تعج الساحة السياسية الكوردية اليوم بكثير من المفاهيم والمصطلحات السياسية والفكرية ( المجتمع المدني ، المواطنة ، الديمقراطية ، الحداثة ), في محاولة للتماهي مع التطورات الجارية على الصعيد العالمي وانعكاساتها المحلية . وبالمقابل اختفت الشعارات التي تبنتها الحركة ومثقفيها سابقاً : ( الاشتراكية العلمية ، الشيوعية، الماركسية ، الصراع الطبقي ، العدالة الاجتماعية ) .
وكما كان ما يوسم باليمين الكوردي يرفع شعارات اشتراكية سابقاً ، فإن دعاة اليسارية أيضا يتسابقون اليوم إلى رفع شعارات ، أقل ما يقال عنها أنها ليبرالية. ولسنا هنا بصدد مناقشة الاشتراكية وقيمها ومدى صلاحيتها للتوظيف الاجتماعي والسياسي ، أو الليبرالية وأفكارها وصلاحيتها للنهوض بالمجتمع الكوردي ، أو لوم الحركة على تخليها عن الاشتراكية وتبنيها القيم الليبرالية . فما يهمنا أكثر من هذا وذاك هو انسجام الحركة مع شعاراتها في بنائها التنظيمي وحياتها الداخلية وفعلها الاجتماعي والسياسي أولاً, وآليات التحول ودوافعه ثانياً .
وسنأخذ عملية التحول من الاشتراكية إلى الليبرالية, على سبيل المثال, لتوضيح علاقة الحركة بمناهجها. فالتحول والتغيير سمة من سمات الحياة ، فليس هناك شيء ثابت ، كل شيء قابل للتحول والتغيير كما يقول هيراقليطس : ( لا يمكنك أن تستحم في مياه النهر مرتين ، فهناك تدفق دائم وتغيير مستمر ) . لكن التحول والتغيير لا يكون اعتباطياً أو مزاجياً ، إنما يخضع لأسس منطقية في إطار ظروف موضوعية . وفي علم السياسة التغيير في الرؤى والنهج يأتي في المرحلة اللاحقة للتغييرات التي تضرب البنى الاجتماعية والمنظومة المعرفية والظروف الدولية، من هنا فإن أي تغيير هو إجراء طبيعي وسليم لو أتى في سياقه الطبيعي ، نتيجة للقراءات الجديدة للحراك الاجتماعي والقوى المحركة له والمراجعة الشاملة للنهج السابق ، والكشف عن المغالطات والثغرات التي تكتنفه, على ضوء الكشوفات العلمية الجديدة ، والتي تعيقه عن معالجة المشاكل السياسية والاجتماعية المستفحلة في المجتمع . أما أن تنام ماركسياً وتستيقظ ليبرالياً ، فهذه بدعة كوردية لا يقبلها العقل والمنطق ، ومؤشر على وجود خلل ما في البنية الفكرية والسياسية الكوردية تتطلب تشخيصاً دقيقاً لها.
هناك مجموعة أسئلة غابت عن الساحة السياسية الكوردية, ناهيك عن محاولة تقديم الإجابات عليها, أو على أقل طرحها للمناقشة والمداولة مابين الأطر الثقافية والتنظيمية . وتتعلق هذه الأسئلة بموقع الاشتراكية في الفكر الكوردي الحديث والمعاصر، وكيفية تمثّل الفكر الاشتراكي كوردياً وأوجه الخلاف والتشابه ما بين الاشتراكية الكوردية ومثيلاتها في المجتمعات الأخرى, ثم قدرة الاشتراكية وقيمها على تلبية الطموح القومي الكوردي ، وتحفيز الجماهير على التفاف حول هذه الأحزاب . هذه الملفات بقيت مغلقة ولم تتطرق أدبيات التنظيمات الكوردية للفكر الماركسي من هذا الجانب ، وحتى في فترة التخلي عن الاشتراكية والتحول لم نلامس هذه المحاور فعملية التغيير تمت بصمت ومن دون أي ضجيج ، واقتصرت على شطب بعض الشعارات وكتابة أخرى, البديل المفترض, على زوايا النشرات الحزبية.
هذا التحول الميكانيكي يدفعنا للتساؤل عن اشتراكية الأحزاب الكوردية أولاً, وآليات التحول ثانيا,ً وقراءتها للمستقبل ثالثاً ، ومدى شعورها بمسئوليتها عن خطابها السياسي أمام أعضائها والشعب الكوردي رابعاً .
في مجتمع يسوده علاقات الإنتاج الرعوية والاقتصاد الزراعي البدائي ، وغياب الصناعة, والاستبداد والقمع والاضطهاد القومي للشعب الكوردي, بالإضافة إلى أن النخبة السياسية لم ترتقي إلى مستوى التعقيدات المرافقة للقضية الكوردية، وأيضاً تناقض مصالح بعض القادة, وإن على المدى البعيد, مع المنهج الماركسي, كان يصعب بلورة صورة سياسية تنسجم مع طروحات الفكر الماركسي ومن ثم ترسيخ القيم الماركسية في بنية المجتمع الكوردي . هذا الواقع بمجمل الظروف المرافقة له لم يكن مؤهلاً لإنضاج الوعي الاجتماعي الكوردي, وتعميق الإحساس بالانتماء الطبقي . مما أدى إلى هيمنة الصورة المطلقة للاشتراكية والمختزلة في جملة من الشعارات وصورة النموذج السوفيتي في الذهنية الكوردية . فلم تكن مفاهيم : الطبقة العاملة ، البروليتارية,الصراع الطبقي , والبرجوازية , تمتلك دلالات كوردية بل كانت غامضة وملتبسة . هذا الغموض وفقدان هذا الطرح للحامل الاجتماعي, صاحب المصلحة في طرحه ، ضاعف من مهام الحركة الكوردية الماركسية ، فكان عليها أولاً : إيجاد الطبقة العاملة الكوردية وتحديد معالمها, وثانياً : الإدعاء بتمثيل مصالحها والدفاع عنها . وهكذا ولدت الطبقة العاملة الكوردية بإرادة وضرورات سياسية وبمواصفات روسية قياسية , وعلى غرارها ولدت البرجوازية الكوردية ورسمت صورة للإقطاعية ولطبيعة الصراع الدائر بين هذه الفئات في المجتمع الكوردي. وبعد اكتمال سيناريو الفرز الطبقي في المجتمع وتوزيع الأدوار ما بين اليمين واليسار ، بدأ سباق مارتوني للفوز بلقب ممثل الطبقة العاملة الكوردية المفترضة ، فافتعلت صراعات بين تلك القوى ونسبت إلى تباين مواقع تلك القوى في النسيج الاجتماعي الكوردي ، وتعارض مصالح الفئات الاجتماعية التي تمثلها ، فنجمت عنها حركة الانشقاقات التي لم تنتهي إلى الآن .
ورغم حدية الصراعات ورغم كل الانشقاقات التي حدثت لا يكاد الباحث يجد أي قراءة ماركسية للمجتمع الكوردي أو قراءة كوردية للماركسية ، فلا ساهمنا في رفد الفكر الماركسي بموضوعات جديدة وآليات معالجة ، ولا تمكنا من ترسيخ الفكر الماركسي في المجتمع الكوردي. فالمكتبة الكوردية تكاد تفتقر إلى الدراسات الاجتماعية والفكرية والإحصاءات الرقمية اللازمة لتأسيس أي مشروع سياسي ناضج إلى حد ما . فكيف امتلكنا أحزاباً ذات أيديولوجيات فكرية معينة وافتقدنا إلى المخاضات الاجتماعية والفكرية الضرورية لفرز مثل هذه التنظيمات ؟ الجواب ما زال مؤجلاً .
عملية التحول أو التخلي عن النهج الاشتراكي لم تختلف كثيراً عن التبني الاشتراكي, فكما أن التبني تم بقرار قيادي, فإن التخلي أيضاً تم بقرار قيادي ، ولم تجد قيادات تلك التنظيمات أي حاجة لإشراك الجماهير الكوردية في اتخاذ هذا القرار المصيري , بل إن قرار التخلي لم يطرح للمداولة والنقاش في إطار المؤسسة الحزبية ذاتها . وهذا القرار لم يستند على قراءة للحراك الاجتماعي الكوردي ، أو قراءة معمقة للفكر الماركسي ، فكما أن التبني كان ظاهرياً ودعاية إعلامية وانبهاراً بالدعاية الاشتراكية وإنجازاتها ، فإن التخلي جاء في سياق الانهيار الذي أصاب المنظومة الاشتراكية وكشف الكثير من المغالطات وزيف الإنجازات . ومن ثم فقدت المقولات الماركسية بريقها السابق وتأثيرها السحري على الناس ، واصبح مجرد طرح مثل هذه المقولات يتطلب عملاً والإجابة على الكثير من الأسئلة المطروحة ، وهذا ما تهربت منه التنظيمات الكوردية ، فلم تجد أي مسوغ لإعادة طرح النهج الماركسي بعد سقوط التجربة السوفيتية ، فهي بالأساس لم تكن ترى فيه سوى وسيلة لخدمة الحزب ولجذب الناس إليه وليس العكس ، وهذا الموقع الذي احتله التنظيمات في الذهنية,أي كونها غايات بحد ذاتها تحتاج إلى وسائل, مرده الطابع العشائري للمجتمع الكوردي ، والذي تحتل فيه القاعدة التي تقول : الفرد لخدمة العشيرة, موقعاً مركزياً, وليس العكس, والأغرب من كل هذا, أن الاصطفافات التي تمت في المجتمع الكوردي على أساس الموالاة أو التبني للنهج الماركسي استمرت بأطرها التنظيمية مع تخليها عن أسباب ودوافع تلك الاصطفافات . والتخلي عن المقولات الماركسية تلازم أيضاً مع استقدام مقولات ليبرالية وترقيع الخطاب السياسي الكوردي بالمفاهيم والمصطلحات الليبرالية والتنظير لها بشكلها المحض غير المشخص في الواقع الكوردي, ولم يحدث هضم للمفاهيم وإعادة إنتاجها في البيئة الجديدة . وربما كان المجتمع الكوردي بحق استثناءً فقد تم فيه التحول من النقيض إلى الآخر من دون أي خسائر تذكر على أطره التنظيمية والسياسية من حيث علاقتها بالشارع الكوردي ، أو تغيير في آلياته التنظيمية الناظمة للحياة الداخلية, فما كان صالحاًً للدعاية للاشتراكية يجد في نفسه الصلاحية ذاتها للدعاية لليبرالية وقيمها .
عملية التحول عن الاشتراكية وتبني الليبرالية تمت بعد سنوات من الغناء والتغزل بالفكر الماركسي والصراع على صكوك ملكية ماركس ولينين, فكون اشتراكية التنظيمات كانت صورية لا تعفيها من المسائلة عما حدث وهذا لا يعني تحميلها المسئولية الكاملة, لكنها ملزمة أما م التاريخ والشعب الكوردي على إجراء المراجعة الشاملة لنهجها السابق, وذلك من باب احترامها للعقل الكوردي ولتاريخها . فإن كان تبني النهج الماركسي خطاْ حسب تلك التنظيمات فيجب عليهم البرهنة على أنهم سيتجنبون مثل هذا الخطأ في المستقبل ، وأن ولائهم لليبرالية مختلف تماماً عن التزامهم السابق بالماركسية, وأن أفكار الليبرالية ستتحول إلى خطوات إجرائية وممارسات وسلوكيات يومية ، ينتج عنها إيجاد هيكل تنظيمي منسجم مع هذه الآراء الجديدة والداعية إلى احترام حرية الرأي والاختلاف وحقوق الأفراد. بغير ذلك سيكون الأمر مجرد عزف كوردي سيئ للحن أوروبي متطور وبآلات موسيقية صدأه .