|
ثقافة -الموبايل- و-الفيديو كليب-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2390 - 2008 / 8 / 31 - 06:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"وقت الفراغ"، لجهة حجمه، هو معيار من معايير "الحضارة"، فكلَّما اتَّسَع "وقت الفراغ" لدى الشخص أظهر المجتمع وأكَّد مزيداً من ارتقائه سُلَّم الحضارة. إنَّ الإنسان الذي يُكْرَه على إنفاق جُلَّ وقته وجهده (اليوميين) في سبيل تلبية حاجاته الأوَّلية والأساسية، وفي مقدَّمها حاجته إلى المأكل، لن يبقى لـ "الحضارة" من حُصَّة في حياته اليومية، فالبشر، ومن تحصيل الحاصل، لن ينصرفوا إلى القراءة، والثقافة، والأدب، والفن، والعلم، والفلسفة، وإلى سائر أوجه الحياة الفكرية والروحية، إذا ما ظلَّ تحصيل لقمة العيش يستبدُّ بتفكيرهم، ويستنفد اليومي من وقتهم وجهدهم.
على أنَّ "وقت الفراغ"، لجهة اتِّساعه وتوسيعه في استمرار، لن يكون من "الحضارة" في شيء إذا لم نَرَ من أثرٍ لـ "الحضارة" في محتوى ووسائل وطرائق ملئه، فـ "وقت الفراغ"، في حدِّ ذاته، ليس بالمعيار الحضاري؛ ومَنْ أراد دليلاً على ذلك فَلْيَنْظُر في الحياة اليومية لـ "المُتْرفين"، أي المتنعِّمين المتوشِّعين في ملاذِّ الدنيا وشهواتها، والذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش.
نحن الآن، وعلى ما نقاسيه من شظف العيش، ومن غلاء أسعار بضائع "لقمة العيش"، ومن طول "يوم العمل" وقساوته، وضآلة وتضاؤل القيمة الحقيقية للأجور والرواتب، ننعم بشيء من "وقت الفراغ"، الذي يتحدَّانا، يومياً، ليس على توسيعه فحسب، وإنَّما على فِعْل الأهم من ذلك، وهو الانتفاع منه بما يؤكِّد انتسابنا وانتماؤنا إلى "الحضارة الحقيقية"، فكثيرٌ من "الحضارة"، في زمن "العولمة" الذي نعيش، أقرب إلى النقد المزوَّر منه إلى النقد الحقيقي؛ وكثيرون مِنَّا، ومن شبابنا على وجه الخصوص، مُجْتَذبون إلى النقد المزوَّر، مع أنَّ وجوده هو خير دليل على وجود النقد الحقيقي.
مَنْ أنتَ؟
إنَّ بعضاً من أهم عناصر الإجابة عن هذا السؤال يكمن في العلاقة بينكَ وبين "وقت الفراغ" الذي تملك، لجهة "كيفية انتفاعكَ منه"، فَقُلْ لي كيف تملأ وقت فراغكَ اليومي أقُلْ لكَ مَنْ أنتَ.
أنتَ "تنتفع منه" بما يؤكِّد أنَّ بينكَ وبين القراءة عداء مُسْتَحْكَمٌ، فبضعة أسْطُرٍ لا غير هي المعدَّل السنوي للقراءة لدى المواطن العربي، مع أنَّ العصر الذي نعيش هو عصر المعرفة التي في متناول كل مُريدٍ أو ساعٍ لها.
إنَّ نمط عيشنا اليومي، ولجهة علاقته بـ "المعرفة"، لا يؤكِّد لنا إلاَّ شيئاً واحداً، هو أنْ لا قيمة، ولا أهمية، ولا ضرورة، للقراءة، والمعرفة، ولكل الأوجه الفكرية والروحية لـ "الحضارة الحقيقية"، فـ "الثقافة" التي نملك لتحصيلها أقوى الدوافع والحوافز هي ثقافة "الموبايل" و"الفيديو كليب".
"عالم الموبايل"، أي "عالمه السفلي"، هو عالم شبابنا اليوم، فـ "وقت الفراغ"، الواسع المتَّسِع، إنَّما يُملأ بالسعي إلى تحصيل مزيد من "ثقافة الموبايل"، التي هي من مستوى "الثقافة السياسية" لدى الساسة في عالمنا العربي.
"الجهاز"، أي جهاز الموبايل، الذي اشتريته اليوم يتقادم "معنوياً" غداً، أي بعد بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر، فتشتدُّ لديك "الحاجة" إلى شراء الأكثر "رُقِيَّاً" منه، أي الذي فيه من جديد الخواص ما يلبِّي مزيداً من "حاجاتنا"، التي تَسْتَوْلدها فينا، وتنمِّيها، "ثقافة الموبايل"، بوصفها الدرك الأسفل من الثقافة التي نملك على وجه العموم.
"الموبايل" هو أداة "التفاعل الثقافي والاجتماعي والإنساني" الأهم والأوسع بين شبابنا، والذي لا يُنْتِج إلاَّ مزيداً التشويه لهم، ثقافياً واجتماعياً وإنسانياً، فَلْتُمْعنوا النظر في "المحتوى المعرفي" لهذا التفاعل بين أبناء "مجتمع الموبايل". إنَّ كل عيوبنا الأخلاقية والاجتماعية والثقافية تَظْهَر واضحة جلية في "الصادِر" و"الوارِد" من "رسائل الموبايل" بأنماطها كافة، وكأنَّنا مجتمعٌ اجتمعت فيه، وامتزجت، ثقافة أبناء القبائل في الجاهلية مع "الموبايل"!
"مجتمع الموبايل" هو الذي فيه، وبه، يُهْدَر المال والجهد والوقت.. وكل ما يجب أن يُنْفَق على خير وجه، أي في سبيل زَرْع وغَرْس "الحضارة الحقيقية" في مجتمعنا، أفراداً وجماعات.
وهذا المجتمع، أي "مجتمع الموبايل"، يَفْتَحُ أبوابه على مصاريعها لـ "ثقافة" متمِّمة مُكمِّلة هي "ثقافة الفيديو كليب"، التي يُفْتَتَح لها، كل يوم، محطَّة فضائية جديدة. وبعض هذه المحطَّات، التي تشبه "محطَّات البنزين" لجهة الرائحة التي تفوح منها، هي "الدعارة" وقد لبست لبوس الغناء والموسيقى والرقص والشِعْر..، لِتَدْخُل بيوتنا من أوسع أبوابها، وَلِتَبْتَني لها "ثقافة" في عقول وقلوب المراهقين والشباب من أفراد عائلاتنا.
إنَّهم، أي المراهقون والشباب من أفراد عائلاتنا، ينفقون كثيراً من وقتهم وجهدهم من أجل التوسُّع والتعمُّق في معرفة ما تناهى في الصِغَر من تفاصيل حياة هيفاء وهبي، مثلاً، وأعمالها الفنيِّة الجليلة، والجديد منها على وجه الخصوص، يتعصَّبون لها، ويتعصَّبون على خصومها، فلا رأي لهم إلاَّ في أمرها، ولا صراع يخوضون إلاَّ الصراع الذي تخوضه هي.
حتى برامج تلك المحطَّات لـ "الاختبار الثقافي والمعرفي" للمشاهدين لا يفوز فيها إلاَّ من توفَّر على معرفة أمور وأشياء ينبغي له أن يجهلها تماماً إذا ما أراد تحصيل ثقافة ومعرفة حقيقيتين.
لقد أصبح للدعارة فَنُّها، وأصبح له ولها عشرات المحطَّات الفضائية، التي تبثُّ السموم في العقول والقلوب على مدار الساعة، وكأنَّ "الثقافة السياسية" التي يراد لها الانتشار في مجتمعنا تأبى إلاَّ أن تكتمل وتتكامل مع ثقافة "الفيديو كليب" و"الموبايل"، فـ "هيفاء وهبي" نراها في عالم السياسة العربية أكثر مِمَّا نراها في عالم "الفنِّ" العربي.
أمَّا إذا أردتَ مزيداً من معرفة كيف ننتفع (حضارياً) من "وقت الفراغ"، فاذْهَب للسهر في بعضٍ من مقاهينا التي ليْلُها من ليالي سلاطين الشرق.. وما أكثرها عندنا!
هنا، المُطْرِب يغنِّي بما يرضي حتى الأذواق السياسية كافَّةً، وكأنَّه موفَد إلينا من جامعة الدول العربية.
هنا، ترى الفرح المصطنع والزائف.. وكيف يعبِّرون عنه؛ لقد جاءوا عاقدين العزم على أن "يفرحوا"، أي على أن يصطنعوا الفرح.
هنا، ترى مواطني "الهلال الخصيب" جميعاً، وإنْ شقَّ عليكَ أنْ ترى في "المحاق" هلالاً، وفي "القحط" خصباً.
كل التناقض في الشخصية العربية تراه هنا، فالظاهر منها غير الباطن، والباطن غير الظاهر. هنا، ترى أبا نواس مع مجتمعه وزمانه وعصره يُبْعَث حيَّا؛ ولقد رأيتُ "محجَّبات" ما أن يجلسن حتى يخلعن حجاب الرأس أوَّلاً، ليَخْلعنَّ من ثمَّ ما بقي من احتشام زائف، فـ "الرقص" على أنغام أغنية "أنا نِسْوَنْجي" لا يُقاوَم. والرجال يخلعوا هُمْ أيضاً حجاب الرجولة، فتَبَان على كل العورات في الشخصية العربية، وكأنَّ هذا المكان زورقٌ تُبْحِر به في أعماق تلك الشخصية.
إنَّ "حزيران" لا تراه هنا شهراً، وإنَّما بشراً وروحاً وثقافةً ومجتمعاً..!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقد أفل نجمها!
-
أسبرين رايس والداء العضال!
-
خطر إقصاء -الأقصى- عن -السلام-!
-
العالم اختلف.. فهل اختلفت عيون العرب؟!
-
-الإعلام الإلكتروني- يشبهنا أكثر مما نشبهه!
-
-العلمائيون- و-السياسة-.. في لبنان!
-
-إيراروسيا-.. هل تكون هي -الرَّد-؟!
-
ثرثرة فوق جُثَّة السلام! -دولتان- أم -دولة واحدة ثنائية القو
...
-
ما معنى جورجيا؟
-
مات -آخر مَنْ يموت-!
-
الصفعة!
-
النفط -الخام-.. سلعة أم ثروة للاستثمار؟!
-
-قطار نجاد-.. هل يتوقَّف؟!
-
-الموت-.. في تلك الحلقة من برنامج -أوبرا-!
-
طهران أفسدت -مناورة- الأسد!
-
صُنَّاع الخزي والعار!
-
-شاليط الأصفر- و-شاليط الأخضر-!
-
ما هو الكون؟
-
مؤتمرات تكافِح الفساد بما ينمِّيه!
-
الأخطر في أقوال اولمرت لم يكن القدس!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|