24 أيار 2002
قال منفعلاً "أنا لا أصدق هذا الذي يحدث..إلى هذا الحد وصلت المحنة بنا حتى لم يعد هناك أخ يطيق أخاه".
فردت بهدوء مصطنع "الصبر مفتاح الفرج".
لم تهدئه تلك الكلمات بل زادته انفعالاً "أي صبر وأي مفتاح وأي فرج..إن وضع الناس ووضع البلد كلها أصبح كارثياً بكل معنى الكلمة..لقد استوقفني رجل مهندم وأنا في طريقي للعمل، وأذهلني حين طلب مني خمسة شيكلات لشراء خبز لأولاده..ألا ترين عمق المأساة؟".
وحاولت تهدئته "جعلك الله من أصحاب الخير".
عاد يقول "والمشكلة هو ما يحدث في السلطة الفلسطينية..ويبدو أن مخطط شارون في تدمير البنية الأساسية لهذه السلطة قد نجح، ليس فقط في ضرب وجودها المعنوي وخلق حالة من الفراغ والفوضى، بل أنه قد اشتعلت الحرب بين أطرافها..اللهم سترك يا رب".
فردت مبتسمة "وهذا دليل جديد على ما كنت أقوله لك بأن القبيلة والعائلة تظل هي الأساس الشرعي الوحيد لبقاء المجتمع الفلسطيني في ظل وجود أو غياب أية سلطة وأي دولة".
فنظر إليها وكأنه يعاتبها "لقد كنت أنادي بالديمقراطية وسيادة القانون حتى ننتقل إلى مجتمع المواطنين المتساويين في الحقوق والواجبات، ولكن السلطة الوطنية فشلت في نقلنا إلى تلك المرحلة".
ومتهكماً "إن النظرية صالحة ولكن التطبيق كان سيئاً..فالمجتمعات المتقدمة كانت في زمانها قبلية ومتخلفة وانتقلت مع سيادة القانون والديمقراطية إلى مجتمعات يشارك فيها ويمتلكها المواطنون".
ولكنه تراجع بالقول "على أية حال فإن الحاجة اليوم هي للتماسك وعلى جميع المستويات العائلية والقبلية وأيضاً على مستوى الوطن والسلطة انتظاراً ليوم آخر".
وأردف "الذي يثير الغضبة في نفسي هو أنه برغم تلك الحالة المرعبة التي تعصف بالسلطة بالتدمير الشاروني فإنه قد بدأ شحذ السكاكين في داخلها وبين أعضاؤها، وبل ولا يخفي البعض حقده على الآخر ويشجعون الناس على التهور والاعتداء ويصيحون بالاتهامات ضد بعضهم على شاشات التليفزيون وفي تصريحاتهم للصحف، هذا مسئول كبير يعترض على اتفاق بيت لحم الذي تم بإشراف الرئيس نفسه، وهو لا يقدم شيئاً بناءاً ولا اقتراحاً بديلاً ولم يسأل نفسه أين كان حين كانت المفاوضات تجري؟، وآخر يعترض على إرسال محمد رشيد إلى واشنطن حتى يضطر المتحدث الرسمي بإصدار بيان بأن الرئيس هو الذي أوفد رشيد في مهمة، هذا إلى الخلاف العلني بين رئيس جهاز الأمن الوقائي في الضفة وغزة، والاعتداء على الوزير حسن عصفور، إن كل هذا يدل على أن السلطة تخرب نفسها بأيادي أعضاؤها، وإن ولاء البعض للوطن والسلطة أصبح محك اختبار".
فقالت "أعتقد أن السلطة مثل غيرها من مؤسساتنا تعاني من خلل أساسي هو انعدام الالتزام بأخلاقيات العمل كفريق، وهي شئ عام في ثقافتنا، فالضغط الخارجي على السلطة تظهر آثاره في الأمثلة التي تقولها لأن بعض من هؤلاء قد وصل به التوتر إلى درجة لم يعد قادراً فيها على الارتفاع إلى مستوى الحدث وهبط إلى المستوى الشخصي في الهجوم والتقريع".
فرد بحزم "يجب على الرئيس عرفات وعلى أعضاء السلطة الكبار أن يتداركو الأمر بينهم قبل فوات الأوان وإلا فسيكونوا هم الضحايا واحداً تلو الآخر على مآدب الجياع المتعطشين للدماء..وبأيديهم ذاتهم".
فقالت بنبرة منذرة "وما زال الخوف قائماً في نفسي من حرب أهلية بين التنظيمات المسلحة وأجهزة السلطة..والاستفزازات التي يقوم بها البعض مثل التفجير الذي حدث في مقر المجلس الثقافي البريطاني بغزة وإلقاء القنابل على البيوت الآمنة..هو دليل آخر على سؤء الوضع وما ينذر به من مخاطر".
وقام سائراً في اتجاه الباب وهو يقول "تلك الهدية التي يقدمونها لشارون..والمؤسف هو أن البعض يقدم لشارون ما لم يستطع تحقيقه بجيش إسرائيل وطائراته، بعد أن زادت من تطرف الشعب الإسرائيلي ومن شعبية شارون بسبب العمليات الاستشهادية".
فقالت "أصبحت أميل مثلك إلى أن العمليات الاستشهادية قد أدت إلى عكس ما هو مطلوب منها، ولكن ما الحيلة أمام هذا البطش الإسرائيلي والتحيز الأمريكي الأعمى؟".
فرد عليها "الحيلة هي في استعمال العقل، بأن تتكون لدينا رؤية واضحة واستراتيجية للعمل من أجل السلام والعدل، وأن نتماسك ولا نعطي لأمثال شارون الفرصة لإنهاء وجودنا كله..إن الفرصة الأخيرة ما زالت أمامنا، ويجب أن ننفض عنا آثار الدمار بالتمسك بالحق والعدالة ولا يكون ذلك عن طريق قتل المدنيين في إسرائيل أو الاقتتال فيما بيننا".
فقالت بصوت متهدج "أصبت يا أبا عمر..رحم الله شهداؤنا الذين قضوا وهم مؤمنون بأنهم ضحوا بأرواحهم من أجلنا..وأرجو أن يرتفع الجميع إلى مستوى تضحياتهم من أجل أطفالهم وأطفال فلسطين بل وأطفال العالم".
*مدير برنامج غزة للصحة النفسية وناشط في مجال حقوق الإنسان