يبدوا أن موضوع الفدرالية هو الشغل الشاغل في هذه الأيام للقيادات و النخب السياسية في العراق بل تجاوزها الى عموم الشارع العراقي و الذي يعيش الآن حالة مخاض فكري سياسي و أجتماعي بعد سنين الكبت و القمع و التعتيم التي عاشها في ظل النظام البائد .
أن الخطورة تكمن في هذا الأنتقال السريع و الغير مبرمج و الغير مدروس بل و ربما ( المقصود ) للخوض في هذا الموضوع الحساس الى الشارع العراقي الغير مؤهل أصلاً للتعامل مع هذه المستجدات المتسارعة على الساحة السياسية في العراق .. حيث يفتقر هذا الشارع الى الثقافة السياسية التي تؤهله للخوض في مثل هذه الأمور أذ أن الأنطباع السائد لدى أغلب العراقيين هو أن الفدرالية تعني تقسيم العراق و تجزئته و تحويله الى دويلات منفصلة .. و قد تولد هذا الأنطباع بسبب أنعدام الثقافة السياسية السليمة لدى قطاعات واسعة من الشعب نتيجة لسياسة الأعلام و التثقيف الموجه التي أتبعها النظام السابق و التي كان يصور بموجبها جميع الأساليب الحديثة في الحكم كالديمقراطية و الفدرالية و التي تتعارض مع سياسة حكم الفرد و سيطرة الحزب الواحد الشمولية التي أتبعها طيلة ثلاثة عقود على أنها أفكار دخيلة و مدسوسة و الغرض من طرحها هو تقسيم العراق و تفتيته و تسليم مقدراته الى الأعداء و هي الصورة التي دأب النظام على ألصاقها بالمعارضة العراقية في الخارج و التي كانت أغلب فصائلها تتبنى مثل هذا النوع من الطروحات .. هذا بالأضافة الى أن بعض الجهات المستفيدة من ثقافة الأنصياع و الأنقياد التي تسود الشارع العراقي ترى لأسباب عديدة أيديولوجية و مادية أن أتباع نماذج جديدة في أسلوب الحكم و أدارة البلاد يشكل خطراً يهدد و جودها لذا فهي تدعوا الى رفض الفدرالية و تنعتها بشتى النعوت لتشويه صورتها أمام الشارع العراقي الذي يراد له أن يبُت الآن في مثل هذا الموضوع الخطير وهو لم يفق بعد من سنوات التعتيم و التجهيل المتعمد أيام حكم نظام العفالقة المقبور .
لذا فالدعوة لأستفتاء عموم الشعب العراقي على موضوع الفدرالية هي دعوة غير صحيحة بل و في غير محلها لأن أكراد العراق قد أختاروا الفدرالية خياراً مصيرياً لا رجعة عنه مهما كلفهم الأمر و هذا حق من حقوقهم المشروعة و قد عبّر أحد المسؤولين الأكراد عن مثل هذا التوجه بقوله قبل أيام لأحدى الصحف " أذا رفض الأخوة العرب في العراق موضوع الفدرالية في أقليم كردستان فسنعلنها نحن من جانب واحد " كما أن الثقافة السياسية للشارع العراقي لا تسمح كما أسلفنا بأستفتائه على هذا الموضوع لأن النتيجة محسومة طبعاً بالرفض المبني على جهل سياسي لدى غالبية العوام بهذا الموضوع وهذا سيؤدي بدوره الى أحتقان الوضع بين عرب العراق و أكراده أو الى قبول الأكراد مرغمين و مكرهين على قبول الأمر الواقع ببقاء الوضع على ما هو عليه مما سينذر بأنفجار الوضع و أثارة الموضوع من جديد بعد فترة و الذي قد يحدث لأتفه الأسباب و هذا ما لا نريده و لا نتمناه بل و نعمل الآن جاهدين على تجاوزه و تجنبه لأننا نريد أن نعالج أمراض الماضي لا أن نزيدها سوئاً و ذلك من أجل بناء عراق سليم معافى و خال من الأمراض و العقد .
أن الكلام الفصل في مثل هذه الأمور يجب أن لا يترك لأناس عاديين تنقص أغلبهم الثقافة و الخبرة السياسية الضرورية لحسم مثل هذه الأمور .. فحتى أرقى دول العالم و أكثرها ديمقراطية في أيامنا هذه لم تترك حسم القضايا المصيرية فيها لعامة الناس و أنما ترك حسم هذه الأمور حينها الى النخب التي تحسب لكل شيء حسابه و تفكر في أنعكاسات أي قرار على حاضر البلاد و مستقبلها .. و خير دليل على هذا الكلام هو ما جرى و يجري الآن في بريطانيا من لغط بخصوص العراق حيث أتخذت النخب السياسية في البلاد قراراً بالمشاركة في حرب تحرير العراق في حين و قفت نسبة كبيرة من الشارع البريطاني بالضد من هذا القرار رغم أن القاصي و الداني يعلم بأن هذه الحرب ستنقذ شعباً بأكمله من نظام دكتاتوري أستبدادي مقيت قل نظيره في تأريخ البشرية و رغم ما ستجنيه بريطانيا من مكاسب أقتصادية و تجارية في المستقبل من ناحية تفضيلها على الآخرين من قبل العراقيين عند الحديث عن المشاريع الصناعية و الأقتصادية و عقود النفط .. فرجل الشارع و المواطن العادي لا يفكر بأبعد من مدى نظره العادي و كل أهتماماته آنية و تخص اليوم الذي يعيشه و كم سيدفع فيه ضريبة للدولة .. أما من أين توفر له الدولة سبل العيش الرغيد و تخليص الدول و الشعوب المنكوبة من طغاتها فهذا ليس من شأنه و ليس ضمن جدول أولوياته و أهتماماته .. أن عرض موضوع الفدرالية للأستفتاء على عموم الشعب و في هذا الوقت بالذات هو خطأ جسيم ستكون نتائجه و خيمة على عموم الشعب العراقي و سيؤدي الى توسيع هوة الخلاف بين أكبر قوميتين في العراق و هم العرب و الأكراد لذا يجب ترك حسم هذا الموضوع للنخب الواعية من الجانبين لأنها الأدرى من غيرها بمستقبل البلاد و بخيرها .
أن الفدرالية بالنسبة للأكراد ليست مجرد كلمة يرددونها و أنما هي فكرة تتجسد فيها طموحاتهم و أحلامهم التي طالما حلموا بتحقيقها و هي طموحات و أحلام مشروعة مليون بالمئة كفلتها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية لكل المجاميع البشرية التي لها خصوصية معينة .. لكن و للأسف فأن عنصرية البعض و شوفينية البعض الآخر حالت دون أن تنعم بعض الشعوب كالأكراد و الأرمن بل و حتى العرب كما في فلسطين بالعيش الهانيء و الرغيد في أوطانها و على أراضيها .. فالأكراد و التركمان و الآشوريين في العراق كما العرب من حقهم أن يعيشوا حياتهم و يمارسوا تقاليدهم الخاصة بالشكل الذي يرتأونه و هذه الخصوصية لكل مجموعة من البشر ميز الله بها الشعوب بعضها عن البعض الآخر فقد قال سبحانه في كتابه الكريم ( و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا ) لا ليقتل بعضكم البعض و يُنكّل به و ينتهك حرماته و يسبي نسائه و يشرد أطفاله و يلغيه من الخارطة البشرية .. و أضاف جلّ و علا ( أن أكرمكم عند الله أتقاكم ) لا أكثركم دموية و وحشية و ظلماً و أنتهاكاً لحقوق الغير .. فلو كان الله سبحانه و تعالى يريد لجعل بقدرته كل الناس يتشابهون مع بعضهم البعض و يتكلمون نفس اللغة و لهم نفس العادات و التقاليد .. لكنه سبحانه أراد أن يجعل لحياة الناس معنى و أراد أختبار نوايا الأنسان تجاه أخيه الأنسان عندما يكون أخيه في الأنسانية لكنه مختلف عنه في القومية أو العرق أو الدين أو اللغة و للأسف نجح البعض في هذا الأختبار و فشل البعض الآخر و كل له حسابه عند رب العالمين .
أن الفدرالية تكفل لكل القوميات التي تجمعها دولة عصرية واحدة أن تعيش حرة مكفولة الحقوق مع الحفاظ على وحدة الأرض و الوطن دون تمزيق أو تجزئة و هذا ما نلمسه في أغلب دول العالم المتحضر كسويسرا مثلاً التي تعيش فيها أربع قوميات تجمعها دولة واحدة و لكن لكل قومية لغتها الخاصة و أقليمها الخاص الذي يتميز ببعض الخصوصية عن الأقاليم الأخرى و يعيش الجميع منذ فترة متحدين متماسكين لا يفرقهم شيء أمام أعتى الضروف و التحديات .. كذلك الحال في ألمانيا التي تتكون من مجموعة ولايات لكل منها علمها الخاص و مناسباتها و عطلها الخاصة دون أن يؤثر ذلك على كون الشعب الألماني شعب واحد يجمعه علم واحد و لغة واحدة و أن أختلفت اللهجات .. وغيرها كثير كثير من الأمثلة التي لا مجال لذكرها الآن فهل نحن بأفضل من هؤلاء ؟ بالتأكيد لا .. و أن كان هناك من أشكالية تحول دون تطبيق الفدرالية في بلدان المنطقة بشكل عام و في العراق بشكل خاص فهي في البعض أن لم نقل في الغالبية من شعوبنا التي تعاني من جهل سياسي رهيب و ليس في الفدرالية نفسها كونها طبقت و بنجاح في الكثير من دول العالم و على كثير من الشعوب مسيحية كانت أو أسلامية .. شرقية أو غربية .. لذا علينا أولاً أصلاح مجتمعاتنا الغارقة في الجهل و الضياع قبل أن نسمح لمن هب و دب و من هب و لم يدب بالتنظير في الأمور المصيرية و لنتمكن من رؤية العالم بشكل أفضل .
الغريب و المؤلم هو أن الفدرالية التي هي أحدى أهم الشروط التي يتطلبها أستقرار العراق الجديد و بالتالي ترسيخ الديمقراطية فيه تجابه برفض عنيف و غريب و غير مدروس من قبل بعض الجهات الأساسية و المهمة في الشارع العراقي و التي تبني موقفها هذا على أساس فهم خاطىء و وعي و أدراك محدودين .. فقد قال شيخ تابع لأحد التيارات الدينية التي أفرزها سقوط النظام قبل أيام في مظاهرة خرجت في شوارع البصرة :
" أن الفدرالية هي مخطط أسرائيلي صهيوني الغرض منه تقسيم العراق "
و من حق هذا الشيخ أن يقول مثل هذا الكلام .. فالرجل لم يسمع يوماً بالفدرالية ولا يعرف أساساً ما معناها و لا من أين جائت التسمية أصلاً لأن الثقافة الوحيدة التي يمتلكها هي ثقافة عبادة و تقديس الفرد و تأليه النماذج الجاهزة التي ورثها عن الآباء و الأجداد سواء كان ذلك و كما ذكرت آنفاً بسبب التثقيف الشمولي الموجه للنظام المقبور أو عن طريق الثقافة المتوارثة و المبنية على تقديس رجل الدين و شيخ العشيرة بأعتبارهم ظل الله على هذه الأرض و بما أن نسبة كبيرة من رجال الدين و شيوخ العشائر ترفض الفدرالية لأسباب خاطئة طبعاً فالغالبية من الشارع العراقي الذي ينقاد خلف هؤلاء و منهم على سبيل المثال ذلك الشيخ يرفض الفدرالية و بشدة ( دون أن يعلم لماذا ! ) فجهله بها يجعلها في نظره جسماً غريباً على الجسد العراقي و ليس هذا فقط بل نراه يرمي الأتهامات ذات اليمين و ذات الشمال لتطال أول ما تطال أسرائيل كونها الشمّاعة الجاهزة دوماً لنرمي عليها فشلنا المستمر في التواصل مع الحياة و في العيش على هذه الأرض كأناس طبيعيين و كأننا ملائكة هبطت من السماء لا نخطيء و نفهم كل شيء و لا يأتينا الباطل لا من أمامنا و لا من خلفنا !
أن خيار الأكراد في الفدرالية هو خيار أغلب الواعين من أبناء الشعب العراقي كونها تمثل الحل الوحيد و الأمثل لعراق مستقر و موحد لذا يجب أحترام هذا الخيار الوطني للأكراد و الذي أثبت بحق وطنية و عراقية الأكراد كونهم أختاروا البقاء ضمن العراق الفدرالي الموحد و حكومته شبه المركزية التي ستسيطر عليها في الأغلب أكثرية عربية سنية و شيعية كونها تمثل أغلبية الشعب العراقي .
و للحديث بقية .........
مصطفى القرة داغي