(2)
لا شك أن الديمقراطية الحديثة هي الديمقراطية التي ولدت في أوربا نتيجة الانقلاب التاريخي الذي حصل في المجتمع بقيادة البرجوازية، لذلك من الشائع أن يطلق عليها اسم الديمقراطية البرجوازية. هذه الديمقراطية لم تولد مكتملةً وناجزةً بل تصيّرت عبر تاريخ طويل نسبيا من التطور واكب تطور الرأسمالية ذاتها وهي لا تزال بعيدة جدا عن الصورة المثالية التي رسمها لها فلاسفة أوربا، وأكثر بعدا عما يتوقعه منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948.
ومع أن الديمقراطية كنمط حياة وكنظام في السياسة قد شكلت قطيعة بالمعنى التاريخي مع النظام الإقطاعي الذي كان سائدا في أوربا قبل صعود الرأسمالية، إلا أن بعض الجذور الأولى لها كانت ضاربة في عمق الحياة الإقطاعية ذاتها.من المعروف أن الإقطاع الأوربي كان يتمتع باستقلالية كبيرة تجاه السلطة المركزية وكان كل إقطاعي مستقلا تجاه غيره من زملائه،وعلى قاعدة هذه الاستقلالية والندية كانت تقوم الروابط والعلاقات بين الإقطاعيين بعضهم تجاه بعض ،وبينهم وبين الدولة .الإقطاعي الأوربي كان يتحدد بدلالتين مختلفتين: من جهة كان يتحدد بدلالة زملائه من الإقطاعيين،فهو بهذه الدلالة إقطاعي بقدر اعترافه بوجود زملائه وتكامله معهم.بكلام آخر إن العلاقات التي كانت قائمة بين طبقة النبلاء الإقطاعيين كانت من طبيعة تكاملية وجود كل منهم فيها يشترطه وجود الأخر الإقطاعي،وان وجودهم جميعا كطبقة كان يشترطه وجود الدولة الإقطاعية بالشكل الذي يحافظ على حدود كل منهما .
ومن جهة أخرى كانت طبقة الإقطاع تتحدد بدلالة الفلاحين الأقنان وغيرهم ممن ينتمون إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى. هنا كانت العلاقة ذات طابع تفارقي، بمعنى أنها كانت ذات اتجاه واحد من الإقطاعي إلى الفلاح،جوهرها التمايز والاختلاف والصراع بين وضعيتين اجتماعيتين متميزتين، ومن خلال هذه العلاقة الصراعية كانت كل منهما تتحدد بدلالة الأخرى، أي أن وجود طبقة النبلاء بالشكل الذي كانت عليه كان شرطا لوجود طبقة الفلاحين بالوضعية التي كانوا عليها والعكس بالعكس.
في الحالة الأولى كان الحوار والتعاون والندية هي التي ترسم ملامح حياة الطبقة الإقطاعية.هنا العلاقات التفاعلية كانت تجري في إطار دائري وعلى أساس المساواة.أما في الحالة الثانية فكانت التبعية والتسلطية والأوامرية هي التي ترسم ملامح العلاقات بين الإقطاعيين والفلاحين على أساس من التمايز والصراع. من هنا فإن مقولة أن الديمقراطية كانت سلاح الفقراء والضعفاء المتطلعين إلى عالم أفضل تسود فيه المساواة وتتحقق فيه الحقوق الاجتماعية والسياسية لها ما يبررها (1) .
وبالفعل فإن الدعوة إلى الحرية والمساواة كانت في جوهر الخطاب الديمقراطي كما قدمه فلاسفة أوربا الديمقراطيين. فحسب جون لوك الحرية والمساواة من السمات الطبيعية للإنسان لا يجوز انتزاعها منه وإلا فقد طبيعته. يقول جون لوك"لما كان الناس جميعا أحرارا ومتساوين بالطبيعة فلا يمكن انتزاع شخص من حالته هذه وإخضاعه للسلطة السياسية لشخص آخر إلا برضاه "(2). وأن" لا بقاء للحرية بدون المساواة " حسب جان جاك روسو (3). لكن المساواة التي نادى بها كل من لوك وروسو لا تتعدى المساواة أمام القانون والمساواة في الإرادة على المساواة ذاتها.فحسب روسو" لكل فعل حر سببان يجتمعان لإنتاجه أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل، والآخر مادي وهو المقدرة على التنفيذ" (4). وكان يردد دائما " إذا أردت أن تضفي على الدولة استقراراً قرِّب بين الحدود القصوى بقدر الامكان، فلا يبقى فيها غنى فاحش ولا فقر مدقع…" ،فالغنى والفقر وضعان يضران بالخير العام وببناء الدولة واستقرار المجتمع وفي كليهما تكمن بذور الاستبداد والطغيان،فإحداهما"يؤدي إلى وجود أعوان الطغاة والآخر إلى الطغاة، وفيما بينهما تشترى الحرية وتباع " (5).
بين لوك وروسو كانت تنوس قضية الديمقراطية في الحياة العملية تارة تقترب من لوك فتأخذ طابعا نخبويا، وتارة أخرى تبتعد عنه وتقترب من روسو فتأخذ طابعا إنسانيا عاماً. فحسب لوك الذي يعتبر فيلسوف الديمقراطية البرجوازية فإن الديمقراطية لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية نخبوية لذلك وبتأثير من مونتسكيو النخبوي صيغت المادة الثانية من دستور عام 1791 الفرنسي لتأكيد ذلك. تنص المادة الثانية من الدستور المذكور على "أن الأمة التي تنبع
منها كل السلطات لا يمكن أن تمارس إلا بواسطة مفوضين ". ونتيجة لذلك فقد حصر حق الانتخاب بمن يملك ما يؤمن له 150 يوم /عمل في المدينة أو 400 يوم /عمل في الريف، علما أن الحد الأقصى لأجر اليوم الواحد كان فرنك فرنسي واحد(6).لكن في عام 1793 وضع دستور جديد على هدى فلسفة روسو أقر بأن " إنسانية الإنسان غير قابلة للمساس بها فلا يعترف القانون بأن يعمل إنسان في خدمة إنسان آخر"، وبناء على ذلك أعطى الحق لكل مواطن فرنسي يبلغ 21 عاما ولكل أجنبي يقيم في فرنسا منذ أكثر من عام بأن يشارك في الانتخابات بشرط واحد هو أن يعيش من عمله(7).
وبين الميل إلى تجريد فكرة الديمقراطية ومنطق الواقع وضروراته لا تزال الحياة تجري يعيد إنتاجها الفاعلون الاجتماعيون باستمرار وبشكل مختلف. فكيف كانت هذه الحياة التي استدعت الديمقراطية لتشكل نمطها الخاص وشكل بنائها السياسي مع كل أفراد عائلتها من المفاهيم الأخرى .
من المعروف أن عمليات الانتقال من التشكيلة الإقطاعية إلى التشكيلة الرأسمالية في أوربا كما هو متفق عليه على نطاق واسع قد بدأ فعليا في نهاية القرن الخامس عشر بداية القرن السادس عشر لتكتمل بشكل حاسم في القرن التاسع عشر. خلال هذه الفترة الطويلة نسبيا جرت تحولات جوهرية في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية أدت إلى ولادة إنسان ثقافي جديد.
من ناحية الأساس الاقتصادي للمجتمع جرى التحول من الريف إلى المدينة، من الزراعة إلى الصناعة والتجارة، وأعيد بناء المجتمع وهيكلته ليتلاءم مع ذلك.لقد أزيلت طبقة النبلاء الإقطاعية لتحل محلها في قيادة المجتمع الطبقة البرجوازية، وتراجع دور الفلاح في الصراع الاجتماعي ليبرز دور العامل الحر، وتغيرت بالنتيجة طبيعة العلاقات التي تربط العامل برب العمل من كونها علاقات تابعة يتم فيها استحواذ القسم الأكبر من القيمة المنتجة بالوسائل السياسية إلى علاقات تقوم على أساس التعاقد الحر،يتم فيها استحواذ فائض القيمة المنتجة بالوسائل الاقتصادية .
في المجال الاجتماعي أعيد بناء المجتمع على أساس انصهاري، لتختفي منه البنى العشائرية والقبلية والطائفية، وليبرز فيه دور الطبقات والفئات الاجتماعية المنظمة في تنظيمات مدنية مختلفة. .
وفي المجال السياسي تم الانتقال من الدولة الأوتوقراطية إلى الدولة المدنية وأعيدت هيكلتها بحيث تم الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ،وأصبح القانون هو الناظم لحياة الناس،بدلا من الولاءات ذات الطابع الشخصاني.
إن جميع هذه التغيرات التي طرأت على الرأسمالية ما كان بالإمكان قراءتها باللغة المفهومية السابقة، لذلك كان لا بد من ولادة لغة مفهومية جديدة مناسبة .وهكذا جرى الانتقال من الأيدولوجيا الميتافيزيقية التي تحيل كل شيء إلى الماورائيات إلى اللغة الوضعية التي تنمو وتتطور بين الناس. بهذا الشكل تشكل ما نسميه بالبيئة المفهومية للديمقراطية التي سوف نحاول التوقف عند بعض مفرداتها.
المراجع
1 C .P . Macpherson, The real world of Democracy (New York , Oxford University Press ,1972) - p p 1-11 .
انظر أيضا علي الدين هلال " مناهج الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث " في " أزمة الديمقراطية في الوطن العربي"، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربي، (بيروت ،المركز ،1987) ص 36 .
2-لوك ، جون ، الفصل الثامن من الرسالة الثانية، فقرة 95 من كتابه رسالتان في الحكم.
3- روسو ،الفصل الحادي عشر- الكتاب الثاني من العقد الاجتماعي.
4- روسو ، الفصل الأول –الكتاب الثاني من العقد الاجتماعي.
5- روسو، الفصل الثالث عشر- الكتاب الثالث من العقد الاجتماعي.
6-سيف الدولة، عصمت ،معقب، "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي"، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت ،المركز،1987) ص58
7-المرجع السابق ص59.