أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - برهان غليون - عطالة التاريخ















المزيد.....

عطالة التاريخ


برهان غليون

الحوار المتمدن-العدد: 2397 - 2008 / 9 / 7 - 08:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عندما قرأت في مطلع شبابي كتاب المرحوم هشام شرابي عن المثقفين والغرب، استفزني منهجه في التمييز الواضح بين نخبتين مسيحية وإسلامية ورصد مواقفهما المتباينة. وبدا لي هذا التمييز في ذلك الوقت مخالفا للواقع ومبالغا في رصد فروقات ثانوية في المواقف لا تنتمي بالضرورة لاختلاف الانتماءات الدينية بقدر ما تعبر عن تباين وجهات النظر السياسية والفكرية على أرضية استيعاب تحديات الحداثة العربية. وعندما كتبت كتابي المسألة الطائفية ومسألة الأقليات بطلب من المرحوم عبد الوهاب الكيالي الذي أراد معرفة كيف ينظر مسلم سني لموضوع الطائفية، تبنيت موقفا مماثلا، فرفضت أن أميز ظاهرتها كقضية مستقلة لها خصوصيتها، وبالتالي تاريخيتها الخاصة أيضا، وأدرجتها في مسألة أكبر منها هي مسألة بناء الأمة. فصارت مشكلة الأقليات عندي بالدرحة الأولى مشكلة الأكثرية، أي نتيجة لعجز هذه الأخيرة عن بناء رابطة وطنية عميقة، أو جماعة سياسية مكونة من مواطنين أحرار ومتساوين قادرة على دمج الأقليات وتحريرهم من تواريخهم الخاصة، وبالتالي ثمرة العجز عن بناء تاريخ عام جديد وموحد هو تاريخ الجماعة السياسية الوطنية. والتاريخ هنا يعني الذاكرة ويعني أيضا الصيرورة والاندماج في سيرة مشتركة.
كنت أعتقد بالفعل أن الحساسيات التاريخية المرتبطة بفكرة الأقليات ذاتها سوف تزول من تلقاء نفسها عند نشوء ديناميكية وطنية جديدة وشاملة تجذب الجميع إليها وتجرف مخلفات الماضي جميعا وتقضي عليها. وكان هذا الموقف انعكاسا للمناخ السائد في ذلك الوقت، الذي وجه بصورة لا شعورية وعينا وتفكيرنا، أعني سيطرة الفكرة القومية بالفعل على العقول والأذهان، ونجاحها في أوج ازدهارها في الحقبة الناصرية المثيرة، في انتزاع الناس من قوقعاتهم التاريخية الملية وإدراجهم في حركة واحدة، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسنة، عربا واكرادا وشراكس وغيرهم. وقد نشأ هذا النجاح عن الأمل الصاعد، في أعماق كل فرد عانى من القلق والتمزق والنزاع بسبب الانقسامات العصبوية التقليدية، بوجود فرصة تاريخية لتكوين جماعة وطنية حقيقية، والخروج من تاريخ الضياع والفرقة والانقسام الماضي والسيطرة الاستعمارية معا، أي للقطع نهائيا مع تاريخ الطوائف والملل والاتنيات، تاريخنا الحقيقي الماضي، مسلمين وغير مسلمين.
ومنذ ذلك الوقت نشأ عندي اعتقاد عميق بأن الإنسان ليس حبيس تاريخه ولا ذاكرته، وإنه، بالعكس، ميال وجاهز ومستعد للتحرك إلى الأمام والتطلع إلى المستقبل والتفكير من منظوره بدل التغريز في وحل التاريخ، حالما يشعر أن هناك بصيص ضوء او فرصا للتحرر والانعتاق. فإرادة الحياة الحرة أقوى من إرادة التقوقع والانكفاء على النفس واجترار حزازات الماضي وآلامه. ولا يزال هذا الاعتقاد هو الذي يغذي موقفي الايجابي من الإنسان ومراهنتي دائما على قدرته على الارتفاع فوق أنانيته ومعانقة حياة المباديء والسلوك حسب قواعد الأخلاق إذا ما توفرت له الفرص التي تسمح له بالارتقاء على شرطه القاهر، وإذا حظي بدرجة مناسبة من العناية الفكرية والعاطفية والتربية المدنية والإنسانية.
لكنني من دون أن أغير هذا الاعتقاد، بدأت أشعر اليوم بشكل أكبر بأن للتاريخ عطالة حقيقية، أي ثقلا لا يمكن التحرر منه إلا في حالات االثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشيء في لهيبه وعيا جديدا بالفعل. وهو ما لا يمكن حصوله إلا عندما تكون هذه الثورات حاملة هي نفسها لمشروع إنساني ينطوي على فرص أكبر لتحرر الانسان وانعتاقه، وتكون عندئذ مسبوقة بعمل طويل المدى على إعادة صوغ المباديء الإنسانية والقيم الأخلاقية والمدنية. من دون ذلك تظل عقد التاريخ وحساباته المعلقة منذ قرون حية ولو تحت الأرض وجاهزة للبروز إلى السطح، وربما إلى احتلال مقدم ساحة الوعي الفردي والجمعي، في أي فترة تضعف فيها يقظة المجتمعات، أو تخونها نخبها القيادية، أو تزل قدمها وتنهار صدقية السياسة والسلطة فيها. ومن بين هذه العقد والحسابات المعلقة، الحزازات الطائفية والمشاكل المرتبطة بالتعامل التاريخي للأغلبيات المذهبية أو القومية مع الأقليات الدينية والإتنية.
ومن ينظر إلى مجتمعاتنا اليوم يعتقد أن تاريخ الحروب الأهلية الإسلامية الأولى، وتاريخ المعاملات التحقيرية للأقليات غير العربية وغير الاسلامية التي عرفتها عهود السلطنة لا يزالان عائشين فينا إلى اليوم، ولا تزال النزاعات التي رافقتهما ورهاناتها المختلفة مستمرة لم تحسم بعد. يظهر هذا عبر النزعة المتنامية للانسحاب من الهوية الوطنية وإعادة بناء الجماعات العصبية، والانكفاء على القيم التقليدية الطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية. كما يظهر من خلال عودة الإشكاليات القديمة على صعيد المناظرة العقلية، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة، مثل بناء الدولة الاسلامية أو الخلاقة أو الامبرطورية، أو من خلال تلغيم جميع المناظرات الفكرية والسياسية الحديثة، وتبطينها بحساسيات الماضي ومخلفاته ونزاعاته التي لم يمكن حلها أو تذويبها واستمرت تعيش فينا حياتها السرية.
بل إنني أعتقد اليوم، ونحن في قلب المناظرة العربية التي أثارها انهيار النظام العام، أي المباديء الفكرية والسياسية التي قام عليها الاستقرار المجتمعي في العقود الماضية، أن تلك البطانة التي لا ترى عبر الخطاب الظاهر أو التي لا يسعى هذا الخطاب إلا إلى إخفائها، لا تجعلنا ندور في حلقة مفرغة تمنعنا من التواصل والنقاش الفعلي فحسب، وإنما تعيق، أكثر من ذلك، أي تقدم لنا على طريق حسم الخلافات الفكرية والسياسية. وأننا لن نستطيع الخروج مما ينبغي تسميته بالفعل حوار الطرشان "الوطني" من دون تنكب مهمة الغوص في هذا الباطن، الذي لا يرى ولا يسمع ولكنه هو الذي يتكلم في غالب الأحيان من وراء غلالة اللغة الفكرية والمفاهيم العقلية المستخدمة. ومما يزيد من قوة فعل هذا الباطن وشدته، كونه ليس فكرة ولا مفهوما ولا حجة عقلية وإنما هواجس تكونت بفعل تراكم الحزازات التاريخية، وتحولت إلى كرة من المشاعر الملتهبة التي تسكن الأعماق وتوجه تفكيرنا الباطن، حتى عندما تخفى على الجميع، بما في ذلك على أصحابها أنفسهم، ويصبح من غير الممكن التحكم بها ولا الكشف عنها.
هكذا يبدو للمرء أحيانا أن نقاشاتنا النظرية وحججنا العقلية في الديمقراطية والعلمانية والحداثة والقومية والوطنية والحرية والعدالة والمساواة والاشتراكية والرأسمالية والغرب والعولمة كثيرا ما تبقى ملغمة ببقايا التاريخ الماضي ونزاعاته الدينية والمذهبية والإتنية، وذاكرات أطرافه المليئة بالمخاوف والهواجس والشكاوى غير المسموعة والحسابات غير المسددة. وإذا ظهرت آثار هذه الذاكرة غير المطهرة على مستوى الجمهور العام من خلال الانكفاء على الجماعة الخاصة وتحويلها إلى هوية أساسية، مع ما يعنيه ذلك من بلورة مواقف ومشاعر وعادات وتقاليد ومواقف تعكس التأكيد على هذه الهوية والحفاظ عليها من الذوبان، أي إعاقة أي بناء جديد لوعي وطني جامع، وبالتالي لقانون جامع أيضا، ونزعة قوية للتميز والتقوقع ضمن منطق القوانين والشرائع الخصوصية، فإن آثارها عند المثقفين بارزة في عجز هؤلاء عن الدخول في حوارات جدية منتجة، وبناء لغة مفهومية واحدة. فيكاد يكون لكل فئة، لغتها المزدوجة النابعة من تمحور تفكيرها حول أولويات وقضايا ومفاهيم خاصة، وتجسيدها رهانات ومشاعر وحقائق غير معلنة نابعة من الحرص على تأكيد مواقف أو إعتقادات مسبقة أو تعزيزها. هكذا لم يعد من الممكن بناء أي حياة ثقافية أو كتلة ثقافية حية في البلاد العربية. وبدل أن يتوحد المثقفون الذين تحولوا إلى أقلية مهددة، حول رؤية مشتركة للمستقبل، تدفعهم الشكوك والحساسيات والهواحس الخاصة، المستندة إلى ذاكرة تاريخية غير مفكر فيها، إلى تحطيم بعضهم البعض والتشكيك بخياراتهم واصطناع الحيل المعقولة وغير المعقولة للايقاع بعضهم ببعض والتشهير بمواقفهم ونزع الصدقية عنها.



#برهان_غليون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زمن الفتنة
- إعادة اكتشاف المعرفة
- مصير الحلم الجمهوري
- السكون الذي يسبق العاصفة
- مبادرة قطرية خلاقة في لبنان
- الاتحاد المتوسطي، ورقة نعوة الوحدة العربية؟
- أزمة لبنان: خطايا الآخرين وأخطاؤنا
- في معنى المعارضة السياسية ووظيفتها
- العالم العربي في مهب الريح
- في أسباب تهافت ثقافتنا السياسية
- مشكلتا العرب: الديمقراطية والاتحاد
- القمم العربية جعجعة بلا طحن
- نفاق الغرب
- في جذور الثقافة السلبية
- في مخاطر الاستهتار بحق المعارضة وهدر القانون
- حتى يمكن فك الحصار عن غزة
- الليبرالية وتجديد ثقافة العرب السياسية
- الجماعة والجماعة السياسية والمواطنة
- إلغاء الوصاية شرط انبعاث الشرق الأوسط
- دفاعا عن تكتل إعلان دمشق


المزيد.....




- مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا ...
- مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب ...
- الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن ...
- بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما ...
- على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم ...
- فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
- بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت ...
- المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري ...
- سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في ...
- خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - برهان غليون - عطالة التاريخ