|
مقطوعة الشرق الأوسط.. العازف التركي واللحن الأوروبي
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2392 - 2008 / 9 / 2 - 07:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في 15 سبتمبر/أيلول عام 1961 أعدم رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، على يد الجيش بتهمة العمل على تقويض العلمانية وإقامة دولة إسلامية. ورغم أن تورغوت أوزال حاول رد الاعتبار إليه، لكن توفي عام 1993 دون أن يحقق أحلامه في أن تلعب تركيا دوراً متميزاً بحكم موقعها التاريخي والجغرافي، ناهيكم عن مركزها الحالي وعلاقاتها مع دول الشرق الأوسط، باعتبارها دولة إقليمية في إطار ما أطلق عليه “العثمانية الجديدة”.
ورغم أن التناقض الظاهر بين التطلع إلى الأوروبية والتمسك بالعثمانية، أو بين العلمانية والإسلامية، إلا أن هناك نوعاً جديداً من الانسجام الحالي بين هوية تركيا الراهنة، يتوزع بين علمانية مصطفى كمال أتاتورك واسلامية مندريس ورجب طيب أردوغان وعبد الله غول، ذلك بأن تركيا بعد الفوز الثاني لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية، حافظت على علمانيتها حسب الدستور وتوجهها الإسلامي في إطار الحريات التي يمنحها الدستور بما فيها مسألة الحجاب، وهكذا دخلت تركيا مرحلة جديدة ليس على الصعيد الداخلي حسب، بل على الصعيد الخارجي أيضا، وأصبحت لاعباً مهماً في الملعب الإقليمي، لاسيما عبر دبلوماسيتها الناشطة والمتحركة في معظم دول الشرق الأوسط، بما فيها مشكلة الصراع العربي “الإسرائيلي”. وإذا كان دور تركيا فرعياً وتكميلياً للقوى الغربية الكبرى في الثمانينات، لاسيما بعد انقلاب كنعان ايفرين (12 سبتمبر/أيلول 1980) والذي حدث عشية الحرب العراقية الإيرانية (1980 1988)، خصوصاً إزاء بعض دول البلقان، وتحديداً اليونان وقبرص (التي أعلنت تأييد قيام جمهوريتها التركية عام 1974)، وبلغاريا التي شنت حملة أيديولوجية ودعائية ضدها بحجة محاولة أحد عملائها المدعو “محمد علي أغجا” اغتيال الباب يوحنا بولس الثاني، وهو الأمر الذي شغل الإعلام لسنوات، لكنه طوي وأودع في دائرة النسيان بعد التغيرات العاصفة التي حصلت في أوروبا الشرقية، فإن دورها خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة ولاسيما في الألفية الثانية اختلف كثيراً. لقد احتفلت تركيا مؤخراً بمرور 555 عاماً على فتح مدينة القسطنطينية البيزنطية على يد محمد الثاني الملقب بالفاتح، والذي أعطى عهداً للمسيحيين بحماية أرواحهم وممتلكاتهم وشعائرهم، وكأنها تريد التذكير بالدور العثماني، لاسيما في علاقتها المزدوجة والمركبة مع أوروبا. في ظل هذه المتغيّرات يمكن قراءة خطط الدبلوماسية التركية الجديدة، لاسيما سعيها لوضع الشرق الأوسط في الحضن الأوروبي، مع تأمين مصالحها كمستفيد بل شريك هذه المرّة في العلاقة المتناقضة والمشبّكة بين أوروبا والشرق الأوسط. وفي ضوء هذه الأطروحة حضرت تركيا مؤتمر الرؤساء الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تحت عنوان “الاتحاد من اجل المتوسط”، والذي شارك فيه 43 زعيماً، وهو المشروع الذي جاء في أعقاب تلكؤ مشروع ميثاق برشلونة الذي تم التوقيع عليه عام 1995 بين دول ضفتي المتوسط، والذي شمل 27 دولة. وإذا كانت تركيا قد نشطت في مشروع الاتحاد من اجل المتوسط، فإنها لم تكن بعيدة عن مشاريع الشرق الأوسط التي أعقبت الحرب الباردة، لاسيما مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي جاء بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 وبلورته واشنطن كجزء من خطتها إزاء الشرق الأوسط عام ،2003 ثم كانت هناك مشاريع الإصلاح الألمانية الفرنسية التي استهدفت الشرق الأوسط والمشروع البريطاني، وفي ما بعد مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أعلنته وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس عام 2006 بعد العدوان “الاسرائيلي” على لبنان، لكن الدور التركي اكتسب بُعداً أكثر شمولاً ودبلوماسية وأكثر حذاقة وحصانة، لاسيما بعد فوز حزب العدالة والتنمية. لقد ظلت ثروة الشرق الأوسط المغرية محطّ اهتمام الدول الكبرى، لاسيما الاحتياطات الاستراتيجية العالمية من النفط، وخصوصاً بعد احتلال العراق وغزو أفغانستان والضغط على إيران للتخلي عن مشروعها النووي وتطويقها لتسقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، وكذلك الضغط على سوريا لقبول التسوية مع “إسرائيل” وفقاً لمنطق الأخيرة. كل هذه الأسباب دفعت الرئيس ساركوزي للتقدم بمشروعه الجديد، بهدف احتواء الشرق الأوسط والحد من ظاهرة الإرهاب والعمل على تطبيع العلاقات “الإسرائيلية” العربية وتطويق إيران، لكنه في الوقت نفسه قدّم مشروعاً سياسياً اقتصادياً اجتماعياً وثقافياً ليكون مسوّغاً للاتحاد من اجل المتوسط. ولعل مفردات مشروع ساركوزي الذي تضطلع تركيا بدور كبير فيه يسعى إلى تنظيف مياه البحر الملوثة واستخدام الطاقة الشمسية وإدارة الموارد المائية، وإنشاء خطوط بحرية كبرى لنقل البضائع، وتعزيز فرص التعليم أمام الشباب، وزيادة حجم الاستثمار، وتوسيع فرص القطاع الخاص، وصد موجات الهجرة غير الشرعية، وبالتالي الحد من العمليات الإرهابية. إن مشروع ساركوزي سهّل انطلاقة تركيا في إطار مشروع أوروبي لكي تقوم بدور نشيط مثلما يريد الرئيس الفرنسي أن يلعب دوراً أساسياً، كأنه يتسابق لاحتلال دور توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق في إلحاق فرنسا بالمشروع الأمريكي، الأمر الذي يكون نقطة جذب إضافية إلى تركيا. انصبّ الدور التركي على تحريك الحوار العربي “الإسرائيلي” بوساطة معلنة بين سوريا و”إسرائيل” (أربع جولات للمفاوضات حتى الآن) وتحريك الحوار الإيراني الأمريكي بوساطة غير معلنة، لاسيما في ما يتعلق بالملف النووي وبتشجيع من بعض دول الخليج العربي، حيث كان رجب طيب اردوغان ينسّق مع الفرنسيين والأمريكيين بشأن الخطوات الضرورية لضبط هذا التحرك، وجعل مرحلة الانتخابات الأمريكية اقرب إلى التهدئة الشاملة أو الهدنة الممتدة. إن باريس وواشنطن يهمّهما أن تقوم تركيا المسلمة بتشجيع الدعوة إلى الديمقراطية والحكم الصالح لدول الشرق الأوسط الذي لا يزال الكثير من دوله مغرقة، إما في حكم شمولي أو محافظ، لا تستطيع السير في طريق التقدم الحقيقي وبناء المجتمع المعرفي وتوسيع فرص التعاون الاقتصادي، وهذا هو المهم، إضافة إلى الانخراط في الحملة الدولية لمناهضة الإرهاب. ويقع الخيار على تركيا لأنها من جهة عضو في حلف شمالي الأطلسي وصديقة للغرب، وهي متوازنة بين شرق أوسط مسلم وبحر متوسطي بيزنطي، وتعمل جاهدة للانتماء إلى الاتحاد الأوروبي منذ العام 1999. ورغم تاريخها العثماني الإسلامي، إلاّ أنها تتطلع إلى الأوروبية بشكل عام، وقد عكست الدراما التركية مؤخراً هذا الاهتمام لاسيما في مسلسلي “سنوات الضياع” و”نور” حيث التطّلع إلى تقديم صورة المجتمع الجديد. كما أن حركة تركيا بين العرب و”إسرائيل” ليست إلاّ طريقاً للوصول إلى أوروبا، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية اعترفت ب”إسرائيل” عام 1949 وأقامت علاقات دبلوماسية معها، ولديها اتفاقيات استراتيجية أمنية واقتصادية، بما فيها اتفاقية ترايدنت العام 1960 ولا تزال علاقتهما متنامية، وجلبت تركيا استثمارات أجنبية بسبب استقرارها ونموها الاقتصادي قُدّرت ب60 مليار دولار خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، كل ذلك يجعلها عازفاً مثيراً للحن الأوروبي الجديد لاحتواء الشرق الأوسط.
صحيح أن ثمة عقبات تواجهها تركيا منها الصراع بين حزب العدالة والتنمية وبين العلمانية واليساريين والقوميين لاسيما الجيش، كما لا تزال القضية الكردية من دون حل إنساني، فضلاً عن استمرار ملاحقتها للحركة الكردية لاسيما حزب العمال الكردستاني PKK، وقصف الأراضي العراقية واجتياح الحدود الدولية، حيث أقدمت تركيا منذ العام 1984 على أكثر من 30 عملية عسكرية ضد سيادة العراق. ورغم الاتفاقات الأخيرة الاستراتيجية مع حكومة المالكي والاتفاق مع الرئيس جلال الطالباني، إلا أن العلاقات التركية الكردية لا تزال متوترة لاسيما بسبب كركوك وحساسية تركيا من الفيدرالية الكردية، لكن كل المعوّقات تدفع تركيا للتعويض عنها بلعب دور أكبر على المستوى الإقليمي، سواء دعمها للحوار اللبناني اللبناني من خلال وساطة قطر، وقد سبق لها أن أرسلت قواتها للانضمام إلى “اليونيفيل” التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، كما سعت إلى تحسين علاقتها مع موسكو وتسعى إلى تعزيز الشراكة من أجل البحر الأسود، ويبدو دورها المؤثر واضحاً في القوقاز، وتسعى إلى تحسين علاقتها مع أرمينيا رغم الحساسيات التاريخية، حيث زار عبدالله غول يريفان مؤخراً. ولعل لقاء اردوغان برئيس الوزراء “الإسرائيلي” أولمرت ومع الرئيس السوري بشار الاسد استهدف إيجاد أجواء ايجابية لإنجاح المفاوضات، وساهمت تركيا في انجاح اجتماعات دول الجوار العراقي وهي تدعو إلى تحويلها إلى آليات إقليمية للأمن والتعاون، لاسيما بعد رحيل القوات الأمريكية. مثل هذا الدور التركي يلقى رضىً عربياً بشكل عام، في حين ان الهواجس تكتنف الدور الإيراني. وحين تسعى تركيا إلى جني الثمار، فإنها تريد عراقاً مستقراً. في حين ان الدور الإيراني انتعش في العراق المضطرب وقد ينحسر بعد استقراره. ان تركيا الحالية تتصرف بواقعية سياسية وبرجماتية عملية ولكن بثوب إسلامي، منتهزة الفرص حتى وإن كانت على حساب الآخرين.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سجون عائمة.. يا لها من رومانسية
-
اللاعب التركي في الملعب النووي الايراني
-
انتخابات الرئاسة الأميركية وطريق الخداع!
-
دراما العدالة في السودان والثمن المقبول!
-
الخداع.. قبل العاصفة وبعدها!
-
في كيانية حركة المواطنة ودلالاتها!
-
المعادلة الطردية... الدولار والنفط!
-
المواطنة الإلكترونية!
-
المعاهدة الأمريكية - العراقية.. هل اقتربت ساعة الصفر؟
-
اللاجئون وأوروبا: بين «مزدوجين»!
-
السودان ومحنة العدالة الدولية
-
أوهام التنمية العربية
-
شبح الانسحاب الأميركي من العراق!
-
شارل مالك الكبير ولبنان الصغير
-
بوش وحصاد الشرق الأوسط!
-
في دلالات الحوار الكندي - الإسلامي: فكرة الهوية والخصوصية!
-
المنفى والهوية والحنين إلى الأوطان
-
جيفارا والحلم الغامض
-
التويجري الكبير والحقيقة الخرساء
-
النمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية: تأصيل المفاهيم!
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|