* مقدمة
1- في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان : المهام و التحديات
2- البيئة السياسية والحقوقية في سوريا
3- الإشكالية الفكرية الأساسية : الحداثة و التقليد
4- بعض عناصر الثقافـــة السياسيــة السائـــدة
- خطاب وطنـي / قومـي ضـد خطر الخـارج
- مقاومــة المحتــل
- عقــدة الخــوف من الغــرب
- حقـوق الإنسان و الديمقراطية القادمتين من الخارج
5- إشكالية العالمية والخصوصية
6- إشكالية حقوق الإنسان و الديمقراطية
7- إشكالية حقوق الإنسان و السياسة
- مشكلة «الثنائيات»، والعلاقة بين حقوق الإنسان والسياسة
- النشاط الحقوقي والعمل الحزبي
- الخطاب الحقوقي والخطاب السياسي – الحزبي
8- إشكالية الأولويات المطروحة في مجال حقوق الإنسان
9- إشكالية العولمة وحقوق الإنسان
10- الإشكالات الذاتية
* كلمة أخيرة
* مقدمة
موضوع محاضرتي هو الإشكالات المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان وبالعمل في مجال حقوق الإنسان ، وهي بلا شك إشكالات عديدة ، منها ما يتعلق بطبيعة الفكر الذي يرتكز إليه العاملون في مجال حقوق الإنسان ، ومنها ما يتعلق بالجدال الثقافي حول بعض القضايا الخلافية في مجال حقوق الإنسان ، ومنها ما يتعلق بالعقبات العملية التي تواجه العمل .
جدير بالذكر أن هذه الإشكالات عامة في المنطقة العربية ، ومنها سوريا ، مع الاختلاف في درجة حضورها بين بلد وآخر . بالتالي المحاضرة ليست معنية برصد انتهاكات حقوق الإنسان في بلدنا ، ولا هي معنية بالتذكير بعهود ومواثيق حقوق الإنسان . إنها معنية أساساً بالثقافة السياسية السائدة والفكر المحمول عند الطيف السياسي في سوريا ، سواء في السلطة أو المعارضة أو المجتمع المدني أو المجتمع العام ، وبمدى توافقها أو تعارضها مع ثقافة حقوق الإنسان ، والعقبات التي تضعها أمامها ، والأبواب التي تفتحها . لذلك أعتقد أنها ستطرح قضايا تستحق النقاش و الحوار مثلما تستحق الصبر والاستيعاب الصحيح والتعامل بعقل مفتوح دون تخندق أو تصيد أو استياء .
أولا : في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان : المهام و التحديات
كان العاشر من شهر كانون الثاني 1948 فاتحة عصر جديد للعالم بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، الذي اعتبر أن مبادئ وقيم حقوق الإنسان هي " المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب والأمم"، و هو ما شكل نقطة ارتكاز أساسية لمجمل التطورات التي طرأت في هذا المجال ، إذ استندت إليه جميع المعاهدات و الوثائق الدولية الخاصة بقضايا حقوق الإنسان، التي شكلت ما يعرف باسم الشرعية الدولية لحقوق الإنسان . منذ ذلك اليوم أصبحت حقوق الإنسان أحد أهم المعايير الأساسية لتقييم أداء النظم السياسية في العالم، و أصبح مدى احترامها معياراً لمصداقية سياسات الدول والحكومات. لكن إلى جانب هذا التقدم على المستوى القانوني والحقوقي في العالم في ميدان حقوق الإنسان، نتلمس واقعياً الانتكاسات المتكررة التي تعرضت لها، وآخرها التراجع الكبير بعد أحداث 11 أيلول، وتصاعد الحرب المجنونة ضد الإرهاب والعدوان الأمريكي على العراق.
على الصعيد العربي كانت المنطقة العربية ، ومنها سوريا ، طوال نصف القرن الماضي من أقل المناطق تأثراً و استجابةً لنهوض فكر و ثقافة حقوق الإنسان، ويقف وراء ذلك أسباب عديدة ، لعل أهمها الاستبداد السياسي واستمرار عمليات القمع للحقوق والحريات الأساسية و افتقاد العديد من البلدان العربية للبنية المؤسساتية العصرية وهزالة الهيئات التشريعية والتمثيلية و بقاء العدوان الخارجي والعنف العسكري والاقتصادي الملازم له، والذي يقود إلى مزيد من تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان.
واليوم إذ تمر الذكرى الخامسة والخمسون لصدور الإعلان، فإن ذلك يطرح علينا في بلد كسوريا الكثير من الهموم والإشكاليات المتعلقة بحقوق الإنسان و مسألة الانتقال إلى الديمقراطية . ولذلك يغدو لزاماً إعادة التفكير بأساسيات حقوق الإنسان و الإشكاليات المتنوعة التي تطرحها علينا ، هذه الإشكاليات التي لا تختلف في سوريا عنها في بقية البلدان إلا بالدرجة .
ثانيا : البيئة السياسية والحقوقية في سوريا
مازالت سوريا تعاني من استمرار العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية منذ ما يزيد عن الأربعين عاماً ، ومن تبعاته كتغييب الدستور وإضعاف القضاء العادي واستقلاله لصالح القوانين والمحاكم الاستثنائية ، و احتكار العمل السياسي ، ومنع النقابات من ممارسة دورها ، وتعطيل حركة المجتمع المدني . هذا الأمر أدى ، ولا زال ، لسيطرة حالة من العطالة العامة للطاقات الكامنة في المجتمع على كافة المستويات .
يضاف إلى ذلك إمساك الدولة بكافة مفاصل العمل السياسي والنشاط الاقتصادي والاجتماعي وتضييق مجال المشاركة في الشؤون العامة للوطن وتغييب الرأي الآخر وحرمانه من حقه في التعبير والوجود الرسمي ، فضلاً عن إضعاف المؤسسات التمثيلية و إفراغها من محتواها .
هذا كله أدى إلى انتشار الفساد و الإفقار المتزايد للمواطنين ، ليطال التهشيم كل قطاعات المجتمع التي ارتدت إلى مستوى المتطلبات الدنيا ، وليتقلص الاهتمام بالشأن العام . وفي المحصلة ضمرت العفوية والتلقائية لدى المواطن السوري ، وسادت أزمة عامة في القيم و الأخلاق والتوجهات ، و استشرى الانغلاق على العائلة والعشيرة والتعصب والجنوح نحو الخلاص الفردي .
لا بد من القول أيضاً أنه قد بدأت منذ ثلاث سنوات مبادرات إيجابية من السلطة بشأن مكافحة الفساد و الإصلاح الاقتصادي والإداري لمعالجة الخلل المتراكم ، لكن هذه المبادرات ظلت مثلومة ولم تقدم نتائج إيجابية ملموسة ، ونضيف إنها لن تقدم ، ولا يتوقع أن تقدم ما لم تتزامن بمبادرات عملية بشأن الإصلاح السياسي .
رغم المبادرات الجزئية على المستوى السياسي ، كتخفيف العمل بقانون الطوارئ ، وتقليص حجم الاعتقال التعسفي ، و بعض الإفراجات عن المعتقلين السياسيين ، ونوع ما من التقبل الحكومي لبعض مجالات العمل المدني المستقل ، إلا أن السياسة الحكومية لم تتغير في الجوهر ، فها هي الدعاوى ترفع ضد أربعة عشر ناشطاً في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان في مدينة حلب ، ولا زال يتم الاحتفاظ في السجن بمعتقلي شهر أيلول 2001 كالمحامي حبيب عيسى ، والدكتور عارف دليلة والدكتور كمال لبواني وغيرهم .
هذه الأوضاع على سوئها ،ثمة ما هو أدهى منها ، وهو إدارة الحكومة الظهر لكل الدعوات الإصلاحية في المجتمع ، فهي تعمل بتوقيتها واعتباراتها ، وتشيح بوجهها عن الآراء الأخرى ، ولا تسمع إلا صوتها في قراءة الأوضاع الداخلية والإقليمية .
أما أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية فهي مسترخية ، ويبدو أنها تأقلمت مع أوضاعها ، والمعارضة السياسية ( التجمع الوطني الديمقراطي ) ليست أفضل حالاً ، إذ على الرغم من أدائها الإيجابي تجاه دعوات خطاب القسم الإصلاحية ، وخطابها و سلوكها المتوازيين عموماً ، إلا أنه بسبب الأرضية الفكرية السياسية الواحدة الجامعة لها مع السلطة ( خاصة التيار القومي التقليدي فيها ) تعاني من إشكالات غير قليلة على صعيد الرؤية والخطاب ، فخطابها المعلن في جريدة الموقف الديمقراطي أكثر تطوراً من وضعها ، ووضعها أضعف من طرحها ، و تعاني تكلسات على صعيد الفكر والسياسة ، و فصاماً بين خطابها الموجه نحو الإصلاح الداخلي وبين نظرتها و خطابها إزاء الخارج ، أي تجاه العالم وأمريكا و إسرائيل والقضية الفلسطينية و الفعاليات الراهنة في العراق ، إذ لا تزال المحركات الأيديولوجية هي الأساس في نظرتها وخطابها ، فضلاً عن البنى التنظيمية الضعيفة والمترهلة . أما على صعيد الأفراد والمثقفين فليس هناك من خط ناظم ، واضح المعالم لمجهوداتهم ، كتلك الخطوط التي سمعنا عنها في أوربة في عصر النهضة .
منظمات حقوق الإنسان ليست أفضل حالاً هي الأخرى ، إذ لم يحدث حتى الآن تمايز واضح وملحوظ على صعيد العقلية والممارسة عن الأحزاب السياسية ، وتعاني هي الأخرى من إشكالات في الفكر والممارسة و الخبرات الإدارية ، فضلاً عن تضييق السلطة ومحاصرتها . ولعلي لا أكون متجنياً لو وضعت بغض الملاحظات السريعة على تشكيل فرع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الأسابيع القليلة الأخيرة ، لأدلل على أن الإشكاليات ذاتها لا زالت تتكرر رغم مرور ثلاث سنوات على العمل المدني ،و لأدلل على مشروعية تناول الإشكالات المطروحة في محاضرتي. فالتشكيل تم بشكل سريع دون حوارات ومداولات تطرح فيها مجموعة من التوافقات ، وهذا يعني أن التنافرات والخلافات سوف تبدأ تدريجياً لتصل المنظمة لحالة من الشلل ، هذا أولاً ، وثانياً الجامع الوحيد بين المنضوين تحت لوائها هو سحر مقولة حقوق الإنسان ، وثالثاً جاء في إعلان المنظمة عن نفسها أنها ستعمل على إيجاد مرجعية عربية لحقوق الإنسان ، و أعتقد أنه ليس هناك سوى مرجعية واحدة هي المرجعية العالمية ، فلا يجوز استغلال العواطف القومية في هذا المجال . كذلك فإن المطلع على أوضاع منظمات حقوق الإنسان يجد أن المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة هي أقل المنظمات تعرضاً لانتهاكات حقوق الإنسان سواء في سوريا أو في المنطقة العربية بحكم حرصها على علاقة طيبة مع الأنظمة السياسية . كما أنه لا بد من فصل التوجه السياسي-الأيديولوجي القومي عن العمل في مجال حقوق الإنسان ، ورابعاً تم هذا التأسيس دون إعلام أو استشارة منظمتين سابقتين لحقوق الإنسان في سوريا ، وهو ما يوحي بوجود طبيعة تنافسية سلبية في العمل في مجال حقوق الإنسان ، خاصة عندما أشار بيان التأسيس إلى الإرباكات الحاصلة داخل لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا والتهلهل التنظيمي لجمعية حقوق الإنسان في سوريا . رغم هذه الملاحظات ، لا يملك المرء إلا أن يتمنى التوفيق للمنظمة الجديدة .
ما أريد قوله في هذا المجال : إن جميع هذه الأوضاع ، إن في السلطة ، أو في المعارضة ، أو على صعيد المثقفين ، أو على صعيد العمل المدني و جمعيات حقوق الإنسان ، لا تخلق أوضاعاً صحية لتقدم حقوق الإنسان في سوريا ، وهو ما يبرر طرح الإشكالات الفكرية والعملية تجاه العمل في مجال حقوق الإنسان على مائدة الحوار والنقاش .
ثالثا : الإشكالية الفكرية الأساسية : الحداثة و التقليد
من البديهي القول أنه ليس ثمة من " ممارسة " في الواقع ، إلا وثمة " رؤية " تقبع خلفها , تؤسس لها وتفسرها ، فالبؤس الفادح الذي تتكشف عنه معظم الممارسات الراهنة في المنطقة العربية - على جميع الصعد, السياسية والاقتصادية وغيرها, وعلى جميع المستويات ( حكومات وأحزاباً ومنظمات مدنية ) ـ ليس إلا مجرد تجل لبؤس أكثر فداحة في الرؤية والثقافة السائدة.
كذلك من البديهي القول أنه لا تنوير حقيقياً ، ولا تقدم ناجعاً بغير تأسيس معرفي جاد يغني الممارسة ويطورها ، مثلما يغتني ويتطور بها .
من هنا تأتي أهمية التأسيس لرؤية معرفية نابعة من حقائق العصر والواقع والحاجات والتحديات ، أملاً في إنتاج أشكال متقدمة وحضارية من العمل والممارسة . ولعل أهم القضايا التي تحتاج إلى تأسيس معرفي جاد تلك المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية في مجتمعنا ، على أنه لا يمكن النظر لهذه القضايا وكأنها دين جديد أو أيديولوجيا جديدة ، وإنما ينبغي النظر إليها بصفتها مشروعاً غير منجز ، وفي حالة تطور وتجديد مستمرين .
لكن لا بد هنا أن نذكر في البداية ما المقصود ثقافة حقوق الإنسان ؟
إنها تعني مجموعة القيم و البنى الذهنية والسلوكية والتقاليد والأعراف وغيرها،التي تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان، و تتوافق مع القيم الديمقراطية و احترام التعددية و التنوع و الاختلاف ، مع ما يرتبط بها من وسائل التنشئة التي تنقل هذه الثقافة في البيت والمدرسة والجامعات وبيوت الدين والأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة وغيرها.
بالتالي ، فإن نشر ثقافة حقوق الإنسان هو مشروع عام وعريض لتمكين البشر بالمعارف الأساسية حول المواثيق الدولية و حقوقهم ودفعهم للعمل من أجلها ، و المساهمة في خلق الوسائط و البيئات القادرة على حماية حقوق الإنسان و التقدم باتجاه الديمقراطية . إنها عملية متواصلة وشاملة تعم جميع صور الحياة، ويجب أن تنفذ إلى جميع أوجه الممارسات المهنية والاجتماعية والسياسية .
هذه المقدمة ضرورية للقول بأن كثيراً من التناقضات والإرتباكات الحاصلة في مجال العمل الحقوقي تعود بشكل أساسي إلى غياب خلفية التأطير النظري المؤسس لموضوع التفكير في مجال حقوق الإنسان ، بالتالي فإن عملا ًمركباً يجمع بين الممارسة و أطرها الفكرية المرجعية العامة (الفلسفية ، السياسية ، القانونية ) يكفل بيئة أفضل و انغراساً أعمق لقضايا حقوق الإنسان في واقعنا وفي ثقافتنا السياسية .
أدلل على ذلك بملاحظة أن كل استراتيجيات تعليم و دورات تدريب حقوق الإنسان لم تحقق المرجو منها، بحكم أنها لا تستند إلى تعميم رؤية و طرائق حديثة في التفكير . كما أن مظاهر القصور ونقص المردودية لدى منظمات حقوق الإنسان لا تعود فحسب إلى المعطيات السياسية و التاريخية الواقعية ، بل تعود في الأصل إلى غياب أو تغييب الأسئلة النظرية-الأساس ، أي الأسئلة التي تقف وراء المشروع ، أي إلى غياب مكون مركزي من مكونات العمل في مجال حقوق الإنسان . هذا المكون هو الفكر . ويخطئ جميع العاملين في مجال حقوق الإنسان عندما يفصلون حقوق الإنسان عن الفكر ، فالخوف من الإيديولوجيا لا يبرر إلقاء الفكر في المزبلة ، إذ سيكون لذلك ضريبة قاسية هي الوقوع في فخ تحويل حقوق الإنسان إلى مجرد شعار أو إلى مقولة سحرية دون أبعاد و أرضيات ، لتتحول إلى أصولية من نوع جديد لا يدرك مؤيدوها منها إلا لفظها .
لا بد من بناء أعمدة الارتكاز النظري التي تمنح مشروع حقوق الإنسان أرضيته الفكرية الصلبة ، القادرة على تحصين رؤيته الجديدة للعالم والمجتمع والإنسان ، و لتشكل حقوق الإنسان قلب المشروع النهضوي ، بعد أن تم فصلها عنه و تحولت على أيدي العاملين في حقوق الإنسان إلى مشروع حقوقي محض . إن وراء العمل في جبهة حقوق الإنسان رؤية جديدة للكون و الإنسان و المجتمع ، رؤية لا يمكن استيعاب روح هذه الحقوق دون الاستناد إليها .
يعني العمل في مجال حقوق الإنسان أولاً و قبل كل شيء المساهمة في عملية الاستيعاب التاريخي و النقدي لرؤية جديدة للإنسان والطبيعة والمجتمع والتاريخ ، وهي الرؤية المحايثة لمواد و بنود مواثيق حقوق الإنسان .
من هنا ، إن هناك ضرورة لربط العمل في ميدان حقوق الإنسان بالعمل الفكري الرامي إلى دعم المنظور الحداثي للإنسان و الطبيعة و التاريخ ، ومن دون هذا الربط و الوعي بالتلازم الفعلي الحاصل بين المبادئ ذات الصبغة القانونية في مجال حقوق الإنسان ومرجعيتها النظرية الحداثية والتاريخية سنظل نمارس عمليات الخلط الفكري و التشوه المعرفي و تركيب المفارقات على صعيد الممارسة . ما أريد قوله إن العمل في مجال حقوق الإنسان يمثل عودة إلى أسس المشروع النهضوي الذي اغتيل بأيد عديدة ، تارة بفعل الخارج وتارة بقمع الداخل و تارة أخرى وهو الأساس باسم الوعي الزائف والمضلل . يعني العمل في أسس مشروع النهضة المتوقف والمتراجع ( إنه إعادة التفكير بأسس وبديهيات وجودنا كبشر أولاً) وليس عملاً مهنياً محضاً يتنطع له مجموعة من المحامين يحولون حقوق الإنسان إلى بنود ومواد قانونية معزولة عن الأرضية الثقافية و الفلسفية التي أنتجتها .
هذه المسألة واضحة وبديهية في أوروبا ، بحكم المواكبة التي حصلت في التاريخ الأوربي الحديث و المعاصر بين تبلور مواثيق حقوق الإنسان والفكر الفلسفي الحديث ومنظوره الجديد للإنسان والطبيعة والعقل والتاريخ. فهناك وحدة عميقة كامنة وراء جميع المواثيق الأوربية و الأمريكية و العالمية . نشير مثلاً إلى مفاهيم الحرية ،الإنسان، الفرد،العدل ،القانون ، المساواة ، العقل ، الدولة ، تداول السلطة إرادة الشعب ، مصدر السلطة ، الضمان الاجتماعي، والتي لا يمكن قراءة بنود المواثيق دون الانتباه إلى طبيعتها وإلى علاقتها المركزية بالمشروع الليبرالي في صيغه المتعددة .
هذه المفاهيم حاضرة في الميراث النظري لمختلف الحضارات الإنسانية القديمة ، إلا أن الدلالات التي اتخذتها في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر والتي شكلت المواثيق الدولية ، تختلف عن دلالات ومعاني المفاهيم ذاتها في السياقات النصية القديمة . كما ترتكز المفاهيم الواردة في المواثيق الدولية إلى نسبية المعارف والحقيقة والقوانين والتعليم وفصل الدين عن الدولة ، وكلها قيم غائبة عن الثقافة العربية و الإسلامية التي تستند إلى طابع مغلق ومطلق ، و هو ما يتجلى بوضوح في الثقافة السياسية السائدة بتياراتها العديدة الماركسية و القومية و الإسلامية .
إن معركة تبيئة مبادئ وقيم حقوق الإنسان في الفكر العربي تحتاج فعلاً إلى معارك سياسية محددة في قضايا واقعية ،لكنها تحتاج أيضاً وبالحدة والقوة ذاتها إلى معركة الدفاع عن الحداثة في فكرنا المعاصر،فالتقليد وحقوق الإنسان لا يجتمعان، سواء أكان التقليد قومياً أم ماركسياً أم إسلامياً .
هذا يعني أن سؤال الحداثة سيظل مطروحاً على جدول أعمال المشتغلين بقضايا حقوق الإنسان،ويرتبط بهذا السؤال ضرورة القيام بجهود فكرية تنويرية تساهم في إعداد الأرضية الملائمة لانغراس أفضل لمبادئ حقوق الإنسان في فضائنا الفكري والسياسي 0
أما عمليات التغيير و التطوير و التحديث التي تمت في المنطقة العربية خلال نصف القرن الماضي فقد تمت في مستويات قشرية وسطحية بمعزل عن التعرض لأنساق الثقافة القديمة ، إذ تجاورت الأنساق القديمة مع الحديثة ، وأدى هذا الوضع إلى تفريغ كل المفاهيم الحداثية (الإنسان، الفرد، الوطنية، الديمقراطية، الساحة العمومية، الشعب ، القانون، العقل) من مضامينها الأصلية ، فتبقى الشكل وغاب الجوهر في خضم تلك العلاقة التجاورية الشاذة، فالشعب بقي هو القبيلة ، والحزب السياسي قبيلة مصغرة ، والفرد عبداً ، والقانون شريعة الدين أو السلطات000 إلخ ،وإلى جانب ذلك تمت الاستعانة بآخر ما وصلت إليه الحداثة على المستوى التقني (من الوسائل الإعلامية إلى أدوات التعذيب الحديثة)،وهكذا سخرت مرة أخرى إنتاجات الحداثة في تكريس ما هو مناف ومعادٍ للحداثة0
بناء على ما سبق لا أتصور إمكانية تحقيق تقدم ما في مجال تطور و تطوير الوعي بحقوق الإنسان في فكرنا دون إعادة إحياء مشروع الإصلاح الديني الذي انطلق في نهاية القرن التاسع عشر،خاصة مشروع محمد عبده ، هذا الإصلاح الذي كان يروم تكييف المجتمع الإسلامي مع مقتضيات و متطلبات الأزمنة الحديثة ، و الذي اتخذ صوراً ومظاهر أكثر قوة في مشروع نقد العقل العربي الإسلامي عند محمد عابد الجابري ومحمد أركون ،فلا يمكن تعزيز جهة العمل في مجال حقوق الإنسان دون دعم جهود هذا الفكر في مجال نقد العقل الإسلامي ونقد آلياته في التفكير، ودون إعادة بناء المشروع النهضوي ، بحيث تشكل حقوق الإنسان و الديمقراطية محتواه ، وليس اختزاله إلى بناء الأمة والوحدة إزاء خطر الخارج و حسب . أي لابد من تجديد نقد التيار القومي التقليدي بشقيه البعثي و الناصري 0
منظمات حقوق الإنسان معنية إذا بإعداد مداخل نظرية لمناقشة أسئلة حقوق الإنسان في الفكر العربي والممارسة السياسية العربية ، أي معنية ببناء وعي يزاوج بين الممارسة المناهضة للتسلط و القهر وغياب الحريات ،وبين الرؤية الفكرية الجديدة التي تشكل حاضنة قيم و مبادئ حقوق الإنسان0
لا يمكن أن تجتمع المناداة بحقوق الإنسان مثلا عند بعض العاملين في هذا المجال واستمرار هيمنة تصورات تقليدية محددة عن الإنسان و العقل و المجتمع، واستمرا ر هيمنة الأفكار المرتبطة بالرعية و الطاعة و الامتثال و التقاليد ودونية المرأة و اضطهاد الصغير و التعصب القومي و الحقيقة الواحدة التي لا مراء فيها .
رابعا : بعض عناصر الثقافـــة السياسيــة السائـــدة :
يمكن القول بوجود وحدة في الثقافة السياسية في سورية ، كسائر البلدان العربية الأخرى ، بين السلطة و المعارضة (خاصة في شقها القومي التقليدي)، وذلك على الرغم من وجود اختلافات بين الحيزين0 لكن العناصر الموجودة داخل هذه الوحدة ، أي العناصر المشتركة ، هي التي تصيغ وجدان و رؤى السلطة و المعارضة على حد سواء ، وبما يجعل التباينات بينهما محدودة أو قليلة الأهمية 0 لكن الغريب أن هذه العناصر المشتركة ذاتها هي التي تنتظم وعي الشارع الشعبي، وبما يعني وجود خط واحد ناظم للرؤى و الأفكار السياسية في السلطة و المعارضة و المجتمع0
و للأسف ،فإن كل عناصر هذا الخط الناظم للمستويات السابقة لا تنسجم مع ثقافة وقيم حقوق الإنسان و الديمقراطية 0
- خطاب وطنـي / قومـي ضـد خطر الخـارج :
يطرح الفكر القومي التقليدي (البعث ، الناصرية) دائماً وأبداً ، وعلى الدوام ، أهدافاً سياسية ساخنة ، على الرغم من أن الهزيمة تعشش منذ وقت بعيد ، ولازالت ، في العظام0
ينتظم هذا الفكر مسألتان، الأولى ضعف مستواه الحداثي، والثانية عقدة إهانة كبيرة بسبب الهزائم المتكررة ، يعبر عنها باهتزاز وتصدع كل أرجاء الشخصية و الوجدان0 تحت تأثير عقدة الإهانة يتم التمسك بجدول أعمال يدور أساسا ًحول الهوية القوميةً ،أو بالأحرى حول أجندة عمل قومية ،وهو سلوك سهل لا يتطلب الكثير من التفكير، يعتمد البحث عن العناصر القادرة على التعبئة و التحشيد و التجييش، ويكفي أن نقول "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" حتى تنتابنا مشاعر النصر و نصل إلى السماء ، ومن ثم لترمينا الحقائق الواقعية للهزيمة رمياً على الأرض ،و يا ليتنا نصحو ، بل نعيد الكرة من جديد0
هذه الأجندة القومية ، الدائمة الحضور ، رغم عمق الهزائم ، تؤدي إلى تشوه ثقافي عام في الثقافة السياسية ، إذ تصبح المهمة الأعلى و المقدسة هي الانتصار على الآخر أو الخصم ، وبالتالي إلقاء مهام إعادة البناء الداخلي ، وما يرتبط به من استحقاقات كحقوق الإنسان و الديمقراطية إلى الهامش0
استمرار هذا الوعي من الأسباب الأساسية لحالة الشلل على صعيد البناء الداخلي، وطالما استمر هذا التشوه الفكري سيظل ينظر لثقافة حقوق الإنسان و الديمقراطية باعتبارها وسيلة لاختراق مجتمعاتنا ،أو على الأقل تأجيلها لصالح التعبئة و التجييش الضروريين لمعركة النصر ضد إسرائيل و أمريكا و الغرب، في الوقت الذي لم تحدث حالة تعبئة و تجييش طوال نصف القرن الماضي ضد انتهاك ما لحقوق الإنسان في المنطقة العربية ، و المثال القريب نظام صدام حسين الذي نال بشكل مباشر أو غير مباشر كل التحشيد و التعبئة باسم أجندة العمل القومي الراهنة دائماً ،في الوقت الذي لم تحدث من قبل تيار "الأجندة القومية" حركة احتجاج ضد انتهاكاته الفظيعة لحقوق الإنسان . تأخذ " الهوية القومية " في هذا الوعي طابعاًَ وسواسياً تجاه الآخر ، وشكل تعيينات قطعية ، مغلقة و ثابتة0
هذا الفهم يعيق استقبال العناصر الإيجابية في الثقافات الأخرى بسبب سيطرة هواجس و وساوس الغزو الثقافي0
القضية المركزية و المهمة الحارة هي إعادة البناء الداخلي على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ليس إنكاراًَ لمشروعية العمل القومي وضرورة إزالة الظلم القومي الواقع على العرب ، لكننا ندرك هذه المهمة من منظور حقوق الإنسان و الديمقراطية على اعتبار أن إنجازها رهن بتحديث وإصلاح المجتمع والسياسة و الثقافة في الأقطار العربية ،أكثر مما هي مرهونة بالوسائل العسكرية و التعبوية و التحشيد و استغلال العواطف القومية0
يقــولـون: الهزائم تعلم الأمم ،إلا أن تيار الأجندة القومية لا يتعلم ، وهو مستعد لتكرار الهزائم إلى مالا نهاية طالما بقيت مرتكزا ته و مقولاته ثابتة لا يطالها أي تغيير ، فبعد أن ملأ هذا التيار الفضائيات العربية بتحليلاته و توقعاته ووعيه الزائف والمضلل بنهاية الأمريكان أو المغول الجدد على أسوار بغداد (أستذكر هنا عبد الباري عطوان ومصطفي بكري و غيرهم ، فمن كان يسمعهم يظن أن خيول العرب وصلت إلى بلاط واشنطن و نيويورك ) وبعد انكشاف الهزيمة والسقوط السهل لبغداد ، نام قرير العين على اعتبار أن خيانة كبرى قد حدثت ، ومن ثم تبرؤوا من صدام حسين ، مع أن هذا الأخير لم يكن إلا تجسيداً فاقعاً لحركة قومية تقليدية هشة وغير ديمقراطية وإنسانية ،ولم يكن وحدة مهزوماً بل التيار القومي التقليدي برمته .
هذا التيار اكتفى عندما أعلن عن تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في العراق بتوصيفه بالعمالة و الخيانة. وهذا توصيف سهل ،لكن يبقى من الواجب أن نتـأمل في الأسباب و الدوافع التي قادت آلاف الناس من اتجاهات سياسية عديدة للوقوف موضوعياً في صف العدوان، إذ لا يمكن أن نختزل الموضوع بهذا التوصيف، ويجب أن نلتقط بجدية الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الموقف الخاطئ والتي تكمن أساساً في أن الاستبداد الطويل قد مَّزق العراق وشوَّه تياراته السياسية0
أوضح ما يعبر عن هذا التيار هو رؤيته للصراع العربي الإسرائيلي والخطر الخارجي الذي تمثله إسرائيل على العرب ، خاصة عندما وضع هذا التيار "القضية الفلسطينية" ، ولازال ، كقضية مركزية للعرب ، وبالتالي تمحور وعيه ووعي الشارع الشعبي حولها. باعتقادي إن قضية العرب المركزية هي الديمقراطية و حقوق الإنسان ، وما عداها ، على أهميته ،سيجد مكانه اللائق عندما تعود للمواطن ثقته بذاته و بوطنه وبقضاياه القومية0
أما علاقة هذا التيار بمنظمات حقوق الإنسان ، فإنها علاقة يحكمها التوجس و الريبة ، وهناك حكومات عربية عديدة وحركات سياسية انتحلت خطاباً وطنياً في مواجهة حقوق الإنسان على مذبح النضال ضد المحتل و العدوان الخارجــي0 يحدث ذلك في الوقت الذي تفضح فيه الأحداث السياسية خطاب الأمن القومي العربي الذي استخدام لتبرير قمع الحريات العامة ، فعندما آن أوان الدفاع عن الوطن أو مناهضة العدوان الأمريكي على العراق لم تقم الأنظمة العربية بواجبها ، و تواطأ بعضها بصورة سافرة مع العدوان ، وقامت هذه الأنظمة جميعها بقمع التحركات الشعبية القليلة و المتواضعة للتضامن مع الشعب العراقي وإدانة العدوان الأمريكي . حتى المعارضات السياسية عندما تطالب بالديمقراطية و حقوق الإنسان ، فإنما تؤكد عليها من أجل مواجهة الخطر الخارجي وحسب، وليس لأن أهل البلد يستحقونها ويحتاجونها لإعادة احترام أنفسهم و الثقة بذواتهم و التعبير عن إنساينتهم.
لقد تناولت التيار القومي، بصفة الأوسع انتشاراً ، إلا أن ما يصدق على تيار الأجندة القومية ، يصدق أيضاً على التيار اليساري الذي وضع الاشتراكية كأجندة راهنة ، لتكون في مواجهة الديمقراطية وحقوق الإنسان على مدى نصف القرن الماضي من تاريخ المنطقة العربيـــة0
- مقاومــة المحتــل:
يشيع في الخطاب السياسي العربي ، بحكم الهزيمة المستمرة من جهة ، وبحكم الوعي الزائف من جهة ثانية فهم خاطئ لمسألة مقاومة المحتل ، ولا أريد الخوض في الأخطاء السياسية في هذا المجال، لكن أريد الإشارة بشكل سريع لذلك من زاوية الثقافة التي تنتج هذا الفهم للمقاومة و التي تزيد وعينا انتكاسا بحكم معاداتها الضمنية لحقوق الإنسان و الديمقراطية . إذ بغض النظر عن أمريكا وعن وجهة نظرها التي تستند لاعتبارات نعرفها جميعاً ، فإن " المقاومة" وما أفرزته في الوعي العربي عموماً و الوعي السياسي خصوصاً تلعب للأسف دوراً طارداً ونافياً لحقوق الإنسان بحكم عدم استنادها لمشروع سياسي ديمقراطي ، على الرغم من اعترافنا جميعا أن المقاومة حق مشروع 0
أصبحت مقاومة أمريكا وإسرائيل ، أي العدو الخارجي ، هي الناظم لكل تطلعاتنا و أفكارنا، أي تمحورت الهوية من جديد حول الخارج والخطر الخارجي ، بدلا من أن تكون مقاومة المحتل جزءا من برنامج عريض و واضح لتقدم أوطاننا ، و عندها فقط سوف تحضر جميع أشكال المقاومة الأخرى المدنية و السياسية و غيرها إلى جانب المقاومة المسلحة . لقد أنجزت حركات التحرير العربية الاستقلال في جميع البلدان العربية ، ولكن ماذا فعلت بمجتمعاتها بعد ذلك ؟ طبعاً ليس المقصود التقليل من تلك النضالات أو من المقاومة الفلسطينية أو ما يسمى العراقية (على الرغم من أنها لا زالت غامضة الملامح و التطلعات) ، لكن المقصود أن الوعي الزائف لابد أن ينتج الكوارث . فمقاومة بدون برنامج واضح للإنسان و لحقوقه و للعمل الديمقراطي غير مضمونة العواقب . لا المقاومة الفلسطينية تملك برنامجاً ديمقراطيا للداخل الفلسطيني ، و لا ما اصطلح على تسميته بالمقاومة العراقية في الإعلام العربي تملك برنامجاً ديمقراطيا للداخل العراقي . المطلوب برنامج للأرض (طرد المحتل) و للإنسان (حقوق الإنسان و الديمقراطية) معاً ، وليس تقزيم المشروع إلى أرض وحسب ، أو تحويل الصراع إلى صراع ديني 0
- عقــدة الخــوف من الغــرب:
ينظر العرب عموماً لدعاية الولايات المتحدة بخصوص حقوق الإنسان بقدر كبير من التوجس و الريبة،بل وبسبب تاريخ طويل من الكيل بمكيالين وازدواجية السلوك و القرارات و السياسات غالباً ما توصف منظومة حقوق الإنسان نفسها كأداة للهيمنة ، وكجزء لا يتجزأ من مساعي القوى الكبرى و على رأسها الولايات المتحدة للسيطرة على الشعوب الأخرى وفرض أنماطها الثقافية الخاصة بوسائل القوة عليها 0 ويضاعف من خطر هذه الظاهرة أنها تستثمر استثماراً ماهراً من جانب الحكومات والنظم السياسية العربية والقوى الشمولية العاملة بنشاط في الساحة السياسية و الثقافية العربية 0 ويستهدف هذا الاستثمار التلاعب بالعقول من أجل تكريس الخضوع لقيم سياسية شمولية ولنظم سياسية تسلطية وذلك بالقول أن هذه النظم وهذه القيم تشكل الحماية الملائمة للشعوب العربية ضد محاولات اختراق سيادتها0
وبالتالي فإن التلاعب الانتهازي من جانب الولايات المتحدة بقيم حقوق الإنسان يمثل تبريراً لنوع آخر من التلاعب من جانب القوى المحلية ، ونعني بذلك التلاعب المحلي بقيم السيادة وبالقيم الوطنية بهدف تمرير انتهاكات خطيرة للحقوق . إن الدعاية المكثفة للسلطات لا تكف عن إثارة النخوة الوطنية و العاطفة القومية ضد وبهدف تبرير كل من المصادرة المستمرة للديمقراطية وحقوق الإنسان0
وعلى نحو غير منطقي يتهم المدافعون عن حقوق الإنسان بأنهم عملاء للغرب وللولايات المتحدة وليس أدل على ذلك من اجتماع وزراء الداخلية العرب في اجتماعهم في يناير 1997 بتونس على اعتبار المنظمات العربية لحقوق الإنسان خطراً على الأمن القومي0 على حد تعبير دونالد رامسفيلد : "أمريكا ليست بحاجة لعملاء، إن وجود فرد في السلطة كصدام حسين يفيدنا أكثر من كل العملاء"0
لقد وظف هؤلاء جميعاً عقدة الخوف من الغرب توظيفاً انتهازياً وسيء النية حيناً ، وبسبب الجهل و تمحور الثقافة السياسية حول الفكرة القومية كشكل عدائي تجاه الآخر حينا آخر ، والمحصلة كانت الإبقاء على أوضاع حقوق الإنسان واستمرار الاستبداد . لم يدرك الجميع مدئ الفجوة التي تفصل بين المجتمعات الديمقراطية و مجتمعاتنا ، فبينما يستهدف الهجوم العدواني الأمريكي قطراً عربياً نجد أن المجتمعات الديمقراطية هي التي تحركت لمناهضته وليس مجتمعاتنا العربية. إن الفعاليات العالمية ضد الحرب على العراق و وقوف فرنسا و ألمانيا و روسيا ، حكومات وشعوباً ، ضد الحرب على العراق ونجاحها في حرمان الغزو من الشرعية الدولية يوضح بجلاء أن الصراع لا يدور بإطلاق بين العرب والغرب فالغرب ظهر كفضاء بالغ التنوع ليس من الناحية الثقافية وحسب بل ومن الناحية السياسية أيضاً ، وأن الصراع بين العرب و الولايات المتحدة هو صراع سياسي صرف ولا شأن له بصراع الحضارات و الثقافات . أما الاحتجاجات المدنية و حركات حقوق الإنسان في الغرب فقد أوضحت هزالة ما حاولت تيارات فكرية سياسية قوله من وجود دوافع ثقافية وراء الحملة الأمريكية المعادية للعالم العربي وثقافته ، وبالتالي لم يعد من الممكن الدفاع عن خطاب الهوية الأحادي الذي دفع مجتمعاتنا قسراً لرؤية متوجسة إزاء العالم ترفض التفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى ، ليكون المآل الانكماش على الذات القومية أو الدينة أو تغليظ الحدود بيننا وبين الآخرين أو إثارة الكراهية و الخوف من جميع الأنظمة الثقافية و المجتمعية الأخرى 0
- حقـوق الإنسان و الديمقراطية القادمتين من الخارج:
ينطبق على العدوان الأمريكي صفة الإجرام ( وهذا ليس نوعاً من المبالغة أو التحريض وإنما كمصطلح قانوني) فهذا العدوان يتسم بكل الخصائص التي جاءت في تعريف الأمم المتحدة بصفتها الجهة المخولة بالقيام بصيانة الأمن و السلم الدوليين ، حيث تم العدوان دون أية استفزازات من العراق ولم يتم التفويض به من أية جهة قانونية دولية وليس فيه أدنى شبهة للدفاع عن النفس المنصوص عليها في المادة /51/ من ميثاق الأمم المتحدة .
لقد قاد العدوان الأمريكي على العراق و الاستبداد المعشش في العراق إلى بلبلة فكرية عميقة، بسبب توظيف هذا العدوان لخطاب حقوق الإنسان و الديمقراطية لتبرير العدوان 0 وقد بالغ بعض العاملين في حقل السياسية و الفكر بآمال حدوث تحول ديمقراطي حقيقي في الأنظمة العربية يكون أحد الدوافع الرئيسة لها الضغط الأمريكي ، فهذه الديمقراطية المطروحة يمكن أن يطلق عليها "ديمقراطية الكفاف" التي يقتصر فيها الأمر على الأخذ ببعض المظاهر الشكلية للديمقراطيـة0 قد تكون المصالح الأمريكية الحالية في المنطقة منسجمة مع قيام أنظمة ديمقراطية من نوع ما، لكن ذلك سيكون على حساب " الوطنية" .
علينا ألا نكرر المأساة فنأخذ أحد طرفي التلازم ( الوطني- الديمقراطي) ونسوق فيه إلى النهاية ، لنكتشف أنه عندما يغيب واحد من المتلازمين فإن الطرف الآخر سيكون مشوهاً بالتأكيد . لقد جربنا أنظمة وطنية قضت على الحريات العامة و انتهت بأن قوضت المجتمع نفسه ، و لا نريد تجريب ديمقراطية دون سيادة ومصالح وطنية. آن الأوان لإعادة إدماج الفكرة الحقوقية الديمقراطية مع الحقيقة الوطنية و القومية .
خامسا : إشكالية العالمية والخصوصية
يكاد يكون خطاب " الخصوصية "في المنطقة العربية ومنها سوريا لسان حال جميع القوى الكابحة للتقدم ،إن كان لدى الحكومات أو لدى التيار الإسلامي أو لدى الفكر القومي التقليدي ، بما يوحي أن مجتمعاتنا العربية لا تنتمي إلى مجتمعات البشر ، وإنساننا ليس من أبناء الأرض ، بل من المريخ .
ينظر دعاة الخصوصية لحقوق الإنسان بوصفها نتاجاً لثقافة الغرب وتعبيراً عن هيمنته، وهي بالتالي نقيض لثقافتنا وهويتنا . هذا التفسير باعتقادنا لا تاريخي ينظر للثقافات كجزر معزولة و للهويات كحواجز ثابتة لا تتغير .
ويحمل خطاب الخصوصية ضمناً أو صراحة افتراض أن الثقافة ، أي ثقافة ، ساكنة وتحمل خصائص لا يطالها التغيير ، ولعل هذا المنطق هو بمعنىً ما أساس الانتقائية في التعامل مع مفاهيم حقوق الإنسان .
صحيح أن الثقافات تتمايز ، فهذه حقيقة مشاهدة لا جدال حولها ، ولكنها أيضاً تتلاقح وتتحاور ، فالثقافات أجسام حية تنمو وتتطور وتؤثر وتتأثر ، وفي مضمار هذا التلاقح تسقط بعض الترهلات من جسدها ، وتكتسب بعض السمات التي لم تكن فيها .
حقوق الإنسان عالمية لأن ركيزتها الأساسية هي الكرامة الإنسانية ، و لأنها تخاطب الناس كافة دون تمييز ، ولأن أساسها المشترك هو مبادئ الحرية والعدل التي لها طبيعة عالمية ، وهي ليست شيئاً مفروضاً أو مقرراً أو تعبيراً عن هيمنة عقائدية لمجموعة من الدول على بقية العالم ، و ليست نتاجاً خالصاً للثقافة الغربية ، بل نتاجا لتطور تاريخي طويل ، وتفاعل واحتكاك خصيب بين ثقافات وحضارات الأمم كافة ، على الرغم من أنها قد أخذت شكلها القانوني في الغرب .
أما قضية الخصوصية الثقافية أو الحضارية فهي في كثير من الأحيان قضية حق يراد به باطل ، إنها مفهوم صحيح في ذاته ، وذلك على اعتبار أن الاختلاف ينمي الإبداع ، لكن لا شك أن الحكومات وقطاعاً واسعاً من النخبة الثقافية والسياسية (تيار الفكر القومي التقليدي و تيار الإسلام السياسي) يرفعون شعار الخصوصية كشعار أو واجهة تخفي وراءها حقيقة الأوضاع المتردية لحقوق الإنسان فيها .
رغم تأكيدنا على عالمية حقوق الإنسان إلا أن ذلك لا يمنع البتة من وجود خصوصيات ثقافية وفكرية واجتماعية ، بما في ذلك المجتمعات الغربية ، فالعالمية ذاتها تقر بالتنوع والتعدد ، غير أن هذه الخصوصيات لا يمكن فهمها ايجابياً إلا بجانب " التطورية " التي تعيد تشكيل تلك الخصوصية . بالتالي فإن ما يسمى ب "الخصوصية السورية "لا يحول دون التطبيق الشامل لمبادئ حقوق الإنسان ، و إنما يجب أخذها بعين الاعتبار عند تحديد الأولويات ومداخل التطبيق وصياغة الخطاب الحقوقي المحلي المناسب ، ولو وقفت البشرية عند حدود الخصوصيات لما توصلت إلى مجموعة من القيم والمبادئ المشتركة بين جميع البشر ، والتي تجسدت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الشرعية الدولية . نقول هنا الخصوصية مستويات والخصوصية التي يجب الاحتفاء بها هي تلك التي تثري الفكر وتحفظ كرامة الإنسان .
في الوقت الذي تقبلت فيه معظم السلطات المسلمات الليبرالية الغربية المعاصرة ، لا سيما الخصخصة و اقتصاد السوق ، فإنها قد رفضت مسلماته السياسية و تبعاتها في مجال حقوق الإنسان و الحريات العامة ، و في الوقت الذي لم نتورع منذ اصطدمنا بالغرب في أواخر القرن التاسع عشر وحتى لحظتنا الراهنة عن استيراد كل شيء فإننا نتردد إزاء الديمقراطية وحقوق الإنسان .
انسجاماً مع خطاب الخصوصية لدى النظم السياسية وتيار الإسلام السياسي والفكر القومي التقليدي ، برزت رؤى تؤكد على ضرورة وجود مواثيق إقليمية وعربية وإسلامية لحقوق الإنسان تراعي هذه الخصوصية ، وقد عبرت هذه الرؤى عن نفسها في الميثاق العربي لحقوق الإنسان والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان .
يمكن للاتفاقيات الإقليمية ، على غرار الميثاق الأوربي لحقوق الإنسان والميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان ، أن تسهم في توفير ضمانات وآليات إقليمية لاحترام حقوق الإنسان . وهذا ما حدث فعلاً في أوربا و الولايات المتحدة ، لكن لم يحدث عند العرب وفي بلاد الإسلام . السبب واضح وهو أن الاتفاقيات الأوربية والأمريكية طرحت نفسها مكملاً للقوانين الدولية وليست بديلاً عنها أو نقيضاً لها ، وجميعها تعكس رؤية واحدة لحقوق الإنسان ، أي أن المنطق الداخلي الذي يحكم جميع هذه المواثيق واحد . في حين لم يحدث ذلك في إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام عام 1990 الذي اعتمدته منظمة المؤتمر الإسلامي ، فهذا الإعلان قيد جميع الحقوق والحريات فيه بأحكام الشريعة الإسلامية (م/24)وجعل من هذه الأخيرة المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواده (م/25)وهو بذلك يختلف اختلافا ًكلياً عن الصكوك الدولية و الأوربية و الأمريكية لحقوق الإنسان التي تقوم على أساس علمانية حقوق الإنسان .
السؤال المطروح في إطار الحديث عن الخصوصية هو : هل من سبيل للجمع بين حقوق الإنسان والإسلام ؟
لا بد هنا من تقرير حقيقة هامة من حيث المبدأ: إن أي حديث تجريدي عن الإسلام لا يكون مفيدا ًولا بد من ربطه بمدرسة أو مذهب أو شخص أو فرقة معينة ، أي لا بد من الحديث عن تفسير وفهم للنصوص التي تمثل مصادر الإسلام ، وهي نصوص القرآن والسنة ، لأن " القرآن لا ينطق وإنما ينطق عند الرجال" كما يقول الإمام علي بن أبي طالب .وأيضاً لأنه ليس هناك من نص مهما كان مقدساً له معنى ذاتي لازم و نهائي ، فالمعاني تستخلص بعمليات معقدة يقوم بها عقل ما ، محكوم سلفاً بعلاقات الزمان والمكان بكل ما يعتمل فيها من مصالح وعادات وتقاليد ومعارف سائدة .
ما تقدم يطرح على حركات حقوق الإنسان مهمة تشجيع حركة التنوير الديني التي تضع حقوق الإنسان والديمقراطية كمبدأ، ومن ثم تبحث في النص الديني عما يؤيد ذلك ، وهنا ليس المطلوب البحث في بعض مكنونات وكنوز التراث العربي الإسلامي ، بل عن الأفاق المستقبلية التي تصل بين هذا التراث و كل من الحاضر والمستقبل . إذ على الرغم من تلفيقية هذا الأمر إلا أنه مفيد من الناحية السياسية و العملية ، وفي السياق ذاته تصبح المساهمة في بلورة مشروع علماني جزءاً لا يتجزأ من المهام المطروحة على حركة حقوق الإنسان ، خاصة بعد أن ألحقت الأنظمة الدين بالسياسة و جعلته في خدمتها . هذا المشروع لا يعني إقصاء ما هو ديني عن المجتمع ، و إنما تحرير الدين من الإكراه السياسي وتحرير السياسة من الدين .
ترتبط هذه المهام بقضية المشروعية الثقافية التي ينبغي أن تسعى حركة حقوق الإنسان لكسبها ، فما لم يتم تجديد الثقافة العربية الإسلامية على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة و العلمانية ستبقى حقوق الإنسان نبتة غريبة تعصف بها اللحظات السياسية المتغيرة . وهذا كله يندرج تحت عالمية حقوق الإنسان مع احترام الخصوصيات المثرية وتحديدها في مداخل التطبيق و أولوياته ، و التأكيد أيضاً على أن العالمية سيرورة منفتحة على الدوام و ليست مسألة مغلقة وبصورة قطعية و قسرية ، وهي بالتالي لا تعني صياغة قوالب تلقينية جامدة لتعليم ونشر حقوق الإنسان .
سادسا : إشكالية حقوق الإنسان و الديمقراطية
ثمة إشكالية كبيرة حول دور و ومهام منظمات حقوق الإنسان، تتعلق بالعلاقة على الصعيد العملي و النظري بين الاعتبارات الحقوقية و الاعتبارات السياسية، أو العلاقة بين حقوق الإنسان و الديمقراطية 0
نلاحظ اليوم مدى التقاطع ، ولا نقول التطابق ، بين برنامج حركة حقوق الإنسان النامية في سوريا و برنامج التجمع الوطني الديمقراطي و ما تطرحه لجان المجتمع المدني مثلا ، وذلك على الرغم من الاستقلالية المحترمة رسمياً من الأطراف المختلفة . ولا يغير وجود بعض الشخصيات المشتركة من الأمر شيئاً، طالما هناك إدراك واع لاختلاف آليات العمل بين الحيزين الحزبي و المدني - الحقوقي . ونلاحظ من جانب آخر أن السلطة مازالت تتعامل بتخوف من حركة حقوق الإنسان النامية و لا تتورع عن التضييق عليها، وتنظر إليها باعتبارها تخفي وراءها إمكانية معارضة جديدة، وذلك رغم التأكيد المستمر لهذه الحركة على استقلاليتها وحياديتها في مرات عديدة 0
يمكن القول أن هناك تشابكاً واسعاً بين الاعتبارات السياسية و الاعتبارات الحقوقية من الناحية النظرية و العملية في بلدان المنطقة العربية ، بما يجعل الفصل بينهما مستحيلا . إذ لا يمكن أن نتصور وجود منظمة حقوق إنسان تغض النظر عن آليات الحكم السائدة وتغمض العين عن تجاوزات المؤسسات الأمنية وتتهاون في تشريح طبيعة العسف السياسي وتبقى في الوقت ذاته تطرح حماية الأفراد و الجماعات، أي يصعب وجود حركة لحقوق الإنسان تتناول القضايا الحقوقية بمعزل عن طرح وجهة نظرها و دورها في عملية إصلاح سياسي مطلوب. فالنضالات الحقوقية ستكون خاسرة إذا ما تم النظر إليها بمعزل عن تقدم العملية السياسية في المجتمع، وبكلمة أخرى فإن الإصلاح الحقوقي هو جزء جوهري وأساسي من الإصلاح السياسي للوضع في سوريا. وهذا الفهم هو ما يفسر علاقة القربى بين برنامج حركة حقوق الإنسان و برنامج المعارضة السورية وذلك بحكم حاجة الواقع وليس بحكم إلحاق الحركة الحقوقية أو تبعيتها للأحزاب السياسية .
من جانب آخر تبرز تلك الإشكالية في العلاقة المتبادلة بين حقوق الإنسان و الديمقراطية، ففي الوقت الذي تنبذ فيه حركة حقوق الإنسان أي محاولة للزج بها في صيغة سياسية ضيقة (أو بالأحرى حزبية) أو إضفاء طابع سياسي مباشر عليها، وتنبذ أي ادعاء بأنها بديل للأحزاب لسياسية، فإن تاريخنا السياسي يشير إلى أن ضعف الأحزاب السياسية يضاعف من سهولة انتهاك حقوق الإنسان و العصف بهذه الحقوق ،بل وبالمنظمات المدافعة عنها. وبالتالي لو جاز الحديث عن استراتيجية عامة على الصعيد العملي لحركة حقوق الإنسان في سوريا فإنها ترتكز قبل كل شيء على تشجيع العمل من أجل التحول إلى الديمقراطية و تأمين الظروف المواتية لتطبيق دستور ديمقراطي و هيكل قانوني ديمقراطي .
إن عملية الإصلاح السياسي وتقليص هيمنة التصورات الاستبدادية ،أي عملية الانتقال الديمقراطي، من المعارك الموصولة بمعركة حقوق الإنسان ، تماماً كما أن المعارك الثقافية في موضوع نقد الذهنيات التقليدية تندرج في الأفق ذاته .
إن مجمل آليات عمل حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية هي آليات «منفعلة»، بمعنى أنها تتحرك بعد وقوع الانتهاكات، أما آليات «الوقاية» فهي ما زالت بسيطة، كالتعليم والترويج والعمل الثقافي وغيرها، أي أنها تتخذ موقفاً دفاعياً . إذ تركز معظم حركات حقوق الإنسان في البلاد العربية على «الانتهاكات» الواقعة بحق الأفراد أكثر من العمل على جبهة تغيير أو تطوير الآليات الناظمة للدولة والمجتمع والمولِّدة لتلك الانتهاكات، وهو ما يمكن تسميته بالدور «الوقائي». وربما يكون أحد أسباب هذه الآلية الدفاعية، حساسيتها تجاه المسائل السياسية، ومبالغتها المفرطة في تأكيد نفسها كحركة غير حزبية، بمعنى أنها لا تعمل في المجال السياسي المباشر . وهذا بالطبع أمر ضروري شريطة ألا يؤدي بها خارج الحقل العام .
جوهر فكرتي في هذا المجال هو تأكيد وجود دور سياسي (بالمعنى العام للسياسة وليس بالمعنى الحزبي) وضرورة تفعيل هذا الدور، وباعتقادي الأرضية المناسبة لهذا الدور هي في التأكيد على مطلب الانتقال الديمقراطي، فحركة حقوق الإنسان / من الناحية النظرية على الأقل / هي الأكثر تأهيلاً لتقديم تصور حول «الديمقراطية» المتناسبة مع واقع مجتمعاتنا العربية وبالانسجام مع قيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية.
باعتقادي هناك جدول أعمال عريض أمام حركة حقوق الإنسان في البلاد العربية، يتضمن فيما يتضمن تقديم مشاريع مقترحة من وجهة نظر حقوق الإنسان للإصلاح الديمقراطي إلى السلطات والمعارضات معاً، وتقديم رؤية مقترحة عن عملية «الانتخابات» التشريعية والبلدية , مستندة في ذلك إلى مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية، كذلك تقديم مشاريع مقترحة لقوانين ديمقراطية وعصرية تتعلق بالصحافة والمطبوعات والعمل المدني والأهلي . كما يمكن لها أن تقدِّم رؤيتها للقوانين والأفكار الناظمة للأحزاب السياسية القائمة، الحاكمة منها والمعارضة، بما يدفع هذه الأحزاب لتجديد فكرها وآلياتها بما ينسجم مع حقوق الإنسان والعمل الديمقراطي واقتناعها بالقيم الإنسانية الديمقراطية، وقد يرتقي دورها، في حال نجحت في تثبيت مصداقيتها واستقلاليتها ومهنيتها العالية، إلى دور «رقابي» معترف به من الجميع في الحد من انتهاكات حقوق الإنسان .
هذه المشاريع والآليات المقترحة لا تشكل قفزة من الناحية النظرية في مطالب حركة حقوق الإنسان، لأنها تنسجم مع ما تطالب به هذه الحركة من ضرورة إصلاح قانوني وتشريعي لضمان الانسجام بين القوانين الوطنية المحلية والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لكنها ستحقق قفزة حقيقية في نشاط الحركة الحقوقية فيما لو وضعت هذه المهام على جدول أعمالها .
ثمة مبررات أخرى لقيام الحركة الحقوقية بهذه المشاريع " الاقتراحية "، منها أن الحركة الحقوقية ذاتها يصعب أن تزدهر إلا في بيئة سياسية ديمقراطية، إذ إن بناء سمعة معنوية عالية للحركة الحقوقية يقتضي وجود مجتمع مدني وسياسي فاعل، وهذا بدوره يستلزم وجود مشاريع ممكنة التطبيق على الصعيد التشريعي والسياسي . كذلك فإن حركة حقوق الإنسان ذاتها في بلدان عربية عديدة قد وقعت ضحية لممارسات غير ديمقراطية بهدف تقييدها أو إخضاعها أو تهميشها، وبالتالي فإن الضمان الأساسي لاستمرارية هذه الحركة هو في حدوث تحول ديمقراطي في البلد الذي تعمل ضمنه . وهذا التحول لا يلغي، كما يرى البعض، الحاجة للحركة الحقوقية التي يمكن أن تقوم وقتها بدور رقابي لضمان تطبيق الآليات الديمقراطية المعتمدة على نحو سليم، أما في ظل البيئة السائدة حالياً فإن ما يمكن للحركة أن تقوم به من إنجاز، قد لا يكون كبيراً .
سابعا : إشكالية حقوق الإنسان و السياسة :
من المهم لمنظمات حقوق الإنسان أن تمعن التفكير على الدوام في الإطار المفاهيمي الذي تستند إليه في عملها ونشاطها لكي يمكنها الاستجابة لعالم دائم التغيير، خاصة وأن المفاهيم النظرية المختلفة، لا بد وأن تؤدي إلى اختلاف وسائل وأساليب العمل وتصادمها، فضلاً عن أن فاعلية حركة حقوق الإنسان تعتمد أساساً على خطابها وقدرتها على توصيل المبادئ و القناعات بأسلوب مقنع للحكومات والحركة السياسية والمجتمع المدني والرأي العام في مجمله.
تعتبر قضية العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان» على الصعيد النظري، وما يرتبط بها على الصعيد العملي من محاولات لتسييس حركات حقوق الإنسان أو عزلها عن التدخل في الشأن السياسي، إحدى اكبر المشاكل التي تواجه هذه الحركات في المنطقة العربية، وتعود جذور هذه المشكلة إلى ظروف نشأة هذه الحركات التي اعتمدت أساسا على العاملين في الحقل السياسي العام (الأحزاب السياسية)، بسبب ضعف العمل المدني في المجتمعات العربية، كما تعود إلى الاختلاف البيِّن في طبيعة المجتمعات العربية عن المجتمعات الغربية .
هذه المشكلة تعود للظهور دائماً بحكم مستجدات الظرف السياسي في معظم الدول العربية، فالأحداث السياسية والمواقف المختلفة إزاءها تصعّد التوتر مابين السياسي – الحقوقي، ولا شك أن ذلك يكمن أساساً في الاختلاف على الصعيد النظري إزاء العلاقة ما بين «السياسة» و«حقوق الإنسان»، والذي أدى، أو قد يؤدي، في بعض اللحظات السياسية لآثار مدمرة على حركات حقوق الإنسان.
1- مشكلة «الثنائيات»، والعلاقة بين حقوق الإنسان والسياسة:
يُصرُّ العديد من دعاة حقوق الإنسان في المنطقة العربية على الفصل المطلق والحدي بين «حقوق الإنسان» و«السياسة»، وبالمقابل تتوجه أحزاب سياسية عديدة (سواء في السلطات أو المعارضة) نحو محاولات إلحاق الأحزاب السياسية بها، وفي اعتقادي أن الرؤيتين تعبران عن ضيق الأفق، وعن خلل في فهم تلك العلاقة على المستوى النظري.
من جديد تبرز مشكلة «الثنائيات» في فهم العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان»، إنها المشكلة ذاتها التي حكمت الفكر العربي الإسلامي بدءاً من عصر النهضة، والذي يزخر بالعديد منها، كثنائية الأصالة – المعاصرة، وثنائية العلم – الإيمان، والعقل – النقل، وغيرها.
لقد تحولت تلك الثنائيات إلى معيق حقيقي لتقدم فكرنا، بحكم الرؤى والتصورات التي يتم طرحها حولها، والتي تستند إلى المنهج ذاته على الرغم من اختلاف الرؤية والتوجه والهدف، فهذه الرؤى إما أن تتطرف في أحد طرفي العلاقة منكرة وجود الطرف الآخر، أو تتجه نحو «التوفيق» بأسلوب انتقائي يكتنفه الغموض ولا يمكن تحقيق استفادة عملية حقيقية منه.
الأمر نفسه يتكرر في فهم العلاقة بين «السياسة» و«حقوق الإنسان» بما يدلل على أننا ما زلنا ننظر للعالم والأشياء والبشر من خلال المنهج التقليدي ذاته، ولم نتملك بعد عقلاً جديداً، على الرغم من التباين الظاهري.
نكاد نبصر مثلاً، عبر ملامح العديد من دعاة حقوق الإنسان، نفورهم الشديد من «السياسة» لمجرد لفظ الكلمة، بما يوحي لنا بتواصل فاعلية وتأثير ثنائية ( المقدس – المدنس ) في العقول والخيارات، فالسياسة توازي المدنّس، وحقوق الإنسان توازي المقدس في هذه الثنائية . هذا يوضح لنا أن «العقل التقليدي» سواء كان ضمن حركة حقوق الإنسان أم في الأحزاب السياسية، فإنه سينتج الكوارث والمهازل ذاتها على صعيد الخطاب والممارسة العملية.
«السياسة» بما هي مجمل ما يتعلق تفكيراً وممارسة بالشأن العام، كالهواء الذي يحيط بنا ونتحرك داخله، فهي عامل ملتحم ووثيق الصلة بكل مظاهر وتجليات وأشكال الفعل الإنساني، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه.
«حقوق الإنسان» بما هي مقاومة لكل ظواهر الاستبداد في جميع المستويات والأماكن (الحقوق المدنية والسياسية) ومقاومة لكل أشكال الظلم الاجتماعية (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، هي شكل جديد من أشكال الممارسة السياسية . وبالتالي فإن تباين حركة حقوق الإنسان عن الأحزاب السياسية، ليس في كون هذه الأخيرة تمارس السياسة بينما تترفع حركة حقوق الإنسان على هذا «الدنس»، وإنما في تفاعلها بأشكال جديدة مع الشأن السياسي، فالهدف الجوهري لأية حركة حقوقية هو تقييد أداء «القوة السياسية» بكافة مستوياتها و مصادرها , بإلزامها بالاعتبارات والمعايير الإنسانية، وهذا النشاط هو فعل سياسي . لكن تختلف هذه الحركة عن الأحزاب السياسية في هذه النقطة، بأنها تضع نفسها خارج السلطة السياسية ولا تسعى إليها، بينما مبرر وجود «الحزب السياسي» هو امتلاكه لبرنامج سياسي، يسعى لتطبيقه من خلال ممارسة «السلطة السياسية» أو المشاركة فيها.
2- النشاط الحقوقي والعمل الحزبي:
الفكرة الجوهرية في هذا المجال تتمثل في أن النشاطين المدني (ومن ضمنه الحقوقي) والسياسي (الحزبي) مترابطان ويعتمدان على بعضهما بعضاً، على الرغم بالطبع من كونهما قابلين للفصل أو التمييز إلى مجالين مختلفين بدرجة معينة، أي أن ثمة ربطاً وفصلاً بين الحيزين المدني والسياسي، وبدون هذا الفهم لا أعتقد أن العلاقة بينهما يمكن أن تستقيم.
لكن لنأخذ أولاً الرؤية السائدة لدى غالبية نشطاء حقوق الإنسان إزاء العلاقة بين الحيزين:
لا شك أن النفور الشديد من «السياسة» داخل الحيز المدني (ومن ضمنه حركة حقوق الإنسان) ناجم عن خلط دائم بين السياسي والحزبي، بما يؤدي آلياً إلى إضفاء صبغة سلبية على كل ما هو سياسي بالمفهوم العام، نظراً لما يعاب على العمل الحزبي من ميكيافيلية وانهماك بـ «الحرتقات» الحزبية.
على الرغم من «الصحة» النسبية لعيوب العمل الحزبي، إلا أن ذلك لا يشكل مبرراً للتطرف وتصدير رؤى اختزالية تكثف «السياسة» في «الحزب السياسي» من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن طرح عيوب العمل الحزبي بطريقة توحي بتبرئة الذات (أي الحركة الحقوقية) من العيوب ذاتها، فالمشكلة الأساسية في «العقل» الذي يرى ويسمع ويتصرف، سواء وجد ضمن الأحزاب السياسية أم داخل حركة حقوق الإنسان .
من سمات هذا «العقل» المعيق: «الانغلاق» في مقابل «الانفتاح»، و«المرونة» مقابل «النظام الصارم والحدية والتطرف»، و«الفردية» في مقابل «العمل الجماعي والمؤسسات»، والتطرف في أحد اتجاهي أسلوب العمل، أي بين المركزية والديمقراطية، والتطرف في إعلاء شأن الجماعة لصالح إلغاء التمايزات الفردية.. إلخ .
في الحقيقة يمكن أن نعد الكثير من العيوب في العمل المؤسساتي للأحزاب والجمعيات المدنية وغيرها، إلا أنه من الجدير بنا تثبيت هذه العيوب بوصفها تلامس الجميع، وليس طرفاً دون آخر، فهي ابنة «العقل» التقليدي عموماً وليست بنتاً لشكل محدد من العمل المؤسساتي . بالتالي يصدق هنا التمييز بين عقول الأفراد (سواء كانوا ضمن الأحزاب أم الجمعيات المدنية) أكثر من التمييز بين رؤية ونواظم عمل المؤسسات . من جانب آخر فإن «الانتماء» ليس المحدد الوحيد في طبيعة العقل، فانتماء فرد ما لحزب أو جمعية مدنية ما، لا يعني اكتسابه نمطاً في التفكير منسجماً أو موازياًُ لما هو موجود في المؤسسة أو في شعاراتها، أي أن هذا «الانتماء» ليس مجالاً للتفاخر أو الذم، أو لاكتساب إيجابيات المؤسسة أو سلبياتها. فقد يكون المرء منتمياً لطائفة معينة، لكنه ليس طائفياً، وقد ينتمي لحركة حقوقية (لكن ذلك لا يعني البراءة سلفاً)، وقد ينتمي لحزب سياسي (وهذا لا يعني الدناسة سلفاً)، وقد ينتمي لقومية معينة (لكن لا يجوز رميه بالتعصب مباشرة). باختصار، إنها مشكلة «العقل» التقليدي وطبيعة «الثقافة السائدة» قبل أن تكون شيئاً آخر.
هذا التوضيح لا يمنع كون حركة حقوق الإنسان تسعى إلى «التباين» عن الأحزاب السياسية، بل هو فضلاً عن كونه حقاً لها، فإنه أحد واجباتها الأساسية، لكن من الضروري أن تبدع في التقاط وتفعيل تمايزاتها عن الأحزاب بشكل إيجابي ومثمر. أي أن «الأمراض الواحدة» المصابة بها جميع أحزابنا ومؤسساتنا وجمعياتنا الأهلية، لا يعني الركون إليها والتسليم بها، إذ من حق الجميع و واجبهم البحث عن تمايزاتهم ووسائلهم في التخلص من تلك الأمراض . لكن من المهم انطلاق الجميع من إدراك سليم للعلاقة الجدلية بين «المدني» و«السياسي – الحزبي»، وهو أمر يحتم إحداث تراكم في أي منهما من أجل تنمية التراكم في المجال الآخر، أي الانطلاق من ضرورة وجود كلا الحيزين على أرض الواقع، فحركة حقوق الإنسان (والنشاط المدني عموماً) لا يمكن أن تحل محل الفعاليات الحزبية، وفي الوقت ذاته يستحيل أن تحقق وثبات كبيرة إلى الأمام في أي من مجالات الحقوق إلا من خلال تنشيط هذه الفعاليات، وبالمقابل فإن الأحزاب السياسية لا تتفعّل وتغتني وتتطور إلا بوجود مجتمع مدني فاعل ونشط.
لنأخذ ثانياً: ما هو سائد من ممارسات سياسية وحزبية إزاء حركة حقوق الإنسان في المنطقة العربية : لقد جرت محاولات عديدة في المنطقة العربية لتسييس (أو بالأحرى لتحزيب) حركات حقوق الإنسان، وكانت محصلة هذه المحاولات في المآل الخير، تفجير هذه الحركات من داخلها، بسبب حتمية اصطدام مناهج عمل سياسية متباينة. وقد حدث في أكثر من بلد عربي تنافس بين التيارات السياسية على السيطرة على منظمة حقوقية ما، عن طريق حشد أنصارها بين عضوية المنظمة، وهو توجه يعبّر فيما يعبِّر عن ضيق الأفق وعدم إدراك أهمية دعم حركة حقوق الإنسان في المحافظة على الحيدة السياسية . ما يضر أيضاً بهذه الحركة هو اتجاهها بمحض إرادتها أو بسبب الضغوط عليها، نحو الانقسامية والحسابات السياسية التكتيكية والمؤقتة، كأن تتم تشكيلاتها (كما حدث في بعض المنظمات العربية) على أساس «المحاصصة»، أي بناء على نظام لاقتسام المقاعد في الهيئات القيادية بين الاتجاهات السياسية الحزبية المختلفة، لتكون المنظمة الحقوقية بالتالي في حالة من الحيطة الدائمة والتوجس المستمر والحسابات والتوازنات السياسية، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى اختلال نشاط المنظمة وإضعاف استقلاليتها، ففي بعض البلدان (كلبنان مثلاً) وصلت الأمور إلى حد الانقسامات على أسس طائفية، إلى جانب الانقسامات السياسية كمبرر لتعدد منظمات حقوق الإنسان، الأمر الذي نعتقد أنه سيشرذم الحركة الحقوقية في أي بلد ويلغي فاعليتها.
على الحركة الحقوقية أن تتنبه جيداً لهذا الأمر، لكن دون أن تتطرف في فهم «الاستقلالية»، أي لا بد لها أن تبدع في ابتكار آليات عمل وقائية تجاه عمليات التسييس/التحزيب الممكن حدوثها، لكن دون الإفراط في التوجس.
ثمة تأثير سلبي آخر لانتماء الأعضاء الحزبيين لمنظمات حقوقية، يتمثل في المستوى المنخفض نسبياً لالتزامهم بالعمل الحقوقي مقارنة بقوة التزامهم السياسي، وهنا نقول، على العموم، لن يكون مجدياً من أجل كسب «العزوة» من قبل المنظمات الحقوقية، الاكتفاء بأعضاء متعاطفين بوجه عام (سواء أكانوا من داخل الأحزاب أو خارجها) مع فكرة حقوق الإنسان مهما كانت ضبابية وغائمة في أذهانهم، وبالمقابل يصعب القول بضرورة أو حتى بإمكانية التحكم الصارم في العضوية، لذلك تبقى مهمة البحث عن آليات ونواظم عمل وقائية، تجاه الأزمات المحتملة، على جدول أعمال حركة حقوق الإنسان.
3- الخطاب الحقوقي والخطاب السياسي – الحزبي:
لكل من المجالين الحقوقي والحزبي، على العموم، خصائص مختلفة (لا تشكل بطبيعة الحال ميزات لأي منهما على الآخر)، وذلك على الرغم كما أسلفنا من الروابط العميقة بينهما.
هذه الخصائص المختلفة للحركة الحقوقية نتمنى أن تتجسد واقعياً بشكل إيجابي وخلاق . فالحقوقي مثلاً لا يفاضل بين الحقوق ولا يضحي بإحداها لحساب الأخرى، كما لا يضحي بحقوق فئة ما من البشر لصالح أخرى، بينما السياسي – الحزبي (كما هو سائد) قد يقوم أحياناً بدور لا يتسق مع المثل الحقوقية والديمقراطية، إما بسبب تكتيكات سياسية أو أحياناً لطبيعة الأيديولوجية المحمولة.
كذلك فالخطاب الحقوقي السوي يختلف عن الخطاب السياسي الحزبي، في أنه ليس دعوة خاصة لمصالح معينة أو سياسات محددة، أو اختيارات خاصة في مجال النظم الاقتصادية والاجتماعية، وإنما هو دعوة تنظم وتؤنسن حقل الممارسة السياسية والاجتماعية بغض النظر عن الخيارات، ويضع حدوداً صارمة (بناء على الحدود التي اتفقت عليها البشرية في الشرعة الدولية) على كيفية ممارسة الصراع الاجتماعي (بشقيه السياسي والاقتصادي)، كما أنه لا يدعو لمصلحة حزب أو طبقة ما دون أخرى، لكنه يُلزم نفسه بالخيارات والمصالح الوطنية العليا. ولهذا يصعب القول أو التصور بأن تصبح «حقوق الإنسان» و«المبادئ الديمقراطية» أيديولوجيا لطبقة أو حزب أو فئة ما، وإنما هي إطار عقلاني في آن معاً لكل الممارسات والنضالات والأيديولوجيات على اختلاف تلاوينها وتوجهاتها.
هنا يجب الإشارة إلى أنه من الضروري عدم تقويض خطاب حقوق الإنسان، عن طريق تبني خطاب يستند إلى «موقف سياسي» ما في لحظة ما. فالأساسي هو الاستناد إلى مبادئ وقيم حقوق الإنسان لدى ملامسة القضايا السياسية، دون الاندراج في موقف سياسي مباشر. كذلك من المهم عدم قيام «المسيَّسين» في حركة حقوق الإنسان بصبغ مبادئ وقيم حقوق الإنسان بأفكارهم وتراثهم الحزبي الخاص.
للتأكيد على الشمولية (بمعناها الإيجابي) الضرورية لخطاب حقوق الإنسان، يكفي أن نستذكر ما حدث في أزمة الخليج 1990-1991 والتباينات المدهشة في مواقف منظمات حقوق الإنسان، إذ كان من الأساسي التعامل مع هذه الأزمة من منظور شامل لحقوق الإنسان، بوصفها أزمة انتهاكات متعددة ومتداخلة، ليتم في الوقت ذاته، وبالوضوح ذاته، إدانة انتهاكات النظام العراقي لحق الشعب الكويتي ولحقوق الإنسان داخل العراق، وانتهاكات التحالف الغربي لحق الشعب العراقي (والتي لا تزال متواصلة إلى اليوم)، وانتهاكات الحكومات الخليجية لحقوق الفلسطينيين والعمال المصريين وغيرهم، والرفض الحازم لوضع حقوق الإنسان في مواجهة مع حقوق الشعوب، وهذا كله ممكن دون التورط في موقف مباشر تجاه الحكومات، أو الاندراج في خطاب يطالب الحكومات بأكثر مما يفترض بالخطاب الحقوقي أن يطالب به من رفع للانتهاكات ضد الأفراد والجماعات.
من خصائص الخطاب الحقوقي اتسامه بالاستقلالية التي يجب الحرص عليها من قبل حركة حقوق الإنسان والأحزاب السياسية معاً. لكن من الضروري ألا تتبنى حركة حقوق الإنسان فهماً سلبياً للاستقلالية، بحيث تغدو معها مساوية للانعزالية ، أو تهيمن عليها مشاعر التوجس الدائمة تجاه الأحزاب السياسية، لتغدو هذه المشاعر آلية عمل ثابتة، وعلى طول الخط، لحركة حقوق الإنسان.
«الاستقلالية» بمعناها الإيجابي تعني «الحيدة السياسية»، والتي لا تتوجس من وجود ما يمكن تسميته «تقاطعات» أو قواسم مشتركة، مع الحركة السياسية بعمومها سواء داخل السلطات أو المعارضات. وهذا أمر منطقي، إذ لا يمكن فهم الخصائص المختلفة أو الاختلافات دون وجود حد أدنى من «التوافقات»، فهناك قواسم مشتركة بين الإنسان والحجر والحيوان (وهناك بالطبع اختلافات)، فكيف لا يكون هناك توافقات أو قواسم مشتركة بين حيزات (سلطة ومعارضة ومجتمعاً مدنياً) تنتمي جميعها إلى الحقل العام والمساحة الوطنية ذاتها، وليس لطرف أو حيز من هذه الحيزات أن يحزن لوجود تلك القواسم المشتركة أو التوافقات. هذه القواسم أو التوافقات تزداد مساحتها أو تتناقص تبعاً للحظة السياسية التي يمر بها مجتمع من المجتمعات. ففي المجتمعات العربية، بحكم الظروف السياسية والاقتصادية السائدة، وبنتيجة «العراك» السياسي الطويل، تكوَّنت مجموعة من «التوافقات» بين الحيز السياسي المعارض والحيز الإصلاحي في الحكومات والحيز المدني، ويكفي أن نراجع «أولويات» برامج هذه الحيزات للتدليل على هذه الحقيقة، وبالتالي فإن هذه «التوافقات» يصنعها الواقع السياسي الاقتصادي، ولا تصنعها الرغبات.
من الضروري لجميع الأطراف (سلطة ومعارضة ومجتمعا مدنيا) التعامل مع هذه الحقيقة الواقعية بمرونة، وعدم استخدامها للتدليل على تبعية طرف إلى آخر. أما من ناحية التبلور التنظيمي لهذه التوافقات فإنه مرهون بالوقائع السياسية والمستجدات، وليس رهناً بالقرارات أو الرغبات.
ثامنا : إشكالية الأولويات المطروحة في مجال حقوق الإنسان
خلال فترة الحرب الباردة كان هناك جدل تقليدي حول مدى أسبقية حقوق الشعوب على حقوق الإنسان أو حول أسبقية حقوق الإنسان السياسية والمدنية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو العكس ؟
وهو الجدل الذي يعكس الصراع التقليدي بين دول العالم الثالث والمعسكر الاشتراكي من جهة و المعسكر الرأسمالي من جهة أخرى.
إن مبدأ تكامل حقوق الإنسان هو مبدأ أساسي في منظومة حقوق الإنسان، وهو بمنزلة المعادل المنطقي والقانوني لعالمية حقوق الإنسان، وهو ضرورة تحتمها وحدة الشخص المنتفع بهذه الحقوق ( الإنسان ) ووحدة موضوع هذه الحقوق ( الكرامة الإنسانية ).
ويجعل مبدأ التكامل من حقوق الإنسان منظومة قانونية متعاضدة و متآزرة فيما بينها ، بحيث أن إنكار أحد الحقوق المدنية و السياسية لا بد أن يهدر الحقوق في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، كما أن إنكار حق الشعوب في تقرير المصير و في السيادة الدائمة على مواردها سيحول دون التمتع بالحقوق المدنية والسياسية .
من جانب آخر حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة ، وثمة علاقة جدلية بينها ، فالحق في الحريات النقابية ينتمي إلى الحق في حرية الاجتماع المصنف ضمن الحقوق المدنية والسياسية ، وينتمي في الوقت ذاته إلى الحقوق العمالية المصنفة كحقوق اقتصادية و اجتماعية .
لذلك عندما تطرح قضية الأولويات في هذا الميدان لا تطرح بصيغة مفاضلة بين الحقوق المدنية والسياسية وبين الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية ، إنما يتعلق الأمر بالسبل الناجعة و المداخل الأساسية لضمان احترام جميع حقوق الإنسان ، خاصة في بلدان كبلدنا حيث تشابكت الأزمات وتعقدت ، ويحتل فيها القرار السياسي مركز الثقل المؤثر على بقية المجالات .
الحقوق المدنية والسياسية تخص الإنسان بوصفه مواطناً ، وهي من أجل ذلك مرتبطة أشد الارتباط بالمواطنة . فالمواطنة هي ركيزة حقوق الإنسان ، ومنت يفقد الحرية كأحد الحقوق يفقد الهوية الإنسانية و بالتالي مواطنيته ، وبالتالي فإن تأكيد المواطنة بالاعتراف بالحقوق المدنية والسياسية يعد خطوة أساسية لاستكمال باقي الحقوق .
يصدق الأمر نفسه عند بحث العلاقة بين حقوق الفرد و حقوق الجماعة ، إلا أنه من الجدير بالذكر الإشارة في هذا الميدان إلى مفارقة لدى الأنظمة الحاكمة تتمثل في تعاطيها الانتقائي مع منظومة حقوق الإنسان ، فهي تركز على الحقوق الجماعية بهدف التعبئة الشعبية وتتناسى حقوق الأفراد ، مع أن الحيزين غير منفصلين ، ومن جانب آخر فان الحقوق الجماعية التي تقوم أساساً على حق الشعوب في تقرير مصيرها ، تشير إلى أن ذلك لا يقتصر على حق كل شعب في التحرر من الهيمنة الأجنبية بل يشمل حقه في تحديد طبيعة نظامه السياسي ، وحقه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
من جانب آخر يمكن إعمال مبدأ تكامل الحقوق في مجال العلاقة بين الفرد وحقوق الجماعة ، فالحقوق التي جرى توصيفها بالجماعية هي في جوهرها حقوق فردية لكن ممارستها مشروطة بوجود مجموعة من الأشخاص مثل الحق في الحريات النقابية و الحق في حرية الاجتماع .
تاسعا : إشكالية العولمة وحقوق الإنسان
إن تأثير العولمة على حقوق الإنسان يتسم بالتعقيد والخلط والتناقض ، ولا يعد ذلك غريباً ، ذلك أن العولمة نفسها عملية معقدة ومتناقضة . لكن لا شك أن آثاراً عميقة المدى ستترتب على هذه الظاهرة ، سلباً وإيجاباً ، فالأفق يحمل معه ملامح عولمة قاسية تقودها دولة لا تعترف إلا بمفرداتها الخاصة ، ولا تعبأ بالآخر و بكرامته و إنسانيته ، وتحمل معها تفاقم ظاهرة البطالة في دول الجنوب و الشمال على حد سواء ، وتدويلاً لبعض الأمراض وتجارة المخدرات ، أما ثورة الإعلام و وسائل الاتصال فسيترتب عليها نتائج في الفكر والعلاقات البشرية ، وسيكون لتطور تقنيات علم الحياة و البحوث الجارية للسيطرة على تركيب الجينات البشرية ، آثار واسعة المدى على منظومة حقوق الإنسان.
لكن السؤال الأكبر الذي تطرحه العولمة يتعلق بدور الدولة في حماية حقوق الإنسان ، أي هل سيبقى الإطار الأساسي لتطبيق حقوق الإنسان داخل سيادة الدولة و خاضعاً لها دون الإطار الدولي ؟ .
ولا يزال الجدل محتدماً بين مفهوم احترام السيادة ، و بين تكوين آلية دولية فعالة لحماية حقوق الإنسان . إذا لم يكن بد لحقوق الإنسان من أن تحمى من الدولة ، وإذا كان مقبولاً وضع بعض القيود على الدولة لهذه الغاية ، فليس المقصود هو إضعاف الدولة ، فهذا أخطر ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى حقوق الإنسان ، خاصة في ظل التحديات الخطيرة التي تطرحها العولمة . وخوفاً من استخدام قضية حقوق الإنسان كمبرر للتدخل من قبل الدول الكبرى في الشؤون الداخلية للدول الصغرى ، نادت المنظمات غير الحكومية بتحديد معايير دولية لاستخدام آليات الحماية الدولية في تحقيق أهداف تخص قضية حقوق الإنسان ،إلا أنه لم يتم إلى الآن التوصل إلى توافقات واضحة بهذا الشأن.
عاشرا : الإشكالات الذاتية
لا ندري إذا كان من الجائز الحديث عن وجود حركة حقوق إنسان في سوريا ، رغم أنه أصبح لدينا اليوم ثلاث منظمات تعمل في هذا الإطار . لكن من البديهي القول أن وجود منظمات لحقوق الإنسان لا يعني بالضرورة وجود حركة حقيقية لحقوق الإنسان . فكل منظمة من هذه المنظمات تعاني ، فضلاً عن الظروف المعقدة المحيطة بها ، إشكالات ذاتية معيقة لتقدمها بدءاً من لحظة التأسيس ، ومروراً بعدم وجود آليات عمل واضحة متميزة ومهارات إدارية حقيقية و بناء مؤسسي حقيقي وانتهاء بالبرامج والأهداف والرؤى و التصورات الموجودة حول العمل في مجال حقوق الإنسان .
كان يمكن لهذه المنظمات أن تتطور لو تسنى لها الحصول على المشروعية القانونية ، فهي مهددة بشكل دائم في وجودها ذاته ، ويجري التضييق على كوادرها في مناسبات عديدة .
وارتباطاً بالمشروعية القانونية هناك مسألة إغلاق الباب أمام التمويل المحلي ، الأمر الذي يشل حركتها وفاعليتها ، خاصة في ظل رفضها المبدئي للتمويل الخارجي من الهيئات الدولية غير الحكومية المعنية بقضايا حقوق الإنسان .
من الإشكالات الحاضرة بقوة داخل هذه المنظمات هي إشكالية الوعي السائد فيما يخص قضايا حقوق الإنسان ، إذ يجري التعامل مع مبادئ حقوق الإنسان بشكل قانوني محض ، دون موضعتها في السياق الثقافي والسياسي . وقد أشرت لذلك خلال محاضرتي . ومنها محدودية عملها في أوساط واسعة ، إذ تقتصر على الطيف السياسي المعارض ، ومنها الإستراتيجيات الموجودة التي تقتصر على رصد الانتهاكات في المجال السياسي وحسب دون العمل على جبهة الآليات الوقائية . ونقص الكوادر الثقافية التي يمكن أن تلعب دوراً في مجال توسيع أفق العمل في مجال حقوق الإنسان ، إذ ليست المهمة الأساسية تجنيد الأنصار والأعضاء ، بل خلق الوسائط والبيئات الاجتماعية القادرة على حمل الرسالة اليومية لحقوق الإنسان ، وهي مهمة أكثر شمولاً من البيانات و نداءات الاستغاثة على أهميتها . لذلك على الحركة أن تولي عناية فائقة للتضاريس الثقافية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الذي تعمل فيه ، وخلق كوادر ملمة بالبيئة المحلية والدولية ومدركة لخصوصية بلادها وقادرة على استخلاص الأولويات و السياسات الملائمة دون الانتقاص من مبدأ عالمية حقوق الإنسان .
من العناصر الأساسية على الصعيد العملي في نجاح منظمات حقوق الإنسان الالتزام بالمهنية ، بمعنى العمل في مجال حقوق الإنسان كمهنة " المهنية " ضرورية من أجل تشكيل إمكانية الحكم على نشاط حركة حقوق الإنسان على أسس موضوعية ، والتطوعية الكفاحية ضرورية أيضاً من أجل الحيلولة دون تشكيل منظمات بليدة . لكن المهنية ما زالت غائبة عن منظمات حقوق الإنسان في سوريا لأسباب عديدة .
العناصر الضرورية الأخرى هي : الحياد ، والصدق ، وعدم الانخراط أو التعاطف مع تيار سياسي أو أيديولوجي ، وضرورة إبقاء حوار مفتوح مع الحكومة ، فبدونه لا يمكن لها القيام بعملها ، لكن شريطة عدم الوقوع ضحية لمحاولات التدجين أو الاحتواء ،و إعادة تأهيل كوادرها بما ينسجم مع ثقافة حقوق الإنسان ، إذ من البديهي القول أن الذين لم يعيدوا قراءة تجاربهم الحزبية قراءةً نقدية و انتقلوا للعمل في مجال حقوق الإنسان تحت رد الفعل تارة أو طلب الشهرة تارة أخرى غير قادرين على بناء منظمة حقوق إنسان .
جانب آخر غائب هو التنسيق بين المنظمات الموجودة ، فالتنسيق على المستوى الوطني هو اللبنة الأولى للتنسيق على المستوى العربي و العالمي . لم يحدث تنسيق مثلاً عند تأسيس جمعية حقوق الإنسان ، و لم يحدث تنسيق عند تأسيس ما يسمى فرع المنظمة العربية لحقوق الإنسان ، ولم تحدث مبادرات إيجابية ملموسة للمنظمات تجاه بعضها البعض . وهذا يهدد قسطاً هاماً من جهودها ويخدش نبل رسالتها ، إلا إذا كان الهدف هو السعي لتأسيس مجموعة دكاكين يتنافس أصحابها على الزبائن .
رغم هذه الظواهر وغيرها ، لا يجوز التقليل من قيمة الجهود الفعلية التي بذلت ، خاصة من لجان الدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية حقوق الإنسان في سوريا في مجال إنعاش الفعل المناهض لانتهاكات حقوق الإنسان . إلا أن هذه المنظمات بحاجة لأن تراكم اليوم تدريجياً في اتجاه المرور إلى مرحلة أكثر فاعلية ونوعية .
* كلمة أخيرة :
تلك كانت أبرز الإشكاليات المطروحة على حركة حقوق الإنسان في المنطقة ، ومنها سوريا ، وهي إن كانت لا تطرح نفسها بذات الحدة في جميع البلدان العربية ، إلا أنه من الواجب فتح حوار حولها بقصد تقريب الرؤى والتخلص من الخلافات المعيقة وغير المثمرة لتقدم حركة حقوق الإنسان في بلدنا .
إلا أن هذا الحوار رهن بمدى توافر الحريات و درجة القناعة التي يمكن أن تبلغها الدولة بضرورة وجود مجتمع حي وفاعل وقادر ، ومدى الضمانات القانونية التي يمكن أن تقدمها له لممارسة حقه في الحوار والفعل والمشاركة .
لا يفيد سوريا اليوم ولا ينهض بها أسلوب الاعتقال ، أو توزيع الاتهامات بالعمالة جزافاً ، أو نزع الصفة الوطنية عن بعضنا بعضاً ، فالاعتقال لا ينهي الاحتقان ولا يهذب ولا يطور حوارنا ونظرة كل منا للآخر . هذا الحوار يغدو اليوم جزءاً أساسياً من دفع الوطن إلى الأمام على طريق تقدم أوضاع حقوق الإنسان في بلدنا و آليات العمل الديمقراطي ، فضلاً عن الحاجة النفسية العميقة له ، فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى استعادة الثقة بالذات … وبإنساننا .. وببعضنا .
- انتهى -