محمد سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 2386 - 2008 / 8 / 27 - 04:59
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
حرب القوقاز كما يحلوا للبعض تسميتها , حلقة لا أكثر في سلسلة طويلة متصلة ستكتمل بها ملامح الوجه القاتم للقرن الحادي والعشرون , بداية بأحداث الحادي عشر من سبتمبر , ومرورا بأحداث أفغانستان والعراق , وليس انتهاء بما يحدث وسيحدث اليوم وغدا من أحداث خطيرة في كل مكان من العالم , مؤكدتا ما سبق واشرنا إليه من نظرة مستقبلية لحتمية الصراع التاريخي على الهيمنة والسيادة الدولية , وذلك لتشكيل البناء الايديوبوليتيكي للقرن الحادي والعشرون , والذي بدوره سيكون المحرك التوربيني المستقبلي للهيمنة الجيواستراتيجية على العالم , وهو أمر يحدث في اغلب الأحيان مع مراحل الالتقاء والافتراق الزمني للتاريخ , وذلك بهدف تشكيل معالم خارطة المرحلة القادمة لعوالم ما بعد الفوضى السياسية , الناتجة عن ذلك الشرخ الزمني في حركة التاريخ السياسي , مؤكدين على أن ما يحدث اليوم على الصعيد الدولي, هو نتاج طبيعي لصراعات الهيمنة العالمية , والتي لابد أن تحدث لتوطيد أسس الاستقرار فيما بعد , وذلك لنيل المكانة الرئيسية والقيادية على مسرح السياسة الدولية خلال هذا القرن 0
وتعد جغرافية منطقة القوقاز , وهي المنطقة الجبلية الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود , وتقسمها جبال القوقاز وتتشارك فيها الجمهوريات الجنوبية لروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان , واحدة من أهم مناطق التنافس الجيواستراتيجي خلال القرن المنصرم وبالطبع القرن الحالي , وذلك لما تمثله من أهمية بالغة لكلا القوتين الروسية والأميركية , وغيرها من القوى الراغبة في الهيمنة , وتتشارك معها تلك الأهمية الجيواستراتيجية خلال هذا القرن , كل من شبه جزيرة البلقان وهي منطقة تاريخية جغرافية تقع في الجزء الجنوبي الشرقي لقارة أوربا , وتضم كل من ألبانيا وكوسوفو وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكرواتيا ومقدونيا واليونان والجزء الأوربي من تركيا , ويعتبر البعض من كلا من رومانيا وسلوفينيا ومولدافيا من مجموعة دول البلقان بالرغم من عدم وقوعها في شبه الجزيرة بسبب روابطهما التاريخية والسياسية مع الإقليم , كذلك القارة الأسيوية وعلى وجه التحديد منطقة الشرق الأوسط النفطية 0
وقد تناولنا في أطروحات سابقة الأهمية الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكية للقارة الأسيوية , والتي تعتبر من نواحي عديدة الطريق السهل والسريع للتربع على دفة الســـيادة العالمية , نظرا لما تملكه من مقومات جيواستراتيجية وجيوبولوتيكية تؤهلها لتكون الكنز الضائع للعديد من الطامحين للوصول الى دفة الهيمنة الدولية والسيادة على العالم خلال القرن الحادي والعشرون – انظر لنا دراسة الامبراطورية الاميركية وإستراتيجية السيطرة على النفط الأسيوي _ , أما منطقة القوقاز وهي المعنية من خلال هذا الطرح , فتعد أهميتها المستقبلية بالغة وخطيرة ليس لروسيا وأميركيا فقط , بل هناك دول أخرى تتشارك معها ذلك الهاجس الجيواستراتيجي والجيوبوليتيكي , كإيران وتركيا على سبيل المثال لا الحصر , وتبرز خطورة وأهمية هذه البقعة من العالم بالنسبة لتلك الدول وغيرها , من خلال جغرافيتها المميزة , والتي تفصل بين قارتي أوربا واسيا , وكذلك مكانتها الاستراتيجية الحساسة , والديموغرافية الأثينية العرقية المتنوعة , وكأرض لعدد من الصراعات والحروب التنافسية على الهيمنة بين الإمبراطوريات الثلاث العثمانية والفارسية والروسية ، والتي أسفرت عما يسمى حروب القوقاز في القرن التاسع عشر 0
ومن ذلك المنطلق وغيره فقد اعتبرت منطقة القوقاز بقعة مهمة للغاية لفرض الهيمنة على خارطة الشطرنج الدولية منذ قرون خلت لعدد من الإمبراطوريات , وزادت أهيمتها الجيواستراتيجية بظهور المتناطحين الكبار من جديد خلال القرنين العشرون والقرن الحادي والعشرون – أي – روسيا والولايات المتحدة الاميركية , وعليه فان منطقة القوقاز ستمثل خلال السنوات القليلة القادمة احد أهم بيادق اللعبة العالمية للهيمنة والسيادة الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكة على العالم 0
فأما بالنسبة لروسيا فتعد هذه المنطقة ذات أهمية بالغة كونها تمثل البعد القومي والجغرافي للامتداد السوفيتي السابق , والذي تعتبر روسيا اليوم الوريث الشرعي له , كذلك تعد منطقة القوقاز بالنسبة لروسيا قنطرة عبور للوصول الى مياه المحيط الهندي , وخصوصا مع ( الحرمان الروسي من النوافذ الساحلية التي فقدتها مع استقلال أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وأرمينيا ، فإن روسيا غير مستعدة للتضحية بأي قدم بحري، حتى ولو كان على بحر مغلق كبحر قزوين، ولجمهورية فقيرة مثل جمهورية داغستان ) , كذلك فان لمنطقة القوقاز أهمية اقتصادية بالنسبة لروسيا لا تقل أهمية عن البعد القومي والجغرافي , وتتمثل من خلال محاولات السيطرة على منطقة بحر قزوين , ( فتدفق النفط في منطقة بحر قزوين يجعل روسيا مستعدة - في سبيل إبقاء الأراضي في الجنوب كافة تحت سيطرتها- لدفع "أي ثمن"، خاصة في ظل التوغل الأمريكي – الأوربي في القوقاز وآسيا الوسطى، تحت عباءة شركات الاستثمار البترولية ) 0
كذلك فان روسيا التي عادت الى الحياة من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق, وبدأت بشكل قوي وصحيح لإعادة مكانتها الدولية على خارطة الشطرنج العالمية , لن ترضى مطلقا احتواءها من قبل خصمها التقليدي – أي – الولايات المتحدة الاميركية من خلال بعض دول القوقاز المنجذبة للقطب الاميركي , والنافرة من البيت الروسي كجورجيا وأرمينيا وأذربيجان , كما أنها لن تتنازل مطلقا عن نفوذها الاستعماري القيصري الذي امتد لحوالي الثلاثمائة سنة في القوقاز واسيا الوسطى بكل سهولة لخصم تعده العدو الأكبر لنفوذها الجيواستراتيجي العالمي , كما أن روسيا لن تسكت أبدا على التوجه الموالي للغرب في الاقتصاد , والموقف ألانتقادي الفظ فيما يتصل بمعاهدات التكامل مع كومنولث الدول المستقلة من قبل بعض أطرافها النافرة كما فعلت أوزبكستان و كازاخستان وتركمانستان على سبيل المثال لا الحصر, إذا ما أرادت الاستمرار في خططها الرامية لاستعادة مكانتها الدولية من جديد , فذلك يمثل تهديدا خطيرا لأمنها القومي وطموحاتها المستقبلية , ويزيد مخاطر الطوق الاميركي عليها في المستقبل 0
وقد لاحظ الكثير من المراقبين الدوليين , وخصوصا خلال السنوات 2004 – 2008 , أن الولايات المتحدة الاميركية تتوجه بشكل واضح ومباشر في خططها المستقبلية , نحو احتواء الدب الروسي من جديد , بالرغم من نفيها القاطع لذلك التوجه في أكثر من مرة , وقد اعتبرت روسيا خطط الولايات المتحدة الاميركية لنصب الدرع الصاروخي الأميركي في شرقي أوروبا , ورفض انضمامها الى منظمة التجارة العالمية , والمحاولات الاميركية المتكررة لاقتصاص ريش الهيمنة والنفوذ السوفيتي السابق والروسي اليوم من أجنحتها الجيواستراتيجية وخصوصا في منطقة القوقاز والدول السوفيتية المستقلة , واحدة من تلك الخطط العدوانية الرامية لتهديد أمنها القومي واحتواء قوتها وتطويق نفوذها 0
أما بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية وباختصار شديد , فان منطقة القوقاز وخصوصا بعد عودة الامبراطورية الروسية الى الواجهة منذ العام 2001 وحتى اليوم " عهد روسيا بوتين - ميدفيديف " , وارتفاع أسعار النفط , والإحساس الاميركي بانسلال الهيمنة العالمية من بين أصابعها على حساب نظام الكثرة , او البولياركي خلال القرن الحادي والعشرون , فهي تطمح للسيطرة على هذه المنطقة بهدف إحكام الطوق على روسيا لجعلها تختنق بأنفاسها داخل حدودها ، هذا من جهة ، أما من جهة أخرى فإنها تسعى لتسهيل سيطرتها على نفط آسيا الوسطى- بحر قزوين , - انظر , جلسات مجلس النواب الاميركي التي تناولت المصالح الاميركية في جمهوريات أسيا الوسطى , لجنة فرعية عن أسيا والمحيط الهادي , لجنة البيت الأبيض للعلاقات الدولية , واشنطن 12 / فبراير / 1998 م - , وقد اقر الكونغرس السادس بعد المائة مرسوم إستراتيجية طريق الحرير في العام 1999 م , وذلك بهدف تعديل المساعدة الخارجية الصادر في العام 1961 م للاستحواذ على دعم يخدم الاستقلال الاقتصادي والسياسي لبلدان جنوب القوقاز واسيا الوسطى 0
وفي مقال نشرته صحيفة صنداي تلغراف , كتب الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن إدوارد لوتواك مقال قال فيه : ( إن لدى الاتحاد الروسي كل المقومات التي تجعل منه قوة عظمى وهي نخبة حاكمة مصممة , وترسانة نووية ضخمة , وقوات مسلحة كافية جرى الآن تحديثها , وجهاز مخابرات أعيد إحياؤه , وأضاف أن عودة روسيا لممارسة القواعد الخطرة لسياسات القوى العظمى ترغم كل الدول الأخرى على تغيير سلوكها, مشيرا إلى أن من سوء الطالع أن هذه ليست لعبة , والمشاركة فيها ليست طوعية, ومضى إلى القول إن القرار الروسي القاضي بنبذ "القوة الناعمة" لصالح القوة العسكرية الباطشة سيكون له تأثير مباشر على أوروبا وذراعها العسكري المتمثل في حلف الناتو ) وهذا ما يؤكد المخاوف الاميركية المتكررة , والتي تدفعها لإحكام السيطرة على الامبراطورية الروسية بشكل او بآخر 0
المهم في الأمر بان حرب القوقاز وان هدأت قليلا , بإعلان الرئيس الروسي الانسحاب غير الكامل لقواته من جورجيا , إلا أنها لم تنتهي فعليا بعد , - وبتصوري الشخصي – فإنها لن تنهي أبدا , فهي مجرد معركة في حرب القرن بين النسر الاميركي والدب الروسي , كذلك فان امتدادات هذه الحرب وما خلفته وراءها من انعكاسات سلبية , على عدد من الجوانب في العلاقة بين روسيا وأميركيا من جهة , وروسيا وأوربا من جهة أخرى , ستؤثر في تطور مراحل الصراع وسرعته خلال السنوات القليلة القادمة , مما ينبأ بتصعيد خطير بين الإمبراطوريتين المتنافستين , وشرخ اكبر في العلاقات الدولية , وهذا يعني بكلمات أخرى، أن حرب أوسيتيا الجنوبية “ ليست عبثاً لا طائل تحته”، كما قالت “فايننشيال تايمز”، بل هي في الواقع ( شجرة تختفي وراءها غابة كاملة من مشاريع الحروب والمجابهات.. وبالطبع المؤامرات ) المستقبلية المخيفة , وهو ما سيتأكد للعالم قبل انقضاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرون 0
وختاما فان الفترة من 2009 – 2010 ستحدد ملامح العلاقة بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرون , ومنها الى ملامح الصراع الجيواستراتيجي للهيمنة على العالم خلال القرن بأكمله , والذي ستفعل صورته من خلال العوامل التالية :- استمرار الولايات المتحدة الاميركية في تحدي الرغبة الروسية وتهديد أمنها القومي , والإصرار المتكرر لرفض عضويتها في منظمة التجارة العالمية , واحتمال تقليص العلاقة الروسية مع حلف شمال الأطلسي بسبب أحداث أوسيتيا وجورجيا وامتداداتها , وردود الأفعال الروسية على الدرع الصاروخي الاميركي في شرق أوربا , وتفعيل التهديد الروسي النووي لبولندا , ومن سيتبعها من حلفاء الولايات المتحدة الاميركية بسبب نشر بطاريات الدفاع والهجوم المشترك , والذي يضع مصداقيتها وصحة تهديداتها المستقبلية في موقف لا تحسد عليه , وتصميم الإقليمين الانفصاليين " أبخازيا واوسيتيا الجنوبية على الانفصال عن جورجيا , وانضمام أوكرانيا وجورجيا لحلف شمال الأطلسي , كذلك من خلال التوجهات الاميركية الروسية نحو سباق تسلح عالمي خطير غير مسبوق , لذا فان الشهور القادمة ستكون حافلة بالأحداث الخطيرة والمتغيرات المتسارعة , والتي تنبأ بحرب باردة جديد لا محالة منها , مهما حاول العديد من الأطراف الدولية نفي ذلك او حيلولة دونه
#محمد_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟