أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عزيز الحاج - منغصات في المستشفيات















المزيد.....

منغصات في المستشفيات


عزيز الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 2392 - 2008 / 9 / 2 - 03:27
المحور: سيرة ذاتية
    


في السنوات العشرين المنصرمة كنت ضيف مستشفيات باريس باستمرار، ومن حسن الحظ أنني هنا، حيث الرعاية الطبية الناجعة، والأطباء الكفء، والممرضات الساهرات. مع ذلك فقد مررت بلحظات إزعاج تنغيص، انطبع أكثرها في الذاكرة، وبعضها يثير في اليوم ابتسامة عريضة.

عندما كنت أخرس!
في صباي الباكر، كانت في حينا [المحلّة] شخصيتان مثيرتان: المجنون حسون، والأخرس عبود. ولم تكن لحسون شهرة خارج الحي بالعكس من مجانين بغداد المشهورين على نطاق بغداد في العشرينات، والذين كتب عنهم باحثون من وزن عبود الشالجي. ولكن وجودهما بين سكان المحلة كان موضع أنماط عديدة من التعامل والنظرات، ما بين الرحمة والرفق من الكبار دون نقص في النكات، وما بين قسوة السخرية والأذى لدى الصغار. وكان المرحوم والدي يمنعني منعا باتا من الانجرار وراء هرج الصبية وضوضائهم وهم يقلدون بسخرية أخرس المحلة ويطاردون مجنونها المسكين، " جا المخبّل، راح المخبّل". وقبل انتقالنا لذلك الحي كنا نسكن في حي مجاور بالقرب من نهر دجلة. وكانت مقابل دارنا بنت جميلة جدا ولكنها مجنونة. وقد تذكرتها قبل عقدين وكتبت عنها قصة قصيرة نشرت في بعض المجلات الأدبية في بيروت.

وكبرتُ ووصلتُ الغرب فإذا للصم البكم تربية وتعليم خاصان وبعناية فائقة، وانتقلت هذه "العدوى " الخيّرة لبعض بلداننا تعليما وفي نشرات الأخبار. وكثيرا ما أشاهد في شوارع باريس أو المترو فتاتين جميلتين أو فتاة ورجلا يتحدثان بإشارات وحركات فأفهم حالا أنهما أخرسان. ولم أشاهد يوما ما فرنسيا أو فرنسية تضحك على أصم أبكم بالعكس من المجتمعات العربية حيث تقاليد التعيير بالعيوب الجسدية للشخص، فهذا أعور وهذا أعرج، وهكذا.

ولقد عرفتُ مختلف التجارب وعرفتني، وعانيت، وتخاصمت، وأخطأت وهوجمت، وسجنت وخرجت، وغرّبتُ في الرحيل وشرّقت حتى حللت باريس؛ ولكن التجربة التي هي موضوع مقالتي جديدة، و كانت صعبة ولكنها مضحكة أيضا.

فقد صار صوتي قبل أربعة أشهر يخفت شيئا فشيئا، وكما نقول "يطبّك". أحيانا كنت عندما أتكلم كأنما أتحشرج. طبيب صديق شرحت له الحالة بالهاتف فقال إن السبب هو تبدل الطقس والتلوث، وإن عليَّ بشرب الماء الدافئ باستمرار. أما صديقي اللندني المرح فكان يقول كلما كلمني من لندن: "وأسفاه؛ سوف نحرم من "كليب " جديد بصوتك العذب. إن شاء الله يصلح حاله، وتسجل لنا كليبات جديدة مع الحسان."

ذهبت لطبيبة عامة، فطلبت مني ان أعرض نفسي حالا على أخصائي، ففعلت وأنا قلق. وبعد الفحوص تبين أن هناك قرحة في الأوتار الصوتية، التي تسمى بالعربية "الحبال الصوتية"، ولا أدري كيف يمكن لحنجرة إنسان أن تكون فيها حبال! الطبيب ذكر أنه يجب إجراء عملية مستعجلة. وبعد أسبوع دخلت المستشفى، وفي اليوم التالي جرت العملية وأنا لحسن الحظ نائم بالتخدير العام.

المشكلة بدأت مع اليقظة. أذكر أن الطبيب الجراح وزملاءه قالوا قبل العملية: "مطلوب منك راحة صوتية لمدة ثمانية أيام بعد العملية." في الحقيقة لم أفهم وتصورت المطلوب راحة عامة. وبهذا الفهم الخاطئ طلبت بعد ساعة من اليقظة كوب شاي. نهرتني الممرضة وقالت: "قلنا لك لا تتكلم لمدة ثمانية أيام." فاعترضتُ محتدا بقولي:" كلا لم يقل لي أحد ذلك." استدعت الممرضة الطبيب وانتقدني على عدم الالتزام بالتعليمات، فرحت أجادله وأكرر أنه وزملاءه لم يقولوا لي شيئا عن الامتناع عن الكلام. المهم، بدأت بتنفيذ التعليمات بعد أن انتهكتها بعيد العملية تماما!

رحت أستعين بالقلم والورق والإشارة مع الأطباء والممرضات. ولكنني رددت على تلفون صديق قائلا "لا أستطيع الكلام." طلب الشرح والإيضاح فقلت له:" أرجوك اقطع الخط." وعرفت بعد خروجي بأيام أنه زعل من قولي.
صباح اليوم التالي ليوم العملية، كانت موزعة الشاي والقهوة إفريقية سوداء لا تعرف حالتي. صرخت من الباب:" قهوة أم شاي؟".أشرت لها بأن تقترب لأكتب ما أريد، لكنها صرخت مذعورة :" لا، ليس أنا، لا!" هربت وحرمت من الشاي طول النهار. وفسرت موقفها بأنها تصورت أن إشارتي هي تحرش بها، فذعرت من هذا الشيخ الذي يتحرش بالنساء وهو على سرير المرض! ورحت أقول مع نفسي: "أين ذلك الزمان يا رجل؟! وهل أجمل من الوجه الحسن؟ هل هناك مخلوق أروع من المرأة، شابة أو عجوزا أو طفلة؟"

ما أروع قول البابا مخاطبا النساء، " شكرا يا امرأة لمجرد أنك امرأة!" وفجأة داهمتني الأفكار عن المتزمتين المتطرفين باسم الدين وهجمتهم الوحشية على المرأة وحقوقها في العراق. حقا أستغرب لهذه الموجة الظلامية السوداء في العراق، التي تفرض الحجاب حتى على المسيحيات، وفي قلب الجامعات، والتي تطالب بمنع التعليم المختلط في الجامعات، هذا التعليم الذي بدأ منذ بداية الثلاثينات. فأين نحن من عراق الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات؟!

السياسة تدخل عندي في كل شئ، وهذه كما أعرف طبيعة المثقفين المسيسين العراقيين؛ ما أن يجلس اثنان منهم حتى ينفجر الجدال وتسيطر أجواء السياسة على الجلسة وقد تنتهي بخصام. ويذكر حنا بطاطو أنه ما أن يجتمع سياسيان عراقيان حتى يؤلفا ثلاثة أحزاب! وقد قرأت أن أحزابنا اليوم تكاد تبلغ المائة ـ ما شاء الله .. أللهم زد وبارك!
عندما حل موعد خروجي من المستشفى، ذهبت لقسم الإجراءات الإدارية، فوقعت على موظفة كنت أجيبها كتابة، ولكنها عجزت عن قراءة بعض الجمل. هنا أفطرت عن الصيام وقلت: "سيدتي أقصد كذا وكذا وقد أجبرتني على الكلام!" كنت غضبان وإن لم أظهر ذلك. ومن التاكسي للبيت مشت الأمور حسنا عن طريق الكتابة.
قلعت الخط التلفوني وكتبت لابنتي وبعض الأصدقاء رسائل بالإيميل عن صيامي الطويل ولا سبيل سوى االأنترنيت، الذي أعتبره أعظم مخترعات العلم. وأستغرب للمتعصبين الاسلاميين شتمهم ليل نهار للغرب، مع أنهم يستخدمون المخترعات الغربية من إنترنيت وإيميل حاسوب وطائرات وهواتف نقالة، ولكن لممارسة الشر وزرع الموت والدمار. وأستغرب لمن يسمون أنفسهم "أعداء العولمة"، مع أنهم وجميعنا نعيش العولمة بكل تفاصيلها، وأولادهم يأكلون عولمة الهمبرغر! ولكنها الموجة الإيديولوجية الجديدة التي تجمع تحت عباءتها الإسلامي القاعدي، واليساري المتكلس، واليميني الغربي المتطرف، مثلما التقى جميع هؤلاء على معارضة عملية إزاحة صدام، وعلى التعاطف مع قتلة أطفالنا بالجملة!

كانت الأيام التالية هي الصعبة، والمحرجة؛ فقد اعتدت أن أكلم نفسي أحيانا، نقاشا أو ترديدا لبيت أو أغنية ما. ولهذا كنت أنسى نفسي والتعليمات أحيانا. ولكن الحرج الشديد كان عند الشراء والتعامل مع الناس في الأسواق. كنت أخرج وقد وضعت منديلا على فمي، وأتعامل مع الناس بالإشارات كالأخرس فكانوا يردون بالإشارات. من لا يعرفونني تصورا أنني أخرس فكنت أضحك على نفسي مع نفسي ورحت أسمي نفسي "عزيز الأخرس"، وأقول في باطني: " هل وصلت بك الحال لتكون أخرساً، وأنت في بلد ديمقراطي لا في ديكتاتورية تقطع اللسان على همسة أو نكتة!" أما صديق عزيز في لندن فكتب لي بالإيميل:
" أخشى أن ينتهي صومك وقد نسيت الكلام!" وبالفعل فما أن انتهت الأيام المحددة للصمت الإلزامي حتى مددتها يومين آخرين بحجة أن ذلك أفضل للجرح لكي يتعافى تماما!
فارقت صومي الفريد وفي نفسي شئ من حنين إليه! فما أعجب طباع البشر!



#عزيز_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اغتيال دنيء، ويوم آت لأعداء الفكر، والنور..
- مطاردة مجالس الصحوة: يا ليت شعري ما الصحيح؟!
- تداعيات العمر (9)
- إيران، و-ملأ الفراغ- في العراق!
- ماذا يريد بوتين من جورجيا؟!
- تداعيات العمر (8)
- -كبار- العراق يتصارعون، و-الصغار- يعانون!
- تداعيات العمر (7)
- حرنا: معاهدة، بروتوكل؟، جدول؟، -فضاء-؟، أم ماذا؟!
- البؤس المزمن للسجال العراقي– العراقي..
- طالباني وباراك: لماذا هذه الضجة المفتعلة والمنافقة؟؟
- تداعيات العمر (6)
- إنها في السياسة أيضا، يا صديقي!
- عن الاتفاقية أيضا..
- تداعيات العمر (5)
- تداعيات العمر (4)
- تداعيات العمر (3)
- تداعيات العمر (2)
- تداعيات العمر (1)
- بين السياسة والأدب والحياة [3]


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عزيز الحاج - منغصات في المستشفيات