كتبت قبل فترة مقالة عن قرار مجلس الحكم العراقي المؤقت بالغاء قانون الاحوال الشخصية العراقي رقم 188, تحت عنوان "وا بريمراه" اهاجم فيها القرار بالغاء القانون اعلاه واحلال الشريعة الاسلامية محله. ويبدو ان مشكلة هذا القانون لم تنته بفشل القرار 137, فما زال اصحاب ذلك القرار يطلبون دم القانون 188 وقد توعدوا صراحة بانتظار الفرصة المناسبة لانهائه, لذلك فلا بأس من المزيد من الحديث عنه.
من بين الردود التي وصلتني على مقالتي الاولى, ايميل من صديق يخالفني الرأي وكان يسأل وله كل الحق: لماذا انت معترض على القرار 137؟ القانون 188 ايضا مؤسس على الشريعة الاسلامية فلم كل هذه الضجة على احلال الشريعة مباشرة محله؟ ما الذي لا يعجبك فيه بالضبط؟
لم يكن السؤال محرجا تماما فلقد كان لدي ما يكفي من الاسباب لرفض القرار. فيكفي ان القانون 188 كان يلم جميع العراقيين في بوتقة قانونية واحدة لا تستطيع الشريعة ان تقدمها بعد ان تجزأت وتنوع تفسيرها, الا بتجاهل جزء هام من المسلمين. ويكفي ان القانون كان يحمي حقوق المرأة بوضوح وبشكل محدد, اكثر كثيرا مما لو اعتمدنا على التفسير الشخصي للقاضي او الشيخ او السيد, للشريعة وكيف يجب ان تطبق على كل حالة. ويكفي ان القانون كان حصيلة دراسة وعمل سنوات عديدة قام بها داراسون اكاديميون للقانون, على العكس من القرار 137 الذي يذكرنا بسرعة صدوره وبلهجته بقرارات صدام حسين الذي كان يقول عن القانون انه مجرد "جرت قلم".
كل هذا كان يكفي ويزيد.
الا ان السؤال قد اثار انتباهي الى حقيقة مهمة. فعندما كنت احضر لكتابة مقالتي الاولى وجدت وقرات الكثير من المقالات عن الموضوع الا انها جميعا كانت تتحدث عن تاثير القرار 137 ودور القانون 188, وليس بينها مقالة واحدة تحدثنا عن محتوى ذلك القانون, لتعلمنا ما الذي سنخسره بالضبط لو انه الغي. لذلك قررت البحث من جديد.
اليكم ما وجدت:*
صدر القانون 188 عام 1959 وكان القانون الاول للاحوال الشخصية في العراق, وكان القضاء قبله اعتباطيا يعتمد تفسير القاضي للشريعة. والشريعة يمكن ان تفسر بطرق كثيرة متباينة, حسب المذاهب وحسب رؤية القاضي الذي لم يكن هناك قانون يحده, انما هناك مؤشرات تاريخية ترشده ومجموعة كبيرة من الاحاديث التي يترك امر الثقة بصحتها ايضا للقاضي نفسه.
قرر مشرعوا القانون في البداية مساواة الذكر والانثى في الارث استنادا الى ان هناك العديد من النصوص القرانية التي تساوي الذكر بالانثى, واخرى تعطي الذكر حقا اكبر. الا ان هذه النقطة اثارت الخلاف فالغيت بعد 1963 وعادت نسبة الارث 2 الى 1 لصالح الذكور. كما اجريت العديد من التعديلات القانونية عليه في السبعينات من القرن الماضي, بجهود اساتذه القانون العراقيين.
حدد القانون بالارقام, العديد من التعابير غير المحددة في الشريعة الاسلامية. فمثلا تشترط الشريعة الاسلامية للاهلية للزواج, الوصول الى عمر "البلوغ", وهو تعبير لا يعطي العمر بشكل محدد, فحددها القانون ب 18 عاما ثم ترك المجال مفتوحا لمن بلغ 16 عاما مقرونا بشرط موافقة الاولياء والقاضي. ان مثل هذا التحديد يقلل من مجال الخطأ او اساءة استخدام القاضي والاهل لحقهم في تفسير "البلوغ" لكل حالة على حدة, واوكل الامر لقانون عام.
وكذلك وضع القانون عقوبة محددة للاكراه على الزواج, وهو محرم دينيا, بالسجن لمدة لا تقل عن 6 شهور او بغرامة, مع بعض الحالات المخففة. وحدد ايضا حق الزوجة طلب التفريق عن الزوج عند هجرها لمدة سنتين او اكثر, وكذلك التفريق بسبب الضرر, مثل الخيانة الزوجية.
لم يمنع القانون تعدد الزوجات لكنه اشترط فيها موافقة القاضي. وهذا الامر قريب من روح النص القراني الذي اباح ذلك التعدد بحذر شديد حين اشترط العدل ليعود وينفي امكانية تحقيقه بشكل تام حتى ان البعض اعتبر النص القرأني اقرب الى التحريم منه الى الاباحة.
لذلك فان اشتراط موافقة القاضي للزواج من الزوجة الثانية وما بعدها, ليس غريبا عن روح القرأن وتفسيره.
لقد حمى عقد الزواج داخل المحكمة المواطنين خلال اربعين عاما من العديد من الاخطاء ومن الكثير من الاحتيالات واساليب الاستغلال التي كانت تجري قبله, واستمرت احيانا بعده خاصة في الريف. فمثلا كان بعض الاباء يعقدون زواج الابنة على اكثر من رجل ليستلم مهرها من كل هؤلاء دون ان يعلموا ببعضهم الى حين.
يظهر مما سبق ان القانون 188 لم يكن الا تفسيرا للشريعة الاسلامية. فالشريعة الاسلامية كغيرها من الشرائع, تسمح بمجال من المرونة والحركة لاصدار الاحكام. هذه المرونة تعينها على العمل بكفاءة في ظروف مختلفة متغيرة وهي شرط للبقاء على قيد الحياة لكل قانون يريد ان يمتد عمره ليغطي زمنا اطول من زمن ولادته. فكلما اريد لتلك الشريعة ان تعمل في ظروف اشد اختلافا, توجب ان تتمتع بقدر اكبر من المرونة, وان يستفيد اتباعها من تلك المرونة بعناية وحرص كبيرين.
لا احد يستطيع ان ينكر ان المجتمع الذي نعيش فيه اليوم شدبد البعد زمنا ونوعا عن مجتمعنا يوم بزوغ الاسلام, ولذا اكتسبت المرونة التي تتيحها الشريعة الاسلامية اهمية حاسمة لبقائها فعالة على ارض الواقع, وتوجب تقنين تلك المرونة واستخدامها بشكل مدروس ومحدد وعدم تركها للتقدير العفوي لكل قاض على حده.
لقد ازدادت على سبيل المثال, اعباء المرأة وواجباتها وازدادت متطلبات حياتها الضرورية لتعيش كانسان له دور في مجتمعه, وازداد بذلك ايضا وعيها بشكل مواز. فمن المنطقي اذن من ناحية ان يستخدم من الشريعة مجالها الاكثر تسامحا وعطاء للمرأة انصافا لها من الضغط الاضافي الذي تتحمله, ومجالها (الشريعة) الاكثر حرية استجابة للوعي الجديد الذي تتمتع به المرأة.
ومثلما تغير حال المرأة تغيرت كل الاحوال بشكل او باخر.
لذلك فان القانون 188 كان حلا شرعيا اسلاميا, قنن واضعوه ومعدلوه المرونة المتوفرة في الشريعة الاسلامية واستفادوا منها, لجعل تعايش المسلمين ممكنا في ظروف الحياة الحديثة وما تتسم به من تحديد ووضوح وتنوع واختلاف عن الماضي لا يمكن نكرانه. فمرونة الشريعة جزء منها, واحترام تلك المرونة وحصر تحديد استخدامها والحركة في داخلها بقانون مدروس علميا وحيادي عام, تصرف اقرب الى احترام تلك الشريعة من ترك الامر عشوائيا لكل قاض ليتصرف بها بما قد يسئ الى الناس والى تقييمهم للشريعة.
بهذا نرى ان القانون 188 قد احترم الشريعة الاسلامية وحماها من عبث العشوائية والاعتباطية لكل قاض منفرد, ولكل حالة منفردة, ومن الانكسار امام تغير الزمن والمجتمع, وتمكن مشرعوه بجهدهم الذهني الكبير المتواصل من جعله السمنت الرابط لجميع طوائف العراق الاسلامية المختلفة في بناء قانوني واحد يأوي الجميع. هذا القانون يستحق من كل العراقيين, وخاصة المسلمين, الاعتزاز به والعمل على صيانته وتقويته وتطويره, ويستحق مشرعوه كل التقدير والامتنان.
هذا اذن هو القانون 188, ومن حقنا ان نسأل اصحاب قرار الغائه: ما الذي لم يعجبكم فيه بالضبط؟
روتردام
27 ك2 2004
www.anbn.iraqcd.com
[email protected]