دياري صالح مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 2382 - 2008 / 8 / 23 - 01:34
المحور:
المجتمع المدني
كلنا نتذكر ببالغٍ من الأسى والحزن أحداث الخراب ومشاهد الدمار المرعبة التي رافقت بدء الاحتلال الأمريكي وانهيار واحدة من أعتى إمبراطوريات الشر في العالم ضمن واحدة من أكثر الرقع الجغرافية اصطباغاً بلون الدم القاتم الذي نزفت فيه كميات تعادل مجمل ما يملك العراق من احتياطي نفطي أو ربما تفوقه!
ونتذكر منها أيضاً أحداث السلب والنهب المقززة للروح المدنية المتحضرة خاصةً في ضوء التوظيف الإعلامي الجبار لهذا الحدث من قبل وسائل إعلام مغرضة بهدف تشويه صورة المواطن العراقي بإظهاره للعالم وكأنه ذلك السارق الذي لا يتوانى للحظة في سرقة بلده، بيته وربما مقدساته إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، فهل كانت وسائل الإعلام منصفة في هذا النقل الزائف للصورة؟ وهل كان المحللون ثقاة إلى الحد الذي نهز رؤوسنا معهم موافقةً على ما ألحقوه بأبناء بلدنا من عار لا تمسح آثاره المشينة من صفحات التاريخ بسهولة؟
لا أود أبداً الخوض في سجال عقيم مع أولئك الذين لا هم لهم سوى تشويه صورة العراق والعراقيين بأي شكل وبأي ثمن مهما كان بخساً، لكني بالمقابل أود أن أجيب بحرية نسبية عن السؤال الذي عنونت به مقالتي هذه، فهل سيمنحونني مثل هذه الحرية أم سيرجمونني بأقوالهم المأثورة في تصنيفي ضمن قائمة المارقين والخونة وربما الملحدين أيضاً؟
ليس من الإنصاف بمكان رمي التهم جزافاً على شعب مثل الشعب العراقي بوصمه بشعب السلب والنهب أو الفرهود ليس لأنه شعب الأنبياء والمعصومين، بل لأنه شأن كل شعوب العالم الإسلامي ابتلي بحكام طغاة أسرفوا في الاستئثار بالسلطة ومباهجها على حساب آلام المجتمع ومعاناته حتى بات الفقر امراً ملاصقاً لحياة شعوبنا ومنها العراقي، فالكل وبالذات منهم أبناء هذا البلد يتذكرون حجم المعاناة الهائلة التي كانوا يئنون تحت وطأتها في تحصيلهم على قوت يومهم المغمس بالإذلال والمهانة في بلد يعدّ من بين أهم دول العالم النفطية والكل يتذكر أيضاً أن الفقر الذي نخر جسد وروح العراق إنما كان بفعل سياسات خاطئة بمنهجية قادت إلى تحطيم قيم أصيلة مدنية تأبى ثقافة الفرهود فهل نلوم الفقراء ونحن نعلم مقولة عظيمة لشخص مثل أبو ذر الغفاري الذي قال "إذا ما ذهب الفقر لمكان قال له الكفر خذني معك" هل نلومهم إذا وجدوا جنات عدنٍ تنفتح أمامهم بلا رقيب أو حسيب وهم الجياع المعدمين المفتقرين إلى أبسط مقومات الحياة الحرة الكريمة؟
بالرغم من ذلك لا أجد الفقر أو بمعنى أدق التفقير الذي مورس كسياسة هادفة ضد الشعب العراقي إلا أحد عناصر توليد ذهنية الفرهود وإلا سيكون كلامنا غير ذي فائدة إذا ما كانت الصورة مغايرة وهو أمر طبيعي فإذا ما امتلك الشخص في بيته على عناصر ضرورية للحياة واذا ما كانت بدائلها متاحة له وفق دخله الشهري، فما الذي سيدعوه عندها للفرهود؟ عندها سيكون تحليلنا قائم على لوم الناس وليس الحكام، لذا نرى أن ثقافة الفرهود في عراق أواخر القرن العشرين على الأقل إنما جاءت كنتيجة لثقافة النظام الحاكم والدلائل التي سنسوقها هنا دلائل واضحة وكثيرة منها:
1-تهجير الكرد الفيلية بقرار حكومي ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة وإعلان الفرهود تحت وصاية حكومية في بيوت وممتلكات هذه الشريحة من أبناء العراق والتي يمكن عدّها نقطة الانطلاق الحقيقية في ترسيخ ثقافة الفرهود السلطوية القائمة على نهب كل منجزات أبناء هذه الشريحة والسطو عليها إرثاً وحضارةً عبر الفرهود تارةً وعبر حبس ومنع كل ما يشير إلى دور هذه الشريحة في حضارة العراق قديماً وحديثا.
2-الفرهود الذي رافق العمليات العسكرية داخل العراق سواء أكان ضد مدن كردستان التي نهب عدد كبير منها تحت راية الحكومة وقادتها الميدانيين والغريب في الأمر أن الجوامع نفسها في كردستان لم تسلم من ثقافة الفرهود السلطوية التي كانت تنظر لذلك على أنه غنائم تحل لهم ولجنودهم المحررين! ولا يقل الحال بشاعةً مع ما حصل في جنوب العراق خلال العام 1990 حيث نهبت بيوت وفجرت حسينيات واستمر الفرهود أيضاً تحت مرأى وسمع الحكومة لا بل بتأييدها المطلق وتحريضها المسبق.
3-الفرهود الذي رافق العمليات العسكرية مع دول الجوار الجغرافي سواء أكان مع المدن الإيرانية التي تتوغل فيها القوات العراقية المأمورة والمجبرة على إطاعة القوانين وتطبيق مبادئ الفرهود، أو مع ما حصل مع الكويت التي شهد احتلالها أكبر عملية فرهود في تاريخ العراق المعاصر وكان ذلك بمجمله وفقاً لأوامر حكومية تهدف إلى إلحاق أكبر قدر من الأذى بالخصم.
4-الفرهود المقنن حكومياً لكل من عارض النظام وخرج على نواميسه سواء أكان أولئك من أصحابه المقربين أو أقربائه أو حتى إن كانوا من أعدائه فهم جميعاً على حدٍ سواء أعداء يحق سلبهم ونهبهم ونكح نسائهم وتشريد أبنائهم.
لا تنفي مثل هذه الدلائل أن هنالك جزء من اللوم يلقى على عاتق مَن مارسوا الفرهود، فلا يعني ذلك أن كل الشعب العراقي آمن بهذه الثقافة البدوية الخبيثة التي تعبر عن طريقة تفكير النظام العشائري القبلي الذي يحكم فيه الشيخ/ الأمير/الحاكم ويتحول الرعية إلى الطاعة المطلقة. لم يكن الأمر كذلك أبداً في العراق فجزء غير قليل من أبناء شعبي التزم مبدأ العزة والاحترام وعدم المساس بأموال الغير أو أموال العراق نفسه إيماناً منهم بحرمة المال العام. لكن لا يمكن أن نوجه اللوم والتعنيف لغالبية الفقراء الذين قادتهم عواطف الحرمان المكبوتة التي تنفست بعضاً من أنسام الحياة مع سقوط النظام السابق، لا نستطيع أن نوجه اللوم المطلق لهم على اعتبار أنهم سرّاق وإذا ما كانوا كذلك في نظر البعض فهذا ذنب نتحمل وزره جميعاً حكومةً ومثقفين، لذا علينا اليوم أن نعيد النظر في ترميم أو قل بكلمة أكثر تطرفاً في تحطيم أصنام الثقافة العراقية السابقة التي لازالت تعبدها الآلاف من العقول وتتحين فرصة الفرهود مجدداً، ولا يتم ذلك إلا بنصرة الفقراء من قبل الحكومة نفسها بكل الوسائل الممكنة من أجل تعزيز روح المواطنة لديها لتتحول بذلك إلى رقيب حريص على تراث ومقدسات هذا البلد، وهنا لا يفوتنا دور المجتمع المدني رغم كل ما يعتريه من زيف في بلدنا، لا يفوتنا أن نشير إلى مدى أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في مراقبة عمل الحكومة وفي مد جسور التواصل بينها وبين أفراد الشعب بما يغرس ثقافة مدنية متحضرة ومتحررة من كل قيود الماضي وسلطاته الجائرة.
#دياري_صالح_مجيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟