عندما كنا أطفالا كنا نراقب بفضول الحركات الغريبة للدجاجة بعد ذبحها بلحظات.. كانت العجائز ترجعن تلك الحركات إلى ما يسمينه (عزة الروح) .. تذكرت ذلك فيما بعد عندما قرأت (والطير يرقص مذبوحا من الألم) !!.
في حلقته الأخيرة استضاف برنامج (قناة الجزيرة) الأسبوعي (الإتجاه المعاكس) واحد من آخرأسراب غربان صدام حسين التي اعتادت النعيق على جماجم وعظام ضحايا أحدث الساقطين من طغاة القرن العشرين وقد قطع السبيل به فالتقطه البرنامج المذكور مستغلا حالة من الضياع والتساؤل لدى بعض البسطاء من مشاهدي قناة الجزيرة بالتحديد وخاصة في أحدث فضائح النظام المخلوع المتمثلة بهبات مشبوهة على شكل كوبونات نفط ..
ليس مستغربا أن تصادفنا بقايا أبواق صدام ونظامه تتلاطم بهم أمواج العودة من معارك توهموا صدقها وحتمية انتصارهم فيها بقدر ما فاجأتنا حدة وشراسة التأكيد على صواب أصحاب تلك الأبواق و(بطولة قائدهم القومي الكبير الذي لم تعرف العرب قائدا فـذا ووطنيا مخلصا لأمته مثله) !!
أما المشاهد العاقل فقد تأكد بالأمس بأن ما جاء به (سيد نصار) لا يعدو كونه (رقصا من الألم) .. فالشعب العراقي البطل يتجاوز الآن محنته بقدر من الصبر والتفاؤل لا يقلان عما أبداه وهو يرزح تحت نير الطاغية المخلوع، بعد أن تعرت التكوينات المزيفة المصنوعة من أكثر الشعارات تلفيقا وخداعا وتساقطت غربانها فوق خرابات صدام ..
ولكن ما حاول البرنامج إثباته مثير للغاية ويستفز مشاعر المشاهدين لأنه مبني على حالة غير طبيعية لدى قطاع معين من المخاطبين أو المعبرين عن رأيهم من خلال الإستفتاء اللامنطقي الذي تطرحه القناة عبر شبكتي الهاتف والإنترنيت. فالإدعاء بأن خمسة آلاف متصل أو مصوت عبر الهاتف وعبر موقع الجزيرة يمثلون الشارع العربي ادعاء باطل ويدل على الإستهتار بآراء ومواقف الناس الأكثر وعيا وعقلانية.. فمئات آلاف المشاهدين، وإن شدهم موضوع الحلقة إلى متابعة الحوار الغوغائي، فقدوا ثقتهم بالقناة وببرامجها واستفتاءاتها المخجلة ولا يساهمون في الاستفتاءات الصبيانية أو المرتبة والمعروفة النتائج، سواء في برنامج الإتجاه المعاكس أم برامج أخرى ..
ضيف الحلقة، الصحفي المصري المغمور سيد نصار، أظهر أنه لا يتقن من فن الصحافة سوى الصراخ والإنفعال الغريزي وقلة اللباقة في التحاور مع مخالفيه في الرأي، وهو الحد الأدنى الذي يتطلبه لقاء حي على شاشة يفترض بان ملايين من المشاهدين فرغوا أنفسهم لمتابعته .. وبما أنه يجهر بعمالته السابقة وحتى باستمرار ولائه الحالي لفكر النظام النافق وبما أنه لم يتبق له شيء من الدعم الذي وفرته له فيما مضى أجهزة البطش والإرهاب فقد جاءنا متألما يرقص على نغمات كشفت أسرارها على الملأ..
المخرج الكبير فيصل القاسم صاغ سيناريو الحوار بالشكل الذي يثبت فيه للمشاهدين "نزاهة" تستند إلى انتصار موضوعي لصاحب حجج الدفاع عن نظام صدام حسين البريء من (تبديد ثروات العراق) مدعوما بآراء الجماهير العربية التي صوتت (لصالح سيد نصار) وضد (علي الشلاه) .. والحقيقة أنه لا يمكن تبرئة مقدم البرنامج من سوء النتيجة لأن دفة إدارة الحوار في يده ولأن رغبته في إظهار قوة حجج (نصار) وضعف حجج (الشلاه) واضحة وسروره بنتائج التصويت التي كان يعلنها بين الحين والآخر وقد جاءت لتؤكد براءة صدام من مصائب العراق، بدا على وجهه في جو سقط معه الشعار الذي تدعي القناة الإلتزام به وهو الموضوعية واحترام الرأي الاخر. وببساطة شعرنا بحالة من عدم الإكتراث بعواطف المشاهدين الذين لا يراهم الدكتور فيصل وإنما يتصورهم على ما يبدو وقد اشتهوا تقبيل وجنتيه على خلاصة الحوار !!..
لو قدر لجهة ما بالأمس أن تحصي عدد المشاهدين الذين أثارت فيهم آراء سيد نصار القرف والإشمئزاز لتجاوزت النسبة 90% من متابعي الحوار..
وعنوان الحوار في الأساس يفتقر إلى المنطقية والموضوعية .. فثروات العراق (من النفط وغيره بما في ذلك الثروات البشرية من أصحاب الكفاءات والمواهب التي تفوق قيمتها نفط العالم بأكمله) كانت طيلة العقود الثلاثة الماضية بيد الطاغية صدام وتحت السيطرة الحصرية والمطلقة لموظفيه وعبيده أو أنه كان السبب الوحيد لهجرتها خارج العراق، وقد بينت الدراسات والإحصائيات أن درهما واحدا من ثمن النفط العراقي لم يصرف خارج دائرة النظام القمعي وخططه .. وإلا فكيف لسيد نصار أو غيره أن يفسر لنا حالة الفقرالكارثي والمدقع للخمسة وعشرين مليونا مقابل تكدس الأموال في جيوب وحسابات القائد القومي المهيب وأفراد عائلته حصرا !! إن الموضوع ليس "تبديد الثروات" بل "احتلال" البلد بأكمله من قبل عصابة قمعية مجرمة قاتلة دمرته وحطمت بنيته وشوهت تاريخه وأبادت مواطنيه الأبرياء من أي ذنب عدا وطنيتهم وأساءت إلى شعوب البلدان المجاورة وإلى النضال العالمي من أجل السلام والحرية .. كم هي صغيرة وقليلة الأهمية فواتير النفط مقارنة مع الحجم الهائل للخسائر الأخرى !!
ومقارنة (تبديد صدام لثروات العراق) بـ (تبديد مجلس الحكم الحالي لها) في سيناريو الجزيرة تفتقر لأدنى درجات الموضوعية والأمانة الصحفية والمنطق السياسي .. فمقدرات العراق حاليا ليست بأيدي مجلس الحكم وأعضائه .. فالعراق يمر الآن بمرحلة انتقالية تتمثل أولوياتها بإعادة تشغيل المنشآت الضرورية في البنى التحتية والسكن وفتح المدارس والمستوصفات ومؤسسات التموين والتجارة الداخلية والطرق والتدفئة والكهرباء وماء الشرب والإتصالات والنقل إضافة إلى هيئات الإتصال الخارجي والإعلام إلخ .. ومجلس الحكم مؤقت ومعين ويتعامل مع تركات متخلفة وفاسدة ومشبوهة ومقيدة بأنظمة عمل مبنية أساسا على خطط هدفها الوحيد حماية النظام لا بناء المجتمع وخدمة المواطن.. أما على الصعيد الأمني فمهمات مواجهة بقايا مسلحي النظام البائد وحماية المواطنين وأمن المؤسسات المعاد تشغيلها وإدارة التحالفات الممثلة لكافة فصائل وأطياف المجتمع العراقي وإعادة صياغة دستور وطني وقوانين تضمن استقلالية العراق وحرية شعبه وتتطور مجتمعه .. في بيئة كهذه وفي حالة المديونية الهائلة التي سببها (البطل القومي صدام) والتي تجاوز مقدارها 400 مليار دولار هل يمكن توجيه الإتهام لأعضاء الحكم الحالي بتبديد الثروات ؟!!
ما ذا يريد المشككون في حقيقة تصرف القائد المخلوع وأجهزته بعائدات النفط عن طريق كوبونات (النفط مقابل الغذاء) ؟؟!! لقد بددت ثلاثون سنة بأكملها من تاريخ العراق وذهبت أدراج الرياح سيرورة حضارية زينت محطاتها التاريخ الإنساني .. ولكن عملاء صدام والفكر الصدامي لا يقرون بذلك .. ومنهم سيد نصار الذي لا يكتفي بتبرئة الطاغية من تلك الجرائم بل إنه يحمل الشعب العراقي والشعوب العربية مسؤولية فشل (المشروع القومي العربي) الذي ناضل صدام من أجله والذي كان (سيحرر الخليج بعد الكويت ثم فلسطين وبلاد الشام وشمال إفريقيا إلى المحيط فبلاد الأندلس ليعيد مجد الأمة المفقود) !!!
ويعرف سيد نصار نفسه بـ (القومي العربي) دون خجل معتبرا أن البطل الرمز هو صدام وأن مجد الأمة العربية كان بيد صدام ولكن تآمر (اللاقوميين والماركسيين) وتعاملهم مع (الغرب وأمريكا) حال دون إمكانية تحقيق أحلام صدام الوردية !! وفي رده عن جرائم صدام بحق الشعب العراقي والكويتي بررها نصار بادعاءات كاذبة لوقائع كشفت للعالم بأسره حقائقها وهي المقابر الجماعية ومذابح حلبجة وغزو الكويت ونهب ممتلكات الشعب الكويتي وأسر شبانه.. يقول نصار: (حلبجة من صنع إيران وصدام بريء وقد قتل من السنة أكثر ما قتل من الشيعة) !!
الأمور إذن محسوبة طائفيا وبشكل سافر عند سيد نصار تماما كما كانت عند معلمه صدام .. أما عن الأكراد فإن المتحدث باسم القوميين العرب يلغي أي حق لهم في العراق .. إنهم (متآمرون مع الأمريكان) و(قادة أحزابهم ليسوا مبدئيين فالبارازاني غير دينه ثلاث مرات من ماركسي إلى مسلم إلى أمريكي) .. بالرغم من سذاجة هذا الكلام فإنه يخفي وراءه كل مقومات التعصب الطائفي والقومي ..
من قال للسيد نصار بأن الشعب العراقي يريد نظاما قوميا ؟؟ وكيف يتحدث من منطلق قومي عربي بالنيابة عن شعب ليس كله من العرب ؟ أم أنه ببساطة ينكر على الأكراد العراقيين وطنيتهم وحقوقهم القومية والإنسانية أو يريدهم أن يستعربوا ويلغوا خصوصياتهم التاريخية والثقافية والديموغرافية والجغرافية والإندماج في مشروع سيد نصار وجماعته إرضاء لعنجهيتهم القومية!! وكيف يسمح لنفسه بوصف شيعة العراق بالعمالة لإيران !! في كل جملة ومداخلة أكد المتحدث عنصرية قاتلة وضعت أصحاب الفكر القومي العربي والفكر الإسلامي الآن أمام موقف حرج للغاية أظنه يتطلب تفسيرات فورية وإلا انتشرت مشاعر التعصب والحقد والكراهية بين الطوائف والأعراق في العالم العربي وخلقت جوا لا تحمد عقباه .. فعبر أطروحة سيد نصار الآن أصبح الفكر القومي العربي متهما بالشوفينية وبتبني الأنظمة القمعية والديكتاتورية والطائفية وتسويغ جرائم هذه الأنظمة بحقوق شعوبها وبأبسط الأعراف الإنسانية ..
حتى عمليات التخريب والتفجير وقتل المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وأفراد شرطة عراقيين، وآخرها مذبحة أربيل، وجدت تبريرا عند سيد نصار الذي قال بأنها (عملية مقاومة وطنية مشروعة ضد الأكراد عملاء القوات الأمريكية) . أما الضحايا الآخرون الذين تطالهم عمليات الإرهاب فلا يتأسف عليهم لأن معظمهم من (عملاء إيران) !!
ضمن عنوان الحلقة الضيق قال نصار، وبتناغم مع تأكيدات مقدم البرنامج، بأن 0اسلوب تقديم العطايا لمؤيدين داخل أو خارج البلدان متبع في كافة البلدان العربية وما ذكر بشكل عام لا يعيب صدام كما أنه لا يعيب الممنوح الذي بذل جهدا معينا للدفاع عن برنامج وسياسة البطل القومي !! ولكن الوثائق التي نشرتها صحيفة (المدى) مزورة وهدفها النيل من نزاهة ووطنية وأمانة صدام ونظامه).
يقول سيد نصار بأنه، من بين آلاف الصحفيين العرب، نال شرف اللقاء بالمهيب صدام لأكثر من ساعتين أسر خلالها إليه الكثير من الحقائق التي لا يعرفها أحد سواه والتي يستطيع من خلالها إثبات تورط البعض وبراءة الآخرين وسيحتفظ لنفسه بحق التصرف بالنشر في الوقت الذي يراه مناسبا .. إنه بهذه (الخبطة) يرشح نفسه الآن إلى مساءلات قانونية لن يخرج منها بسهولة ولن يحسده عليها أحد .. خاصة الورقة التي أخرجها من جيبه بطريقة تهريجية ليدين مناظره الأديب والشاعر العراقي علي الشلاه الذي بدوره اعتبر الوثيقة مزورة وستكون مادة لمقاضاة حاملها .. ربما غاب تصور عاقبة هذا التصرف عن ذهن سيد نصار إذ تخيل أن الأمر لا يعدو كونه لقاء تيلفزيونيا عابرا ينتهي توتره بانتهاء وقت البرنامج !!
مقاضاة سيد نصار ليست حقا لعلي الشلاه فقط.. إنها حق لي وللمشاهدين ولمئات الألوف لا بل الملايين من أبناء الشعب العراقي المنكوب والشعوب العربية المخدوعة والمشغولة ظلما بصدام وبوش وبالإعلاميين (أصدقاء الحكام ومالكي الحقائق) وبالبرامج الساخنة للأقنية الفضائية المتاجرة بأعصاب المستهلك العربي الباحث عن الحقيقة في أسواق الكذب والخداع والترويج لأباطرة القمع وتأليه الذات.. إن من حقنا لا بل من واجبنا، وقد خدعنا المحتالون وأبواقهم المنافقة التي تعهدت لصدام بتجييش الشارع العربي إلى جانبه تحت حجة رد العدوان الأمريكي، أن نحاسبهم ونحاكمهم ونمنعهم من الإستمرار في التعامل مع مهنة يفترض بها أن تحافظ على نزاهتها وقدسيتها !!
وليس هذا مستبعدا أبدا .. فمحاكم جديدة ستتشكل قريبا على مستويات عالمية لتبني قضايا المخدوعين بالسياسات الخبيثة وسيفلح الناس بفضح ومعاقبة الكاذبين والمنافقين وستقطع الطرق على الذين يبنون أمجادهم الشخصية باستخدام أبواق لا ذمم لأصحابها.. قضايا كهذه سترفع ضد وسائل الإعلام أيضا عندما يعرف الجميع بأنه لا يحق لجهة معينة، استطاعت بفضل شروط خاصة أن تفرض نفسها على قطاعات واسعة من الناس، أن تمارس عليهم سياسة الخداع والتزييف والتشويه والترويج والتهويش وغسل الأدمغة .. وإلا فسيكون مبررا لصدام ما فعله بفرض الإنتماء الفكري والحزبي على قطاعات الطلبة والعسكريين والموظفين وتمييز أعضاء الحزب والمنظمات التابعة عن غيرهم طالما أن الحزب (قادر على الوصول إلى الجماهير !!) ..
ولن يكون لقناة الجزيرة حصانة خاصة من دون سواها، فهي القناة الرائدة التي كان لها السبق في جذب المواطن العربي عن طريق الوعد بالموضوعية والصدق والشفافية واحترام كافة الآراء .. وها قد كشفت القناة ارتباطاتها ومنهجيتها الخاصة وبدأ العديد من الجهات الرسمية والحكومات مقاطعتها وكذلك فعل آلاف الناس على مرأى ومسمع الجميع .. والقناة الآن في خانة التحدي، نهجا وبرامج وملفات، والمهارة في الاستمرارية .. والفن والصدق والأمانة تكمن في متابعة الملف حتى نهايته لا بالتهويش ثم بالتهرب ..
أما المتطفلون على الصحافة وتلامذة الصدامية فقد خبا بريقهم وهم متهمون .. وأقلهم تورطا بحاجة إلى إعادة تأهيل يبدأ بالإعتذار المعلن على الملأ للشعب العراقي البطل المتمثل بتحالف أحزابه الوطنية وشخصياته المعروفة والمدعوم من قبل المخلصين العرب وأصدقائهم في العالم .. وكذلك لجميع من آلمته مصائب العراق بدءا بالديكتاتورية وانتهاء بالإحتلال الأمريكي .. بعدها لا بد من إخضاع هؤلاء العائدين إلى امتحان جدي في كافة مقومات المهنة دون أن يهمل شرط إتقان اللغة العربية خاصة بالنسبة للفخورين جدا بعروبتهم أمثال سيد نصار.