أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نجيب غلاب - دور الوعي القبلي التقليدي والمناطقي في تخلف اليمن















المزيد.....


دور الوعي القبلي التقليدي والمناطقي في تخلف اليمن


نجيب غلاب

الحوار المتمدن-العدد: 2385 - 2008 / 8 / 26 - 04:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الوعي القبلي وعي يعلي من الذات القبلية، ويقدس تقاليدها وأعرافها، وينفي كل جديد مناقض لقوة تماسك القبيلة مهدد لهيبة الشيخ ونفوذه، ويرفض كل ثقافة مغايرة لثقافة القبيلة المنتجة له حتى لو كان فيها منفعة للناس، وأشد المنافحين عن القبيلة هم النخب القبلية المستفيدة من تجهيل أبنائها، فالشيخ يريدها ذات مصمتة تقدس وعيها، لذا فأن الشيخ يعمل على عزلها حتى تظل عصاه لإرهاب الدولة في ظل صراعه المحموم على غنائمها.
وتشكل منظومة القيم والأعراف والعادات القبيلة القوة التي تحافظ عليها، فهي أساس هيمنة الشيخ ومصدر قوته، وتلك المنظومة تؤسس لتماسك الجماعة وترسخ قوتها وتنتج وعيها، وهي أصل البقاء وجوهر القبيلة، وفاعلية الحراك القبلي الذي يوظفه الشيخ في الصراع لتحقيق مصالحه معتمد كليا عليها، وخوفا من اكتساح الجديد بحكم التحول والتغير المجتمعي يفكر الشيخ بتفعيل ثقافة القبيلة من خلال تدريسها بالمعاهد والمدارس وعقد الدورات التدريبية، ومن خلال زج القبيلة في الصراعات لتفعيل وعيها بشكل دائم.
وأشدّ مخاطر وعي القبيلة أنه يحاصر الفرد ويتجاوزه لصالح المجموع القبلي ـ الذي يتركز في نهاية الأمر في جعبة الشيخ ـ والفرد يتحول إلى بيدق ومرافق غبي في معارك الشيخ وصولاته وجولاته، حتى أن الفرد الذي تلقى معارف حديثة في ظل هيمنة الشيخ وضعف الدولة يظل مرتهنا لوعيها فمصالحه مازالت تمر من خلال القبيلة وحقوقه موجودة بفعل حماية القبيلة، وهذا جعل مفارقة القبيلة في اليمن يمثل فقدان للذات وضياع للكرامة بل للوجود، لذا فوعي القبيلة المتأصل وواقع الحال يجبر الفرد ويقهره من خلال دفعه باتجاه التماهي مع النسق الثقافي الحاكم للقبلية، والذي يغيّب فرديته وإنسانيته في بنيته، ويصبح العضو القبلي متمركزا حول الذات القبلية وتصبح قيم القبيلة مقياس لكل شيء من حوله.
في الراهن أصبحت القبيلة وإعادة أنتاج وعيها مهما جدا لدى النخب المشائخية بفعل صراعها مع القوى الجديدة في المجتمع والتي تحاول تجاوز الوعي القبلي لصالح وعي حديث يرى في الدولة وقيمها مسألة حتمية للتوافق مع العصر وتحولاته، ولم تجد القوى التقليدية القبلية لحماية نفسها ووعي أبناء القبيلة إلا بتجهيل القبيلة ومحاصرة كل تحول لصالح الجديد، فالملاحظ رغم أدعاء الشيخ أنه أنقلب على الإمام لتجهيله للشعب واستغلاله لأبنائه إلا أن التعليم ظل محرما على أبناء القبيلة وظل الشيخ أمام جبار متعصي بوعي القبيلة وجبروت الدولة، والأخطر أن الشيخ بوعيه القبلي احتل الدولة وحاصر وقاتل من خلالها القوى الجديدة، وأذا ساعد القبيلة من خلالها فالمال والنفوذ أما العلم فخطر كبير وأغلب المدارس التي أسست في القبيلة كانت بفعل قوى حديثة تربت في المؤسسة العسكرية وأغلبهم من فئة الفلاحين وقد رأى فيهم الشيخ ألد أعدائه، الشيخ لا يفقه من الدولة إلا غنائمها لذا فقد حرفها باتجاهات مضادة لطبيعتها وجعلها في صراعه منبع لكل هيبة ومنتج للنفوذ وأداة مرسخة للقبيلة ووعيها في الوقت نفسه، ومؤخرا مع التحولات السياسية وإدارة الصراع من خلال الجديد أصبحت التكوينات المدنية وسيلة فاعلة لبعث روح القبيلة وتعمل النخب القبلية على تحويل الأشكال المدنية إلى قوة مدمرة للجديد وقوة فاعلة في إعادة أنتاج وعي القبيلة من خلالها.
ورغم المحاولات الجادة لتحرير الدولة وفك ارتباطها من الوعي القبلي إلا أن قوة القبيلة والتحام نخب قبلية بالوعي الأصولي جعل من التحولات الجديدة في بنية الدولة يعيد إنتاج وعي القبيلة حتى في المناطق التي تحرر أفرادها من هيمنة القبيلة كذات مصمتة منغلقة يحكمها شيخ، تم تفعيل الوعي القبلي في تلك المناطق من قبل نخب جديدة عجزت في ظل هيمنة وعي القبيلة على الدولة من تحقيق مصالحها بالأفكار الحديثة فحصل انحراف لصالح وعي قبلي ولكن بروح العصبية المناطقية.
وأصبحت النخب الفاعلة في المناطق الأقرب إلى روح المدنية تبحث عن نصيبها في الثروة والسلطة من خلال الجغرافيا أو الجغرافيا والمذهب، وهذا التحول من قبل النخبة في تصوري هو أما نتيجة سطحية الفكر الجديد في وعيها أو نتيجة تغليب مصالحها الأنانية، أو أن ذلك التحول كان طبيعي في ظل هيمنة نخبة تدير الدولة بوعي القبيلة مما جعل الصراع السياسي مركز على غنائمها، مما جعلهم مضطرين للحفاظ على المصالح أن يخلطوا في صراعهم بين وعي القبيلة ووعي الدولة المشوه، وبرز نتيجة هذا التداخل مشاريع مشوشة فعلى مستوى الخطاب تحمل قيم حديثة وعلى مستوى الفعل يتحرك القادة وهاجسهم مصالحهم الأنانية، وتحقيق المشاريع يتم من خلال تفعيل العصبية كما هي متجسدة في وعي القبيلة ولكن بنزوع جغرافي.
والمتابع لابد ان يلاحظ أن المناطق التي ضعف فيها التنظيم القبلي كانت هي المتبنية للجديد ولكنها لم تتمكن من الإمساك بالقوة السياسية وعندما حاولت حتى بالعنف تم مقاتلتها بالقبيلة وبالأصولية المتطرفة ولم تجد أمامها في لحظة ضعف إلا البحث عن ذات تقليدية تحميها خصوصا أن مواجهتها تم بوعي القبيلة الذي أهانها ووصمها بالجبن والضعف وتعامل معها كملحق ومحل للغنيمة أو تم النظر إلى أبنائها كمستخدمين في المؤسسات الحديثة التي يجهل القبيلي كيف يديرها أو أنه غير راغب في بذل الجهد لأنه لا يتقن إلا فن القتال.
وهنا تم تفعيل الروح المناطقية أو الطائفية ولكن بوعي القبيلة، أي إعادة بعث روح عصبية ولكنها هنا لم تعد مرتهنة لمنظومة من القيم القبلية التاريخية التي كونتها القبيلة للحفاظ على كينونتها، ولأنها منتج نخبوي فقد حكمتها قيم انتهازية تعبوية ضد الآخر ولصالح قيادات مسكونة بالأنانية ومجروحة في العمق، ومتألمة لأنها فقدت عذريتها الفكرية لصالح قيم مناقضة لشعاراتها وأصبح اعتمادها على وعي القبيلة المتجسد في المنطقة أو الطائفة حاجة ورجس في الوقت نفسه وما يعمق من الألم إلى درجة فقدان الإحساس أن نضالها في جوهره لا هدف له إلا استغلال عاطفة أبناء المنطقة لتحقيق المصالح الخاصة للنخب.
وهكذا يتم تزييف وعي الناس بالمشاركة بمجرد نيل القيادات نصيبها، التي بدورها كلما تضخمت مصالحها عملت جاهدة على تقوية سيطرتها على المنطقة أو الطائفية من خلال بعث قيم التعصب التي تؤسس لكراهية الآخر ونفيه وتضخيم دوره في استغلال المنطقة وأبنائها، والآخر هنا ليس شخص أو فكر بل منطقة أو طائفة أخرى، مع ملاحظة أن الزعماء الفعليين في منظومة الدولة يحظون بالقبول، فالنخب المناطقية مهتمة بالزعيم ومن يدور حوله مادام والزعيم يحقق مصالحهم، والزعيم هنا هو سياسي محترف يدير مركز قوى في المركز، لذا فأن الآخر هو منطقة أخرى بكاملها أو منطقة الزعيم وقبيلته لا الزعيم وأعوانه، بل أن المناطق المتنافسة من خارج الدائرة الحاكمة والتي تحصر في نخبة ضيقة تصبح في حالة عداء ويصبح همّ النخب المناطقية لترسيخ وجودها هو بث كراهية لكل قوى منافسها لها من المناطق الآخرى وحتى من منطقتهم. فمثلا قد تجد أخواني مناطقي يكره حاشد ويعتبرها سبب تخريب الدولة لكن أسرة الشيخ بالنسبة له نماذج نقية وهم صناع الثورة وحماة العقيدة.
ولابد أن نؤكد أن الفرد في المناطق التي لا يكون الشيخ فيها قويا عادة ما يحلم بالدولة ويبحث عن أي مشاريع تؤسس للدولة ولكن هيمنة النخبة بوعيها القبلي على الدولة والاقتصاد والثقافة أصبح عائقا أمام تحقيق طموحاته، وأصبح الفرد غير قادر على تحقق مصالحه في الغالب إلا عبر النخب، ومع الوقت تتضخم قوة النخب ليصبح الولاء للمنطقة متجسد في مجموعة من الأفراد يتم توزيع موارد الدولة من خلالهم، مع ملاحظة أن للقادة في كل منطقة وسطاء وهؤلاء هم الجهاز الإعلامي لبث ثقافة العنصرية المناطقية وتحديد الأعداء وما ينفطر له القلب أن أغلب الوسطاء قوى متعلمة ومبدعة في تدمير وعي الناس المدني.
وعندما يتم تفعيل وعي القبيلة بالجغرافيا فأن ذلك يولد انتهازية مقيتة لدى الأفراد وهذا جعل المنطقة الواحدة تعيش حالة من الصراع والكراهية المتبادلة بين قادتها وإفرادها، وهذا أفقد المنطقة الروح الجماعية الإيجابية وخلق لديها روح جماعية شريرة، وهنا لابد من التأكيد أن الفرد غالبا ما يكون محكوم على المستوى الشخصي بالقيم التي تحددها الأسرة، وتجربته الشخصية، والتعليم، وبقية من القيم الأصيلة في ثقافة المجتمع، مع ملاحظة أن الفرد في ظل هيمنة عصبية المنطقة متحرر ويملك إرادته في أغلب شئونه مقارنة بالقبيلي باستثناء الصراع السياسي فأنه أصبح محكوم بروح المنطقة، فمثلا الشخص قد يترك المنطقة ولم يعد مرتبط بها إلا من خلال الصراع على المصالح، ولان وعيه مزيف من قبل نخبة انتهازية لذا عند ممارسته لحقوقه في المدينة يظل مرتهن للوعي العصبوي. لتوضيح الفكرة مثلا عندما يرشح شخص من منطقة معينة في نقابة معينة فتجد أبناء المنطقة يرشحون أبن منطقتهم حتى وأن كان ضد مصالحهم، والمرشح لا يجد من أدوات لإقناع أبناء منطقته إلا وعي القبيلة.
وإذا كان الوعي القبلي في القبيلة مضاد للدولة والدولة محل للغنيمة ويرى في المجتمع المدني نقيض لوجوده ويجعل قوة القبيلة تتركز في إرادة شيخ يوظفها لتعظيم قوته فأن الوعي القبلي بروح الطائفة أو المنطقة يقتل الدولة والمجتمع المدني لصالح النخب الانتهازية، وأبرز مثال للوعي القبلي بروح المنطقة في الراهن يتجلى بوضح في المسألة الجنوبية.
وهنا لابد من ملاحظة مهمة فالسياسي في المركز مهتم جدا بالوعي القبلي لأنه يسهل مهمته فهو لم يعد محتاج للتعامل مع الناس وحاجاتهم ومتطلباتهم الحقيقية بل مع رموز القبيلة والمنطقة ومصالحهم، وهذه الرموز ولائها المطلق مركز حول السياسي لا حول الدولة وهذا يسمح للسياسي بتنفيذ أجندته ومصالحه الخاصة دون أن يلاقي أي حساب بل أن شرعيته في هذه الحالة مضمونة فالقبول والرضا يتم من خلال الزعامات القبلية او المناطقية.
ولتعميق الصراع في المنطقة يتم خلق روح القبيلة القديمة من خلال بعث مشايخ منافسين من قبل السياسيين المتنافسين على القوة السياسية، وكل سياسي في المركز يحاول بناء زعامة محلية لمواجهة منافسيه، وأحياء رميم الشيخ في أحد جوانبه يهدف إلى إضعاف القادة المتعنصرين للمنطقة الذين غالبا ما يكونوا من فئات جديدة لكنهم يتمتعوا بحيوية ونشاط في كسب الأنصار خصوصا من الانتهازيين ولا قيم تحكمهم إلا روحهم القتالية من أجل مصالحهم وبأي مبدأ حتى ولو كان يعني القذارة بعينها، لذا يتخوف منهم السياسي. بل أن بعض القادة العنصريين لديهم روح إجرامية في فرض هيبتهم داخل المنطقة ومقاومة كل من يتحدى زعامتهم وهذا ربما يشوه صورة السياسي في المركز، وهؤلاء لا يختلفون عن الشيخ التقليدي إلا ان شيخ التقليدي تضغط عليه الجماعة في تعامله مع أبناء القبيلة أن يكون ملتزم بقيم القبيلة، ولكن القبيلة قد لا تلومه أن دمر خصومه دمويا داخل القبيلة.
ودور الوعي القبلي بروح القبيلة التقليدية في المنطقة يخدم المناطقية لأن الوعي التقليدي للقبيلة يبعث في المنطقة وأبنائها قيم الوعي القبلي الذي ينفي الآخر بحسم ويحتقره ويعلي من شأن الذات ويقدس القوة وله قيم إيجابية تحفظ للجماعة تماسكها ويحدّ من النزوع الانتهازي لدى الأفراد العاديين...الخ وهذا يمنح الانتهازية المناطقية قيم تقوي من قيادة زعماء المنطقة للناس، ومن جهة أخرى فأن تعدد القيادات يخدم المركز لأنه يبث حالة من الصراع الداخلي ويشتت قوة الجميع ويجعل الجميع في حالة استسلام كامل للمركز.
ومع أعلاء الدولة من شأن الشيخ أصبح التنافس حادا على النفوذ داخل القبيلة الواحدة وأدخلها في صراع أضعف القبيلة وشتت طاقتها وجعلها مرتهنة للسياسي المحترف، وهذه اللعبة وأن أنتقدها البعض إلا أن بعض السياسيين يعتبرها ضرورية من أجل بناء قوة الدولة.
والقبيلة التقليدية تدمج الفرد في نسقها القبلي من خلال نسج بناء متماسك من القيم والمبادئ تعمل القبيلة بشكل دائم على بعثها وإحيائها ومقاومة نقائضها وجعل كل سلوك يتمحور حولها. وهذه القيم يتشربها الفرد من صغره ومع الوقت تصبح هي الحق المطلق، وما يتعارض معها يمثل شر لابد من تجنبه أو مقاومته، فالالتزام بالقوانين التي تصدرها الدولة مثلا مهما حملت من قيم إنسانية في حالة تعارضها مع قيم القبيلة فأن إتباعها في مقام العيب ونقص في خلق القبيلي، لذا تفضل القبيلة حل مشاكلها بوعيها القبلي أما أن كان الطرف الآخر غنيمة فأن الوعي يمتزج بالانتهازية القذارة وينسى الشيخ قوانين الدولة بل وينحر حتى القيم الأصيلة للقبيلة.
وسنجد مثلا أن الثأر رغم تناقضه مع كل القيم الإنسانية إلا أنه يمثل في الوعي القبلي قيمة أصيلة يعلي من شأنها الشيخ وتجعل العضو القبلي يندفع لدفع حياته لحماية قيمة مناقضة للقانون والنظام وللعقيدة، القبيلي الأصلي لا يقبل بالدولة ولا يهتم بمن يستغلها ويدمرها فهي لا تعنيه وفي المقابل هو على استعداد ان يدفع حياته ثمنا لعرف قبلي يؤسس للشر ويبيح سفك الدماء.
ولأن الوعي القبلي يهتم بما يرتبط بالقبيلة حتى لو تناقض مع الدولة أو مع أي قيمة إنسانية، سنجد الضابط الذي تربى داخل المؤسسة الأمنية وتلقى عملية تعليمة طويلة ويعمل في الدولة كحامي للقانون على استعداد ان يتنازل عن كل القيم التي تعلمها وعن مصالحة داخل المؤسسة لصالح النسق القبلي وقيمه، ويمثل قتل الراعي في البحث الجنائي في محافظة اب بمساعدة ضابط امن مثال واضح لهذه الفكرة، فالتمركز حول الذات القبلية جعلته يمنح هذه الذات ميزات وصفات وحسنات نافية للآخر ومقللة من شأنه إلى درجة الإلغاء.
إلى ذلك الحقوق التي يؤمن بها العضو القبلي هي حقوق القبيلة وأبنائها ، وهو لا يهتم بحقوق الآخرين بل لا عيب لديه في انتهاكها طالما يمتلك القوة، ويتم إعادة تثقيف القبيلة بشكل دائم بان القوة القبلية هي أداة نيل الحق، فالدولة وقانونها حالة طارئة على الوعي القبلي الراسخ، وتتحول الدولة إلى غنيمة ليس إلا.
الذات القبلية عندما تتمركز حول نفسها تنسى واجباتها تجاه الآخر وتجاه الدولة وتجاه الدين وتجعل من قيمها ورغباتها في المقدمة، وفي السلوك اليومي لا يهتم العضو القبلي كثيرا بالأضرار التي قد تلحق بالآخرين فلديه تجاهل كامل بحاجاتهم ومصالحهم وكرامتهم، وهذا ما يجعل النسق القبلي التقليدي مناقض للدولة وإذا سيطر على الدولة ينتج التخلف والظلم والفساد والتخريب.
مع ملاحظة ان هذا التمركز حول الثقافة التقليدية المتوارثة عبر الأجيال نتيجة أن الوعي القبلي يرى في ثقافة القبيلة منتهى الإبداع لذا فهو يرفض ان تنفتح او تتلاقح مع الثقافات القادمة من خارجها فيصبح ابن المدينة مثلا الغير متماهي مع نسقها ابن سوق وهذا المدلول تعبير عن تعالي ونفي واحتقار، ويصبح الالتزام للدولة مثلا فسالة وجبانة وضعف اما الالتزام بأعراف القبيلة فقمة الشهامة والمرجلة والشرف. وأكثر المنسجمين مع وعي القبيلة هو الأصولي، سنتناول هذه الفكرة نظرا لأهميتها في مقالة منفردة.
حتى المنخرطين في حياة المدينة من النخب القبلية أو ممن تلقى تعليم راقي كفئة الشيوخ يظل الانفعال مع الجديد نتيجة حاجة ولكن النسق الحاكم للوعي يظل هو الفاعل في نهاية الامر لذا تجده في فترة الصراع يتحيز ويقاتل في جانب القبيلة وينصر أبناء قبيلته حتى في حالات الظلم لذا فابن القبيلة على استعداد ان يحمي القاتل والمجرم من ابناء قبيلته ضد الآخر او الدولة.
في المقابل الوعي القبلي المتجسد في الجغرافيا لا يملك منظومة متماسكة قوية حامية للإفراد بل أن انتهاك حق الفرد يوظف لصالح النخب الانتهازية، كما أن النخب عندما تهان من قبل الآخر فأنها لا تحضا بأي قوة منظمة لحمايتها بل أن التشفي حتى من قبل الأفراد نتاج طبيعي لسلوكها الانتهازي، بل أن قيادات مناطقية جديدة تضخ خطاب ودعاية مدمرة ضدها لتحل محلها، ويضطر المهزوم للانقلاب على المنطقة وأبنائها ليتحول إلى فرد حاقد على كل شيء وهؤلاء هم الخونة المستعدين لبيع الذمم لقوي متمكن محلي أو خارجي. والبعض ينزوي داخل ذاته أو يبدأ في تبني خطاب أن كان مثقف لصالح الدولة والقيم الحديثة ويبدأ ببناء هالة مثالية حول نفسه ولكنه بمجرد أن تظهر أمامه مصلحه ينهار ويلهث ورائها ويقع في فخ المحترفين في معمعة الصراع السياسي ليتحول إلى قوة داعمة مناقضة للقيم التي كان يدافع عنها، وهنا يبدو أمام الناس كتابع منهزم توظف إمكاناته حتى بما يناقض أنانيته. وغالبا ما يصبح اللجوء إلى القيم الدينية خصوصا التي تتمحور حول الذات كالصوفية حل لمعالجة التناقضات وهروبا من واقع تعيس قاتل لكل أبداع ومن يلجأ لهذه الحلول هم من يملكوا قناعات حقيقية بالجديد لكنهم فعلوها بالوعي القبلي المناطقي ومع هزائمهم المتلاحقة تصبح الصوفية هروبا لإنقاذ الذات ومقتا الواقع.
ولابد من الإشارة أن الوعي القبلي عاطفي وانفعالي وضد العقل لذلك قد تجد القبيلة قادرة على حل أزمة خطيرة ضحيتها عشرات الرجال بزامل، فالشعر حالة انفعالية لا علاقة لها بالعقل لذا فالشعر يمثل القوة العاطفية التي تسهم في إعادة إنتاج وعي القبيلة.
إلى ذلك الوعي القبلي يحاصر الإنسان في زوايا ضيقة لا تحبذ التفكير ويقتل القدرة النقدية ويضع للفرد قوانين ثابتة وقاطعه ولا يجوز التفكير أو نقد القيم الحاكمة لها، ويتم محاصرة من يتحدى السائد لذا فان الإبداع في البنية الثقافية للقبيلة مرفوض وهذا يفسر الثبات في البنية الثقافية والوعي على مدى آلاف السنين، ويفسر التخلف المكتسح لكل شيء في حياتنا.
وهنا لابد من ملاحظة مهمة فالمناضل القبلي من أجل الثورة ومن داخل القبيلة وبقوة القبيلة ووعيها يفهم التاريخ من خلال الذات القبلية لا من خلال الوعي الجديد لذا ستجد مذكرات الشيخ عبدالله والشيخ سنان ابو لحوم تتمركز حول الذات القبلية بحيث تم ربط تاريخ الدولة والثورة حول القبيلة ودورها المحوري وتجاهل الآخر إلى حد سلبه دوره.
والإعلاء من الذات القبلية يأخذ مسارين مسار الذات الكلية التي تكوّن الثقافة الجماعية والعقل الجمعي العاطفي للقبيلة ثم أعلاء للذات الفردية وهذا الإعلاء يقوم على تمركز الذات الفردية حول الشخص بحيث يمنح نفسه قيمة أكبر وهي تجعله يحتقر من لا ينتمي للذات القبلية أو للمنطقة التي ينتمي إليها ويقلل من شأنهم فأن كان هذا الآخر ينتمي إلى ذات قبلية أو منطقة أخرى فانه هنا يحتقره.
مع ملاحظة أن وعي القبيلة المناطقي يكره الآخر ويتعامل معه بخوف لأنه على يقين أنه لا يملك القوة الحامية، أما الوعي القبلي في القبيلة التقليدية فأنه يتعامل مع الآخر الذي لا ينتمي إلى قبيلة باحتقار وبعنجهية وباستغلال ولا يتوارى من إلغائه إذا تحداه، ويمارس عليه كل أنواع الاحتقار والابتزاز ويحاول جاهدا في إذلاله، وتتضخم الأنا عند القبيلي التقليدي إذا أهانه قبيلي مناطقي، فهناك فرق بين ان يهان من قبيلى أصلي او أن يهان من ابن سوق أو لغلغي.
الثقافة القبلية بوجهيها نابذة للآخر ومتحدية لما يناقض أعرافها ومصالحها واستمرارها يعمق التخلف ويعزز الجهل والظلم نتاج طبيعي لهذا التمركز وهو مؤسس على جهل بالذات نفسها وجهل بالعالم المحيط.
الملاحظة الأخرى أن القبيلة وقيمها وأعرافها لم تتعرض إلى أي نقد من داخلها ولم يتم حتى طرح رؤى واضحة تشكك بجدواها وأهميتها ليس في التاريخ اليمني بل عبر التاريخ الإسلامي وإنما كان يتم التعامل معها كبنية كاملة ناجزة ونهائية وتحمل الحق المطلق وهذا جعلها قادرة على هضم أعظم رسالة إنسانية في بنيتها وقراءة الإسلام بوعيها وهذا يفسر الخسائر المتلاحقة في تاريخنا الإسلامي وفي حاضرنا، ومن يعرف القبيلة اليمنية يلاحظ أن القيم القبلية التي تقوم عليها القبيلة مؤسسة على أساس الشرف القبلي وليست مؤسسة على مسألة القيم الإلهية ولكن الأصولي يعلي من شأن القبيلة ويعتبرها هي الحافظة للإسلام!!!
وأخيرا يمكن القول أن التمركز حول القبيلة وقيمها وعاداتها يقوي من الثقافة التقليدية بكافة جوانبها بما في ذلك الأصولية الإسلامية فالحوثية مثلا ليست إلا قراءة إسلامية للمذهب الزيدي بالوعي القبلي، والسلفية ليست إلا نسخة إسلامية بوعي القبيلي البدوي، والقاعدة ليست إلا عنف يدافع عن شرف الوعي القبلي لا إنسانية رسالة الإسلام.
ختاما لا يمكن تجاوز النسق الثقافي المغلق للقبيلة ما لم يتم تفكيكه وكشف تناقضاته الداخلية وتناقضاته مع الإسلام الإنساني ومع العصر، وما لم يتم طرح البديل العصري المتوائم مع حاجات الإنسان اليمني الجديد الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين، ان نقد وعي القبيلة هي الخطوة الأولى لتحرير الإنسان اليمني من الظلم والاستبداد والتخلف والخطوة الأولى لتحرير الثقافة اليمنية الجديدة من الأفكار المتناقضة مع العصر.



#نجيب_غلاب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خواطر شوقي التائه
- ضاع في عيون ساحرة
- الاسلاموية بين تخريب السياسة وتشويه الدين
- جسد الغياب
- رسالة لكل حر متمرد على ثقافة الموت
- اليمن ... تحالف هيئة الفضيلة وصراع المصالح المتناقضة
- الصراع في بنية الإيديولوجية الخمينية
- لبنان .. الطائفية وصراع المصالح
- ديني الوطن ... لكم دينكم ولي دين
- الوعي القبلي في مواجهة المجتمع المدني
- المثقف ودوره في إحداث التغيير
- الدولة الوطنية وتناقض الأمركة مع العولمة
- حُمى الجنس
- الدين والسياسية .. المشكلة .. الحل
- الاسلام السياسي وتناقضات الفكر والسلوك مع ديمقراطية
- انثى من جنون
- الاصوليه وخطرها على السلم الاجتماعي
- ثقافة جديدة من أجل مجتمع حُر: الوعي التقليدي في مواجهة العصر
- إشكالية السياسة في الايديولوجيات الأصولية
- إشكاليات التحول الديمقراطي في اليمن


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نجيب غلاب - دور الوعي القبلي التقليدي والمناطقي في تخلف اليمن