انحباس عملية التقدم الاجتماعي الاقتصادي تشبه تعطل عربة وسط الطريق. هي ليست مشكلة فقط لسائقها، هي مشكلة عامة تطال كل من يستخدم هذا الطريق هذا أولا.. أما ثانيا فان الضوضاء التي يصنعها المتضررون من انسداد الطريق قد تصنع ما يشبه لحظة ثورية بالمفهوم اللينيني إلى أن تنفيس الاحتقان الثوري سواء جاء عن طريق السياسة أو عن طريق العنف لن يتم بواسطة الصراخ و الشتائم وإطلاق كل أنواع المزامير حتى و لو كانت مزامير داوود. فكل ذلك لن يحرك العربة المتعطلة في حلق الطريق سنتيمتر واحدا .. وحده فقط الذي ينفع هو دخول المتضررين جميعا في صيغة تسوية تترتب فيها أدوار للجميع في الحل و في مكاسبه .. أسوق هذا المثال الساذج متكئا على الخبرة العريقة التي راكمتها لغتنا العربية في محاولتها لإنتاج المعنى سواء المبثوثة في النصوص التأسيسية الكبرى أو في الموروث الشفهي الذي يضع في الاستعمال اليومي على نحو كثيف و آسرالأمثال كصيغ جاهزة لاقتناص المعنى و إيصاله إلى الآخر على نحو حاذق وجميل ..
إن الانحباس الراهن الذي أفضت إليه تجربة بناء الدولة الرأسمالية كحل تفتقت عنه أزمة انحباس سابقة صنعتها المسألة الزراعية قبل نصف قرن، تنعكس أو ضارها على كافة الشرائح .. فالجميع بالمحصلة متضرر من انسداد الطريق ,تتفاوت فقط عتبة الإحساس بضغط الأزمة . يقودنا هذا التوصيف للمشهد إلى الأهمية القصوى للحوار كجسر لا بد من استخدامه من قبل جميع المتضررين للوصول إلى صيغة جماعية لممارسة الجهد بغية إزاحة العربة من الطريق .. فمن إعادة النظر في الاصطفافات التي تسمح بها البنية الاقتصادية- الاجتماعية لجهة تغليب السياسي في تعبيراتها على الأيديولوجي وصولا إلى تغميق الخطوط الأفقيةوتبهيت الخطوط العمودية, إلى إعادة تنقيح التعبيرات السياسية المستخدمة حتى الآن و التي تتسم بدرجة عالية من التشنج العصبي أوصلتنا إليه الدوغما بنسختيها الأصلية و المعاصرة .
إن الكثير من المفارقات يمكن العثور عليها إذا ما أخضعت الأدبيات السياسية للأحزاب و الحركات والمنظمات المهنية الراهنة للعين الناقدة . كما إن الكثير من هذه المفارقات يتوزع نسبها على لحظات تجاوزتها البنية الاقتصادية – الاجتماعية في سيرورتها ، وعلى الإلتباسات التي تتولد على هامش عمليات نقل المعرفة من البلدان المنتجة وهي الغرب عموما إلى البلدان المستهلكة ونحن منها, جراء ما تتعرض له "المعرفة " من تحوير وحذف وإضافة و انتزاع من السياق و انزياحات للمفاهيم ، يضاف إليها ما تصنعه هذه المعرفة من اصطفافات و انحيازات حول أجوبة لم تطرح أسئلتها البنية الاقتصادية – الاجتماعية: كل ذلك في سياق تتدهور فيه أكثر فأكثر صدقية هذه المعرفة بفعل الإنكسارات المتتالية لتجارب الحداثة , و الممانعة المتنامية للفضاء الثقافي الإسلامي التي يبديها في مواجهة عمليات تطعيمه بثقافة وافدة من ديار صنفتها ذاكرته التاريخية كديار حرب .
إن التعقيدات التي تواجه سيرورة الوصول إلى صيغ جديدة للعمل الجماعي ، بغية إزاحة العربة "الأزمة " من الطريق تحتاج إلى ورشة عمل فكرية – سياسية تستحضر جميع الملفات و تتعامل معها بعقل مفتوح ، وبعتبة دنيا من الحساسيات التي تولدها الأفكار المسبقة ، وبالتزام شديد بالحقائق التي تبلورها عدة الشغل التي يضعها بين أيدينا المستوى الراهن للمعارف و العلوم الاجتماعية ...
و في هذا السياق ينبغي إعادة الاعتبار للماركسية كمنهج يمكن استخلاصه من النص الأصلي تحت ضوء التاريخية ، ذلك أن أي نص يجري استخدامه خارج مفهوم التاريخية هو " نص منتزع من سياقه " إلا أن القرن و نيف الذي مضى على ولادتها لم يترك الماركسية بلا أسئلة . إن هذه الأسئلة هي في أحد جوانبها خير تعبير عن حيوية العقل و ضيقه بأي غلاف ينسجه هذا الميل البشري إلى التقديس مهما كان هذا الغلاف واهيا...
إن المآل الذي وصلت إليه الماركسية على يد ممارسيها السياسيين قد قصر عمرها المفترض على نحو مريع .. كما أن الإنتاجية العالية للعقل البشري في القرن الماضي قد لا تفسر لوحدها شيخوخة الماركسية كمنظومة معرفية .. فاليباس و التحجر قد تسرب إليها من حقل آخر هو حقل الممارسة .. و لعله من الظلم الفادح للماركسية أن نضطرها لدفع كل الفواتير الممهورة بخاتمها . فكما أن الرسول محمد (ص) لا يتحمل مسؤولية إسلام ابن لادن ، فمن الإنصاف أن لا يتحمل ماركس على سبيل المثال لا الحصر ماركسية خالد بكداش ...
رغم ذلك يجب أن نتحوط من أن يجرنا هذا المنطق إلى تنزيه النص الماركسي من الخطأ ... لعل ما تقدم هو نوع من استجماع للقوى و شحذ للوسائل تمهيدا للدخول إلى الإشكالية التي أفضت إليها السيرورة الاجتماعية – الاقتصادية لأنظمة رأسمالية الدولة في العالم العربي . مصر .. سورية .. العراق .. الجزائر .. الخ .
تتجلى الأزمة الراهنة التي تعيشها أنظمة رأسمالية الدولة التي انبنت على حطام النظم الليبرالية الموروثة عن المرحلة الكولونيالية . تتجلى هذه الازمة في عجز متفاقم عن إيجاد فرص عمل للملايين من الأجيال الجديدة من اليد العاملة نصف الماهرة أو الماهرة أو الأكاديمية ، تتوزع عناصر العجز على باقة من الإنسدادات منها ما يتصل بالفساد و منها ما يتصل بالسياسيات الاقتصادية المتبعة ، و منها ما له طابع بنيوي يتعلق بالصيغة التلفيقية التي توصلت إليها الأيديولوجية القومية – الاشتراكية لجهة النموذج الاقتصادي – الاجتماعي المنوي بناؤه من قبل برجوازية صغيرة ريفية قفزت إلى السلطة على خلفية عجز البرجوازية عن حل المسألة الزراعية بفعل تحالفها مع كبار الملاك العقاريين . و إذا كان متوسط كلفة إيجاد فرصة عمل تصل إلى عشرين ألف دولار في بلد كسورية على سبيل المثال يحتاج الى معظم ما أودعته البرجوازية السورية بشقيها برجوازية السوق و برجوازية الدولة في البنوك الغربية من أموال .فالرقمان " الأموال المودعة و كلفة التخلص من البطالة " تقتربان من المائة مليار دولار
إن الفاتورة ليست في معظمها ذات طابع مالي . ذلك أن الإحتقان الاقتصادي ينضاف إليه خليط من المواد القابلة للاشتعال.. إن جر الدين إلى ميدان السياسة هو الرد الطبيعي على سحب الدولة الشمولية- السياسة- من التداول ، و في بلد يفتقد وحدة المعتقد الديني فإن الدولة لا نظامها السياسي يصبح في موضع المساءلة و تصبح إمكانية إعادة اندماج شكلي تراكم رأس المال خاضعة لكوكتيل من المساومات السياسية واللاهوتية.من هنا فإنالمشهد يصبح بالتدريج سرياليا في العين التي ترى بنظارة واحدة . إن المركب يحتاج إلى مفاهيم مركبةكذلك فإن الاختزال و التبسيط سوف يقود كما يقولون إلى الدخول في الحائط ..وأخشى أن الراديكاليةفي العالم العربي هي من هذا النوع,وإلامامعنى حالة الإستنقاع الراهنة؟
أعود إلى الحالة السورية .. إن الانجازات التي راكمتها البرجزازية الصغيرة الريفية سواء على جبهة إعادة توزيع الثروة أو اختراق التراتبية الاجتماعية الموروثة عن المرحلة العثمانية ، و استحضار الفئات و الشرائح المبعدة عن مسرح التاريخ منذ قرون و جذبها وإقحامها في العملية التاريخية الجارية,أو حل أزمة انحباس الرأسمالية داخل المدن وفتح الطريق أمام علاقات الانتاج الرأسمالية للوصول إلى الريف أو ..أو .. إن كل هذه الانجازات التي تراكمت خلال بضعة عقود هي بكل المعايير حرق للمراحل بالمقارنة بالوتيرة التي حكمت حركة البرجوازية في الغرب عموما ...إن كل هذه الانجازات لا تدفعنا إلى إغماض العين عن الانحباس الراهن لعملية تعميق التحول الرأسمالي ,وانعكاس هذا الانحباس على السيرورة التاريخية الجارية ,أي الدخول المتعثر للمجتمعات العربية إلى الفضاء الاكثر رحابة لنمط الانتاج الرأسمالي تعكس هذه الأزمة نفسها على المرايا المثبتة عند المستويات الثلاث للبنية .
ففي المستوى السياسي : ضاقت بالتدريج رقعة صناعة القرار ,فمن تحالف الأحزاب إلى الحزب الواحد ,إلى الأمين العام راحت تتجمع بالتدريج خيوط اللعبة السياسية ,هذا في شوط الذهاب أما في شوط الأياب فيعاد توزيع منافع النفوذ السياسي على شبكة من الولاءات تظلل كخيمة معظم المجتمع ,فعبر مؤسسة الجيش ومؤسسات الأمن وعبر الأشكال الكاريكاتيرية لمؤسسات الدولة الحديثة بسلطاتها الثلاث المفتوحة على بعضها كمغارة علي بابا . عبر القطاع العام المشرعة أبوابه للنهب من قبل بيروقراطية تتغربل باستمرار على ضوء حاجة شبكة الولاءات لرتق هذا الفتق أو ذاك
في ثوب الديمقراطية الاجتماعية الملطوش من التجربة السوفيتية عبر كل ذلك فإن شوط الإياب في حركة النواس يؤمن في هذا الفضاء المعقم من المعارضة المؤثرة, الطاقة لشوط الذهاب والعكس بالعكس ..
أما في المستوى الأيديولوجي: فإن المأزق الذي وجد نفسه فيه الخطاب الحديث للمعارضة جراء تماهية إلى هذا الحد أو ذاك مع الخطاب الحديث للسلطة لجهة المصطلحات والمفاهيم والمرجعية العقائدية المشتركة .إن هذا المأزق الذي أدخل الخطاب الحديث للمعارضة في الحائط قد مهد الطريق للخطاب التقليدي لكي يحتل الحيز الأكبر من الميدان ..ساعد في ذلك الاستخدام البراغماتي لأشكال الانحياز التي تؤمنها بنية اجتماعية تعيش مرحلة تحول من قبل سلطة تضع استمراريتها كأولوية مقدسة ..... في المرآة المثبتة عند المستوى الأيديولوجي تظهر الأزمة كشرخ عمودي يشطر البرجوازية السورية إلى برجوازية سوق و برجوازية دولة بينهما حائط مذهبي يمتد عموديا عبر بقية الطبقات المجتمع السوري .يصبح الجامع بمثابة المحرق الذي تتجمع فيه خطوط حرارة الكراهية قبل أن تصل الى نقطة الاشتعال
ويأخذ طابع الاعتراض ألوانا تطال المأكل والملبس وأنماط السلوك في حركة ارتداد جماعية عن الحداثة كما لو أنها مرض يجب حجره داخل السلطة وأنصارها.. في هذا المأزق الذي انزلق إليه المجتمع السوري بالتدريج . تصبح الحلول السريعة مشاريع حروب بين دوغمائيات فقدت القدرة على التعايش .
إن الانزلاق التدريجي إلى المأزق يشير إلى الطبيعة التدريجية إلى وسائل الخروج ... إلا أن التدرج ليس الحل بل هو إيقاعه .
في المستوى الاقتصادي : تظهر الأزمة . كبطالة مقنعة و مكشوفة وإغراق شديد لسوق العمل بالعمالة وتدني متفاقم للقيمة الحقيقية للأجور ينعكس بشكل سلبي على سوق تصريف السلع جراء انخفاض القدرة على الاستهلاك ...مفضية الى أزمات تطال القطاع المنتج وتدفعه إلى تقليص نفسه في حركة حلزونية يضيق نصف قطرها بالتدريج ...
إن الدائرة التي تتحرك على محيطها عجلة الاقتصاد الرأسمالي بمكوناته الرئيسية الثلاث :النقد- العمل المأجور- السلعة . مفتوحة دائما على امكانية التوسع تحت ضغط تنامي الربح و تنامي القوى المنتجة و تنامي القدرة على الإنتاج و هي معرضة دائما للتقلص أو التوقف عن التوسع عند أي أزمة تعترض دورة الانتاج لهذا السبب أو ذاك .. و في الحالة الراهنة لبنية الاقتصاد السوري يتغذى الميل إلى تقليص الدائرة من النهب الذي يخضع له القطاع العام المملوك للدولة من قبل البيروقراطية و من الأكلاف الاجتماعية التي يحملها على عاتقه لجهة الامتصاص غير الاقتصادي لجزء من اليد العاملة . فما بين العام 196. و العام 1992 تطور عدد العاملين في قطاع الدولة بمعزل عن مؤسستي الجيش و الأمن 33979 إلى 717387 فرد.
و تكشف المسافة بين الرقمين الدور الفاعل للدولة في امتصاص شطر هام من قوة العمل في العقود الثلاثة التي شهدت التحول إلى رأسمالية الدولة . إلا أن هذا الامتصاص لقوة العمل لم يكن كله ذا جدوى اقتصادية بل كان استجابة للسياسات التي بلورها خطاب العدالة الاجتماعية الذي تقاسمته أحزاب البرجوازية الصغيرة الريفية في كافة أرجاء العالم العربي .. أما تقرير التنمية العربية للعام 1999 فيكشف المعلومات التالية عن حجم و توزع العمالة السورية العاملة ، حيث يصل عدد العاملين في القطاع الخاص المنظم إلى1،222 مليون فرد ، و في القطاع الخاص غير المنظم إلى 1،755 مليون فرد و في القطاع العام إلى 1،.96 مليون فرد . أي أن مجموع العمالة العاملة في سورية تصل إلى 4،.73 مليون فرد . و تشير هذه الأرقام إلى أن القطاع العام لا يزال يشغل ربع اليد العاملة و أن نسبة العاملين إلى عدد السكان هو أقل من الربع أيضا ، أي أن العبء الاجتماعي يرتفع إلى أربعة أمثال . فإذا أضفنا هذا الحجم الكبير للعبء إلى القيمة المتدنية لمتوسط الأجور اكتشفنا مكان آخر للضغط على دورة الإنتاج باتجاه التقلص. أقصد ضعف القدرة على الاستهلاك الداخلي للسلع. إن الإختناقات المتكررة التي تعانيها السلع الزراعية التي لا تمول الدولة عمليات شرائها هي من جهة تعبير عن الطفرة التي أحدثها التحول إلى الرأسمالية في بنية الاقتصاد الزراعي لجهة مضاعفة إنتاجيته عدة مرات . و هي من جهة أخرى تعبير عن عجز بنيوي يتمثل في إخفاق تعانيه عملية تحول السلعة إلى نقد جراء ضعف القدرة الشرائية بشكل عام... إلا أن للأزمة وجه آخر يتغذى من التراجع المستمر في قدرة القطاع المملوك من قبل الدولة على الاستثمار و بالتالي تراجع قدرته على امتصاص فائض العمالة التي تتزايد سنويا بما يقترب من ربع المليون في بعض التقديرات .
إن الإنهاك المتزايد للقطاع العام جراء السرقة و البيروقراطية و البطالة المقنعة قد تقلصت قدرته على المساهمة في الاستثمار أي بتعبير آخر توسيع و تطوير القاعدة الإنتاجية بما يؤهلها لامتصاص معظم اليد العاملة المتزايد باطراد في سوق العمل .. من هنا فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة انعكست سياسيا على القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي على شكل انكماش متزايد تجري محاولات عرقلته باستحضار كوكتيل من الأيديولوجيات العلمانية و التقليدية . فحيث تنفع الهوية الاجتماعية للنظام لجهة الأصول الريفية لمعظم نخبه العسكرية و الإدارية يجري استخدامها. و حيث تنفع الهوية المذهبية الأقلياتية في اللعب بالمخاوف التي تستبطنها الذاكرة التاريخية للأقليات يجري استخدامها بشكل مبطن يستدرج العلني لدى الخصم الأصولي في إطار جدلية تستنهض على نحو صارخ الانقسامات العمودية و تزجها في ميدان الصراع السياسي على السلطة
* * *
من التوصيف السابق للأزمة في تجلياتها على المستويات الثلاث السياسي والأيديولوجي والاقتصادي أميل إلى استنتاج ما يلي :
1 ـ بين أزمة انحباس الرأسمالية داخل المدن قبل نصف قرن وأزمة رأسمالية الدولة الراهنة ملمح مشترك هو أنها أزمة في مجرى التحولات الرأسمالية لا في خواتيمها . إن الأزمة الأولى قد تم تجاوزها بتصفية ما تبقى من علاقات الانتاج الأقطاعية في الريف وبدخول الدولة كرأسمالي كبير لدية الأمكانية والجرأة لزج المزيد من الاستثمارات في سوق العمل ليوسع قدرتها على امتصاص طوفان اليد العاملة الهاربة من العمل العيني إلى العمل المأجور ...
إن غلبة الطابع الريفي على الحامل الاجتماعي الذي تولى تنفيس الأزمة الأولى يشير فقط إلى المكان الذي احتقنت فيه أزمة التحول إلى الرأسمالية ,أقصد الريف , وكان البرلمان والجيش هما الباستيل الذي توجهت إليه ضغوط الحامل الاجتماعي بألوانه الريفية الغامقة .. ذلك أن نفوذ كبار الملاك العقاريين بما يشكلونه من عقدة تقف في حلق المجرى كان يتمترس داخل هاتين المؤسستين .
ولعل سقوط الجيش أولا هو الذي حدد المصير البائس للصيغة الليبرالية للدولة الوطنية .
كان البرلمان المحاصر بجموع الفلاحين , والمخترق بكتلة من نواب الريف يتزعمهم أكرم الحوراني يترنح, وكانت الأزمات الوزارية المتفاقمة تشير إلى الاستعصاءات التي يسببها كبار ملاك الأراضي بمواقعهم القوية داخل حزبي الأغلبية في البرلمان ـ الشعب والوطني.
2 ـ أخلص إلى القول إن الحامل الاجتماعي الذي تولى حل الأزمة الأولى كانت تخوم حركته محتواة داخل فضاء التحولات الرأسمالية . أما الإشارات المتناثرة التي كانت تناقض ذلك (الاتجاهات الماركسية التي وجدت لها موضعاً هنا أو هناك داخل أحزاب البرجوازية الصغيرة , أو داخل الجيش ) فقد ظلت تعبيرا عن أثر التلاقح الثقافي مع الغرب أكثر منها تعبيرا عن تحولات في البنية الاقتصاديةـ الاجتماعية ...
3ــ كان برنامج تعديل توزيع الثروة خصوصا "لأرض" يقوطب حوله الكثير من القوى, بينما البرامج الأكثر تطرفا المنزلقة باتجاه إلغاء جزئي أو كلي للملكية الخاصة ظلت معلقة في الفضاء بلا حامل اجتماعي, وكان هذايشير إلى المخانق السسيولوجية التي يعاني منها الخطاب الماركسي في سورية وفي عموم المنطقة .
4ــ من هنا فإن ما ينبغي تفهمه أن ما جرى في نصف القرن المنصرم لم يكن ضرورة تاريخية , بل هو تغليب ممكن على آخر في مجرى التحول الرأسمالي على خلفية أزمة عابرة , وهذا ما عبر عنه بصرامة علمية الراحل مهدي عامل: "كانت الراسمالية في المركز تحل أزمتها بالفاشية , أما في المحيط فتحلها بفتح الطريق لأحزاب البرجوازية الصغيرة للاستيلاء على جهاز الدولة "، أي أن طريقا جانبيا قد شقه مجرى التحول الرأسمالي على خلفية أزمة .
5 ـ يشير هذا التحليل لماضي التحولات الرأسمالية في سورية إلى الطابع المستقبلي لهذه التحولات على خلفية الأزمة الراهنة .. بمعنى أن الانقلاب العسكري الذي أفضى على المستوى السياسي لطي الصيغة الليبرالية لبناء الدولة الوطنية لصالح الصيغة الشمولية ,كان بمثابة طريقا جانبية اضطر إليها التحول الرأسمالي على خلفية الأزمة الزراعية..
وقد كان الحامل الاجتماعي الذي تولى شق هذه الطريق الجانبية هي البرجوازية الريفية بأحزابها وجنرالاتها, إلا أن الأزمة الراهنة التي تتمثل في عجز برجوازية الدولة عن توسيع قاعدة الانتاج الرأسمالي بما يستوعب التطور الكبير الذي طرأعلى حجم القوى المنتجة "الشق البشري "تشير وعلى نحو يشتد وضوحه بالتدريج إلى أن الحامل الاجتماعي الذي سيأخذ على عاتقه حل الأزمة هي برجوازية السوق .ذلك أن الأزمة تعبر عن نفسها في المستوى الاقتصادي على شكل عجز عن تأمين الاستثمارات .
وفي المستوى الأيديولوجي على شكل إفلاس للأيديولوجية القوميةــ الاشتراكية أمام كل من الأيديولوجية الليبرالية والأيديولوجية الأصولية الاسلامية ,وفي المستوى السياسي فإن توسيع رقعة القرار أصبحت مطلبا تتلاقى عنده كامل الوان الطيف الاجتماعي السياسي ..
أما الموقع الذي تحتله برجوازية السوق سواء لجهة مكانها قي بنية الانتاج , أو لخطابها الليبرالي , فإن الدلائل تشير إلى إحتلالها موقع القيادة في تحالف اجتماعي ـ سياسي تفرض من خلاله الطريق الذي سيشقه مجرى التحولات الرأسمالية .
6 ـ عند هذه النقطة من التحليل ينبغي التوقف عند مفارق قد تتردد عندها برجوازية السوق في ضغطها المتزايد على برجوازية الدولة لإعادة إلاعتبار للصيغة الليبرالية لنموذج الدولة المتوخى إعادة بنائه ...
إن برجوازية السوق ليست كتلة مصمتة من المصالح ومن تعبيراتها السياسية والأيديولوجية ,بل هي طيف من المصالح المتقاربة، بمعنى أن المساومات تحت الضغط التي قد تجري بين طرفي الصراع الرئيسيين :برجوازية الدولة /وبرجوازية السوق قد تفضي إلى استنقاص هذا الحق أو ذاك لهذا الطرف أو ذاك من أطراف التحالف الديمقراطي العريض ..ينعكس هذا على شكل النظام السياسي لجهة فعالية البرلمان أو مستوى فصل السلطات ..إلخ ...
7 ــ إن الأيديولوجية الأصولية الأسلامية تهدد بقطع الطريق على خلفية تعثر الوصول إلى صيغة اندماج شكلي تراكم رأس المال ,الدولة/السوق بسبب الطابع اللاهوتي الإضافي لهذا التمايز والمنوه عنه سابقا .. إن البرجوازية الصغيرة المدينية التي تنضوي تحت اليافطة الدينية والتي تميل إلى إعادة إنتاج الدولة الشمولية تحت قيادتها تحاول أن تشق طريقا جانبيه على خلفية الأزمة ...
8 ــ يهدد هذا المسار الجانبي الذي قد تفضي إليه الأزمة الدولة الوطنية لانظامهاالسياسي فقط, ويفتح الطريق على مشاريع حروب لاهوتية قد تعصف بكامل المنطقة ..
9 ــ من هنا فإن تحالفا عريضا تقوده برجوازية السوق الليبرالية وينضم إليه معظم الطيف الحديث للقوى والشرائح والأحزاب والشخصيات الوطنية والديمقراطية هو الذي يعطي فرصة لإزاحة العربة " لأزمة " من الطريق ويفتح بالتالي آفاق التطور الرأسمالي التي سدتها البرجوازية الريفية بما آل إليه مشروعها القومي ـ الاشتراكي من مخانق على المستويين الوطني والقومي .