ما حملني على تذكر ما قاله مالك بن دينار في الحجاج الثقفي إلا ما قاله رئيس مجلس الحكم لشهر شباط الأبتر هذا، والذي يحمل عنه العراقيون ذكريات مريرة ، لا يمكن أن تمحى من ذاكرة شعبنا المبتلى بقتلة لا يعرفون غير القتل ، ولا يحبون غير سفح الدماء ، وهتك الاعراض ، وقتل النساء ، وتشريد الملاين ! ومع ذلك نهض الأن من يريد الدفاع عنهم ، وراح البعض من كان للأمس القريب يمسح على أكتاف صدام الساقط يزين صورتهم ، وينسبهم تارة الى السنة ، وأخرى الى الجيش الذي حلّ نفسه ، واستعجل خلع ملابسه العسكرية قبل أن يصله جندي أمريكي واحد . وقد اشتكى قائدهم الضرورة صدام! هزيمتهم تلك قبل أن يشتكيهم غريب بعيد ، وهؤلاء ، وثانية هؤلاء ، هم أذرع الاخطبوط الساقط والذي ينتظر الرحمة من اسياده الأمريكان في أن يمنوا بها عليه . هؤلاء هم من كان يذيق الشعب العذاب ، وهم من أودع الآلآف من العراقيين باطن الأرض . هم الذين دفنونا رجالنا ونساءنا أحياء في مقابر جماعية عرفتها الدنيا كلها ، وسودت وجه من أراد تبريرها ، ممن انعدمت فيهم ضمائرهم ، وممن لا زالت قلوبهم تطفح بالحقد ، وتغلي بالكراهية ، وممن يتمنون عودا لذلك الماضي الأسود الذي أخجل بما ارتكبوا به من جرائم الوحوش المفترسة . فعلام يتباكى هؤلاء المدافعون على فريق أو عقيد أو نقيب في جيش مهزوم ، كان كل همه خدمة النظام الساقط ، لا خدمة الوطن ولا الدفاع عنه . هاتوا واحدا من هؤلاء قاتل في بغداد مثلما قاتل الجنود الفقراء المغرر بهم في مدينة أم قصر أو في مدينة الناصرية ؟
كل العالم يعرف أن بغداد أحتلت بدبابتين أمريكيتين عبرتا من الكرخ الى الرصافة ، وتستقرتا في ساحة الفردوس أمام صنم صدام فيها ، وحين تناوله الجنود الأمريكان بحبالهم ، مع جماهير شعبنا المضطهد ، اعتلاه أبو تحسين بنعله الذي لم يبعه فيما بعد بآلاف من الدنانير ! هذه هي قصة سقوط بغداد في اليوم التاسع من شهر نيسان لسنة الفين وثلاث ، فماذا سيقول صناديد القرن العشرين ! من قوات الحرس الخاص والحرس الجمهوري للاجيال القادمة من العراقيين حين يقرؤون قصة سقوط بغداد على صورتها البائسة هذه ، أ لم يتذكر هؤلاء الجبناء كيف قتلوا الآلاف من أبناء شعبنا في مدن الجنوب بعد انتفاضة آذار سنة 1991 م ؟ لكن جيشا قائده جبان مثل صدام ماذا يرجى منه غير قتل الرجال والنساء العزل من شعبنا المظلوم ! ؟
والعجيب في الأمر أن يأتي أحد الأن ويذرف الدموع على قتلة احترفوا القتل مهنة منذ هذا الشهر الأبتر في انقلابهم الأسود سنة 1963 م ، أن يأتي أحد ويدعو لمصالحة مع مجرمين لم تتحقق براءتهم بعد للان ، وللان ما زالوا يمارسون القتل والأرهاب في عمليات لم يكن هدفها أبدا تحرير العراق من الأمريكان ، ولم يكن هدفها الدفاع عن الأسلام ، وإنما هدفها الأمل المستحيل في العودة الى أيام الامتيازات التي فقدوها ، فعن أي تحرير يتحدثون ؟ وعن أي اسلام يدافعون ؟
ويبدو لي ، بعد ذلك ، أن بعضا من رؤساء مجلس الحكم ، يلتقون في زلات اللسان وهفواته ، فمنذ أشهر طالب السيد عبد العزيز الحكيم العراقيين بتسديد ديون لايران لم يعرفها العراقيون ، ولم يستقرضوها من أحد ، واليوم وفي هذا الشهر الأبتر ، وفي خطبة صلاة عيد الأضحى في مسجد من مساجد بغداد ، يطالب رئيس مجلس الحكم الجديد ، محسن عبد الحميد ، بمساعدة " المظلومين " من أعضاء الجيش السابق وحزب البعث ، ولا أعرف السبب الذي حدا بالسيد محسن عبد الحميد أن يستخدم لفظ " المظلومين " ويطلقه على هؤلاء ، فمتى كانوا هم مظلومين ؟ وإذا كان يعني أن الظلم لحقهم زمن صدام ونظامه فهذا مما لا يقره عاقله ، فقد كانوا هم لحمة النظام وسداه ، وإذا كان يعني أن الظلم لحقهم زمن الأحتلال ، ويريد هو أن يرفع عنهم هذا ظلم ، فالأولى به أن يطالب برفع الظلم عنا نحن العراقيين الذين أكلنا ظلم صدام وشربنا على مدى أكثر من ثلاثين سنة ، أن يطالب برفع الحيف والظلم عن الملاين من العراقيين الذين لم يروا تراب العراق على مدى عقود من الزمان ، والذين تقاسمت أرض بلدان كثيرة قبور بعضهم ، وكل هذا بسبب من ظلم هؤلاء وسيدهم صدام الذي آزروه ظلما على شعب يدعون هم من أبنائه ، وإذا كان السيد رئيس مجلس الحكم لهذا الشهر الأبتر يرى أن الاحتلال ، الذي يستظل به هو ألآن ، ظالما ، فلماذا يريد أن يدفع ظلم هذا الأحتلال عن أعضاء الجيش السابق وحزب البعث ، ولا يدفعه عن نفسه هو أولا ، وعن الشعب الذي ضطهده صدام بهؤلاء ثانيا؟
رحم الله مالك بن دينار حين قال : ( والله لربما رأيت الحجاج وهو يتكلم على المنبر ، ويذكر حسن صنعه للعراقيين ! وسوء صنعهم له ! حتى يخيل إلي أنه مظلوم ! )
لقد صار الظالم مظلوما في لغة حكامنا الجدد ، وهم يعلمون علم اليقين أن صداما جبان ، وقد أثبت الوقائع ذلك ، حين أخرج ذليلا ، بائسا من حفرة حقيرة ، وهو شارد الذهن ، يتلمس الرحمة من أسياده ، وهم يعلمون أن هؤلاء " المظلومين " ، بلغة رئيس مجلس الحكم ، هم سيفه الذي أطاح برؤوس الملاين من أبناء شعبنا العزل ، فكيف يردوننا أن نصفح عن مجرمين ونتصالح معهم ، وهم متهمون للان ؟
لقد كانت خطوة حلّ أجهزة النظام القمعية ، وبما فيها جيش صدام ، خطوة موفقة ، وصحيحة ، وناجحة ، فالجيش في العراق أعد لغاية واحدة ، هي حماية النظام من الشعب ، وحين أراد الزعيم عبد الكريم قاسم أن ينحاز بالجيش الى شعبنا المظلوم ثار عليه هذا الجيش في انقلاب دموي ، اسود في شهرنا الابتر هذا ، ذلك الانقلاب الذي اسماه المهيب البكر ! عروس الثورات !! في تحدٍ صلف ، ووقح لمشاعر أغلبية شعبنا الذين سالت دماء ذويهم حرى في شوارع مدن العراق في صبيحة الثامن من ذاك الشهر الأبتر ، تلك الصبيحة التي يتوجب على العراقيين أن يرفعوا الرايات السود على واجهات بيوتهم ، حدادا على الأنفس الزكية التي أزهقت في عروس الثورات تلك ! وليعلم رئيس مجلس الحكم أن الذين يسميهم بالمظلومين هم من ذات طينة البعث التي سفكت دماء العراقيين على مرأى ومسمع من العالم ، وليعلم كذلك أن اذاعة هؤلاء من بغداد قد تغنت طويلا بقتلنا ، وهي تصدر بيانات الموت الواحد تلو الأخر ، فلا تنكؤوا جروحنا ، ولا يمكن ، كما ترون ، أن يكون الحجاج مظلوما ، أبدا لم يكن الحجاج مظلوما !