تفعل شيئا. فهو من دون ذلك (طريد مشرّد). يستوجب العطف".
لكن يبدو أن الذي يغيظ إيلداد وجماعته الصهاينة ليس مكانة إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا فقط , بل الحضور المؤثر لشخصيته ولفكره في الأوساط الإسرائيلية نفسها , الأمر الذي ينقل الفاعلية من الخارج إلى الداخل ويضع إسرائيل أمام مأزق مع ذاتها:" تجدر ملاحظة أن دفتر الكذب هذا يلقى شهرة واسعة في أوساط إسرائيل الليبرالية. فقد تعلّموا منه وراحوا يطبقون بنجاح الأساليب السعيدية في صراعهم مع المعسكر القومي". أمّا تأثير إدوارد سعيد في الداخل الإسرائيلي فحقيقة يدل عليها موقف العديد من الشخصيات الإسرائيلية. من هذه الشخصيات روبرت دافيد الذي بدأنا مطالعتنا به , ومنهم أيضا إسرائيل شامير الذي يركّز في كتابه(ماضينا شأن مستقبلنا) أو (خسائر قديمة) (تل أبيب/يافا,2001)على أهمية امتلاك حق رواية التاريخ . فالصراع يدور حاليا حول امتلاك حق رواية التاريخ, كما يقول إسرائيل شامير , مستشهدا بـ " الكاتب اللامع إدوارد سعيد [الذي] رأى في كتابه (الاستشراق) أن احتكار رواية التاريخ سلاح جبار يُستخدم للتحكم بالعقول في صالح النخب السياسية والثقافية المسيطرة. ومن وجهة نظري (ما زلنا في المقبوس) , فإن احتكار رواية التاريخ يعادل احتكار طباعة العملة , أي هو يشكل جوهر السلطة." وهنا لم يفت الكاتب الإسرائيلي – الروسي أن يسوق مثالا على ذلك ما تعرّض له غارودي في فرنسا حين دافع قانون الأخيرة عن حق الصهيونية باحتكار راوية التاريخ بما يخدم مصالحها , مما يترك الحقيقة , التي لا تجد منبرا يحكى عنها فيه , غصة معلّقة في حلق الداعين إليها ودمعة ساخنة في العيون الباكية على ضياعها.
أخيرا , أود أن أختم بقول قرأته يوماً , مفاده أن قامة الأكاديمي النحيل -(وكان المقصود ديمتري ليخاتشيوف) الذي كان يناوب أيام الحرب على سطح بيت بوشكين ليطفئ الحرائق التي كانت تتسبب بها قنابل النازيين خوفا على ما في البيت من كتب ومدونات)- حالت دون العبث بوجه المدينة (أي بطرسبورغ). أمّا مدينة إدوارد سعيد ففلسطين كلها ولن يكون ممكنا لأحد العبث بها بحضور قامته مصحوبة بقوة النموذج الذي هو كائنه.
- انتهى-
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟