تميز المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني باهتمام واسع من جانب الصحافة، حيث لوحقت أخباره ومساجلات أطرافه، وجرى استدراج هذه المساجلات في كثير من الأحيان، من قبل صحافيين على علم واسع بمجريات الصراع الحزبي الداخلي، واستجاب بعض أطراف الصراع لهذه الحاجة الصحافية فقدموا مادة وفيرة، ومشوقة بالمعنى الصحافي للكلمة، من غير أن يساعد السجال في توضيح الصورة أمام المحازبين ولا أمام المراقبين.
برز نوع آخر من الاهتمام من موقع المحب والحريص، لا من موقع التشويق والسبق الصحافيين، وتجلى في عدد من المناشدات الصادقة، توجهت إلى المعنيين داعية إلى بذل كل جهد ممكن لإخراج الحزب من أزمته، ثم أعقبت بتعليقات على نتائج المؤتمر لا تقل حرصا عن المناشدات، وكانت تعبر بوضوح عن فهم أكثر عمقا لطبيعة الأزمة الحزبية من فهم المساجلين الحزبيين لها.
كانت نتائج المؤتمر مدعاة للخيبة عند البعض، ولليأس عند البعض الآخر، وأصيب آخرون بالاحباط، وفرح أهل القيادة الجديدة بانتصار حققوه، ولردود الفعل هذه منظومات من المعايير تبرر مشاعر أصحابها ومواقفهم.
وكان لهذه المشاعر ذاتها ما يبررها خلال عملية التحضير للمؤتمر، فأعلن كثيرون موت الحزب، ودعا سواهم إلى البحث عن جديد خارج الأطر التنظيمية، في حين رأى فريق من الحزبيين في هذا النعي تجديفا على تاريخ الحزب ودعوة لليأس والتيئيس، ونام بعض من في القيادة على حرير الطمأنينة الفارغة على مصير الحزب، وشحنوا بعض القاعدة الحزبية ضد المخاطر الخارجية التي تهدد وحدة التنظيم، ودقوا النفير لصد العدوان المتحدر من نظرية المؤامرة.
الآن، بعد أن هدأت الخواطر واستراح المنتصرون لانتصارهم، واستقرت موجات اليأس والاحباط، بدأ يطرح السؤال: وماذا بعد؟ وهل في إمكان القيادة المنتخبة القيام بعملية الانقاذ؟ وهل في إمكان الراغبين ببناء الجديد من خارج الحزب أن ينجزوا ما يرغبون بإنجازه؟ وهل في إمكان المعارضة الحزبية أن تستكمل تجديد الحزب من داخله أم ان ما يقرب من عقدين من الزمن يكفي لفك المراهنة عن الإصلاح الداخلي؟
كل ذلك يتوقف على قراءة ما حصل... قراءة طبيعة الصراع على مصير الحزب منذ اندلاع الأزمة، وقراءة طبيعة القوى المتصارعة وبرامجها، وقراءة الظروف اللبنانية المحيطة ومدى استجابتها لمتطلبات الإصلاح السياسي في بنية اليسار اللبناني عموما والشيوعي على وجه الخصوص.
يدور الصراع في الحزب وعلى الحزب حول ثلاث قضايا: هوية الحزب وقضيته وصيغته التنظيمية.
السؤال عن الهوية يعني: من هو الشيوعي؟ ومن هو اليساري؟ وذلك بعد أن انهارت معايير اليسار واليمين، واختلط حابل هذا بنابل ذاك، فعلى الصعيد العالمي اصطف جزء من اليسار والتحق بركاب السياسة الإمبريالية في حروبها ضد شعوب العالم، وعلى الصعيد الداخلي صار اليسارالمتحدر من بقايا الحركة الوطنية اللبنانية على رأس سلطة ممعنة بشن الحرب على الشعب اللبناني. الخ. الشيوعي بالمعنى القديم هو من ينتمي إلى قضية وينتظم في صيغة، فلا القضية ظلت هي القضية، ولا الصيغة ظلت هي الصيغة. وكان من الطبيعي أن تجيب الأوساط المتشددة داخل الحزب على سؤال الهوية جوابا شكليا: الشيوعي هو من يدرج إسمه في لائحة الشطب الانتخابية الحزبية. وكان من الطبيعي عند من يتبنى هذا الجواب أن يتبنى أيضا كل المترتبات الناجمة عن الخواء السياسي لهذا الجواب، فيعمل على ترتيب لوائح الشطب بما يؤكد صحة نهجه، ويلجأ، من موقع السلطة الحزبية، الى ممارسة سلطته بامتياز لتجديد الولاية، مع ما يتطلبه ذلك، كما هي الحال في مصلحة تشخيص النظام في إيران على سبيل المثال، أو كما كانت الحال في كل الأنظمة الشمولية، من تلاعب في اللوائح يجعل الانتماء إلى الشيوعية واليسار رهن قرار قيادي، بدل أن يكون تعبيرا عن قرار حر وعن رغبة في انخراط المناضلين في عملية التغيير السياسي. مثل هذا النهج القيادي جعل المؤتمر مناسبة انتخابية خالية من حيوية النقاش السياسي المطلوبة للخروج من الأزمة.
المعارضة داخل الحزب، وهي في الحقيقة معارضات، لم تنجح في بلورة جوابها، وإن هي نجحت في بلورته فهي لم تتمكن من جعله جزءا من الوعي الحزبي، وبالتالي لم تتمكن من استخدامه سلاحا في مواجهة خواء الجواب القيادي، واضطرها عجزها هذا إلى مجاراة القيادة والقبول بلعبتها والتنافس معها بالآليات ذاتها على لوائح الشطب، والقيادة هي الأقوى في هذا المجال، فالفاخوري يركب أذن الجرة كما يريد، غير أن هذا لا يلغي مسؤولية المعارضة عن فشلها في إنقاذ الحزب، ذلك أن الرأي العام الحزبي كان في أغلبيته الساحقة مع نهج التغيير، وكان يستحيل على تزوير لوائح الشطب، مهما بلغ مستواه، أن يطمس حقيقة ما يجري من تحولات عميقة في وعي الشيوعيين، لولا اختيار بعض المعارضة طريق الهروب من المواجهة وإقناع العديد من المناضلين بذلك، مما سهل مهمة المتشددين داخل القيادة، يدل على ذلك تعبير مضمر وصريح من جانب القيادة المتشددة عن حاجتها إلى معارضة تتكامل معها في نهج الاستبعاد ورفض الرأي الآخر.
مع ذلك تمثلت المعارضات في المؤتمر بأكثر من أربعين في المئة، وتوزعت النسبة المتبقية بين تيارين: الأول هو التيار القيادي المتشدد ونسبته 35 في المئة، أما ال25 في المئة المتبقية فقد اعتقدت وفضلت أن تكون خارج الصراع لتلعب لعبة التوازن، ولتنتهي لعبتها بمحاصرة المعارضة وبخروجها مع المعارضة من قيادة الحزب.
بعد أن انتهى المؤتمر إلى ما انتهى إليه، لا بد من العودة إلى السؤال الأصلي حول الهوية.
لوائح الشطب تقدم جوابا إداريا على السؤال، في حين أن المطلوب من الحزب تقديم جواب سياسي. لقد آلت الانهيارات الكبرى إلى بلورة جواب لم تحسن القيادات الحزبية، على اختلافها، قراءته، وهو ينطوي على مضمون جديد للهوية الشيوعية خصوصا واليسارية عموما. فلم يعد مقبولا تقييد الانتماء وتضييقه وحصره لاعتبارات انتخابية، بل بات من الضروري أن يفتح الحزب اليساري، أي الحزب الشيوعي الذي يحظى وحده، نظريا على الأقل، بهذا الحق الحصري، بعد تحول الأحزاب اليسارية الأخرى إلى مواقع أخرى أو انهيارها، أن يفتح أبوابه مشرعة لاستقبال كل التقدميين واليساريين والديموقراطيين، وبصورة خاصة لاستقبال أجيال جديدة من المتمسكين بالانتماء إلى معسكر اليسار والشيوعية، بديلا عن سياسة الاستبعاد التي لم يقتصر عدد ضحاياها على يساريين كان يمكن ان ينتموا إلى الحزب بل شمل في من شمل، أعضاء في الحزب شطبت أسماؤهم من لوائح الشطب، ومجموعات يسارية حملت أسماء شتى، وكلها تؤكد الحرص الواعي على الانتماء إلى حركة اليسار الشيوعي. وعليه، فقد كان من الضروري أن يتسع نطاق المشاركة في أعمال المؤتمر وفي نقاش وثائقه ومشاكله، ليشمل كل الذين أبدوا حرصا على الحزب، حتى لو لم تكن أسماؤهم مدرجة أصلا على أية لائحة شطب صحيحة أو مزورة. في حين كان من الطبيعي أن تؤدي آليات التحضير للمؤتمر لا إلى غياب شيوعيين كان من المفترض إشراكهم فجرى استبعادهم، بل إلى غياب فاضح لكل الشخصيات السياسية اللبنانية ولكل أهل اليسار والتقدميين من لبنان وخارجه، وإلى تكريس عزلة الحزب عن أهله وبنيه وأقاربه وعن الحياة السياسية.
أما عن القضية، فقد غدا الحزب بعد الانهيارات الكبرى (الحركة الوطنية وحركة التحرر والحركة الشيوعية) بلا قضية، واستمر يكرر الشعارات العامة التي تؤكد موقفه المعادي للامبريالية والصهيونية والاستعمار، وهو موقف صحيح من غير شك، غير أن الشعارات لم تعد ملكا حصريا له، ولا المقاومة التي أطلقها صمد على حمايتها، وبات الحزب واحدا من عشرات الحركات السياسية والقوى والشخصيات التي لم تكن يوما تنتمي إلى القضية القومية، لا يتميز عنها في شيء إلا بضعف إمكاناته، ما جعله، داخل المواجهة القومية والوطنية والإسلامية طبعا، في مؤخرة الجبهة، هذا إذا لم يكن مستبعدا عنها.
كانت مهمات الحزب ممركزة ومتمحورة على قضية أساسية هي بناء الاشتراكية، وكان النضال في سبيل أي قضية مهما علا شأنها أو تراجعت على سلم الأولويات، مربوطا بحبل السرة الإشتراكي، ولم يجد امامه بعد الانهيارات غير التمسك بالعناوين النضالية الكبرى، القضية الفلسطينية وتحرير لبنان والديموقراطية والعدالة الاجتماعية ومواجهة الامبريالية، الخ. وبات بهذا المعنى يشبه أي حزب يساري أو يميني آخر يرفع الشعارات ذاتها، وبإمكانات إعلامية تفوق إمكاناته، ففقد بريقه وتميزه وبات على مدار عقدين ونيف خارج الحياة السياسية، إلا ما يحتاجه ديكور الاجتماعات وروتين البيانات الأسبوعية التي تهملها وسائل الإعلام ولا تكترث لها إلا بما يناسب حجم حركة الحزب ومدى تماسكه، فلم يتمكن في ظل هذه الظروف من أن يجسد موقفه المستقل فعلا، وبدا عرضة لتجاذبات وسببا لتجاذبات أخرى، وغدا هامشيا، بعد أن انتزعت منه امتيازاته، حيث لم يعد بطل القضية القومية بعد خروجه أو إخراجه من ميدان المقاومة، ولا بطل القضية الاجتماعية بعد أن فكك <<حلفاؤه>> من يسار الأمس عرى الحركة النقابية، ولا بطل قضية الديموقراطية بعد خروجه العملي من المواجهة مع السلطة وميوعة علاقته بها، حتى بدا في نظر البعض كأنه جزء من تركيبة السلطة وتحالفاتها الإقليمية مع كونه خارجها عمليا...
كل ذلك حصل بفعل سقوط قضيته المحورية وعدم قدرته على بلورة القضية على ضوء المستجدات. ولا مناص اليوم أمامه من أن يجعل من إعادة بناء الوطن والدولة قضيته المحورية، فينخرط بلا هوادة في مواجهة سلطة الفساد والإفساد والمحاصصات الأمنية والسياسية والمالية والتنموية، سلطة النهب المنظم للثروة الوطنية والهدر والمديونية، سلطة التفريط بسيادة الدولة وتوزيعها على سيادات تتوزعها القوى المحلية من بقايا المليشيات المسلحة وقوى <<التشبيح>> السياسي، وينخرط بلا هوادة ايضا في معركة بناء الدولة المدنية الديمقراطية في مواجهة دولة الدويلات ولا سيما دويلات رجال الدين وامتيازاتهم في المحاكم ومكبرات الصوت.
بعض القيادة يستصغر هذه المهمة ولا يرى فيها قضية ثورية، وذلك لأن إيديولوجيا الثورة الاشتراكية ما زالت تضغط على الوعي الشيوعي، ولم يقتنع من في القيادة بما أقرته مؤتمرات سابقة للحزب من توجهات تمسكت بالاشتراكية خيارا استراتيجيا، لكنها رفعته عن جدول العمل اليومي، تاركة للفكر التقدمي في لبنان والعالم ولحركة الصراع مع الرأسمالية بلورة صيغة جديدة لتجاوز الرأسمالية، وصيغة بديلة للعدالة الاجتماعية بعد انهيار االتجربة السوفياتية؛ معنى ذلك ان النموذج السوفياتي الذي سقط في معقله لم يسقط من وعي بعض الشيوعيين، فبدا الدفاع عن تاريخ الحزب والحركة الشيوعية كأنه ممانعة ضد تجديده وتهديد لوحدته.
في المقابل بدت المعارضة الحزبية عبثية في بعض سلوكها، لأن ممارستها في مواجهة القيادة كانت تشبه ممارسة القيادة في العديد من الأوجه، في البلبلة حول القضية حيث انحصر الاختلاف حول أولوية الوطني على القومي، وفي المركزية الصارمة مع مؤيديها حيث لم تأخذ بعين الاعتبار أن الشيوعيين المؤيدين لها مرتبطون حتى العظم بتراث الحزب الزاخر بالتضحيات، وأنهم لا يريدون التفريط بهذا التراث، ولا يريدون أن يغادروه مجانا ويتركوا مصيره للمجهول، وأن رغبتهم في تجديد الحزب تساوي الرغبة في البقاء فيه لتجديده من الداخل، ولذلك بدا تجنيدهم توظيفا لمصلحة صراعات فوقية أكثر مما هو لمصلحة مستقبل الحزب.
على صعيد علاقات الحزب الخارجية، الدولية والعربية، بدا الحزب مقطوعا من شجرة، وكان حضوره الخارجي يشبه حضوره الداخلي، أي غياب شبه مطلق عن مسرح الصراع ما خلا مواقف أسبوعية تندد بالامبريالية والصهيونية، في حين أن الحزب مطالب بصياغة رؤية جديدة للصراع العالمي على ضوء العولمة، وصياغة مشروع أممية جديدة تأخذ بالاعتبار كل المتغيرات على الصعيد الكوني، الاخفاقات منها والانجازات، وهو ما لم يفعله الحزب ولا المعارضة فيه، ما خلا المشاركات التي يدعى إليها بين الحين والآخر وتكون مساهماته فيها معدومة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، كما أنه لا يعكس في داخل الحزب المهمات التي تقترح في هذه المشاركات، فيبقى دوره في هذا المجال محصورا بتحليل نظري لا يستثير نقاشا ولا يستدرج سجالا ولا يطرح مهمات.
في ظل غياب القضية كان من الطبيعي أن يكون النقاش، في المؤتمر وتحضيرا له، نوعا من سوق عكاظ قيل فيه كلام جميل ومواقف سليمة من كل المساهمين، غير أن النقاش كان مشدودا بقوة نحو الجانب التنظيمي أي الانتخابي، لأن القضية التي من شأنها أن تمحور النقاش وتشده وتجعله متماسكا كانت غائبة تماما. وحتى لا يكون في كلامنا ظلم لأحد، فالقضية اليوم في الحزب عبارة عن قضايا موزعة على القطاعات والمناطق، فمن الطبيعي مثلا أن يشكل الهم الاجتماعي القضية المركزية في قطاع النقابات، والديموقراطية قضية مركزية عيد العاملين في حقل الإعلام، والمقاومة قضية مركزية عند صانعي المقاومة والجنوبيين من الشيوعيين، غير أن برنامج الحزب يفتقر إلى قضية القضايا، التي افتقد إليها الحزب بعد سقوط الاشتراكية.
في قضية الصيغة خرج الحزب بإنجاز منقوص، فهو رسخ التصميم على حماية وحدته، وأجمع المشاركون على ان إصلاح الحزب وتجديده لا يتم إلا على أيدي أهله وبنيه، لكن الخلاف على تحديد الأهل والبنين والمعنيين ظل قائما، فالقيادة مصرة على تقليص الأطر وتضييق حدود الانتماء بينما تطالب المعارضة بتشريع الأبواب أمام أهل اليسار والتقدميين، وإفساح المجال أمامهم لمشاركة الحزب همومه وصياغة برنامجه ومهامه اليومية.
كما كرس المؤتمر مبدأ التعدد والتنوع وقبول الرأي الآخر على قاعدة وحدة التنفيذ، غير أن إرجاء المهمة وإيكالها الى القيادة الجديدة يجعلها معرضة للتجاذبات وللميول القيادية في وضع نظام داخلي يؤمن ديمومة القيادة على حساب تجديد الحزب.
كما كرس المؤتمر صيغة من الديموقراطية غير مسبوقة في أحزابنا وأنظمتنا في التناوب على السلطة وفي ممارسة المعارضة، وإذا كانت المعارضة قد رفضت المشاركة في الهيئة التنفيذية فذلك لإفساح المجال أمام الفريق المنتصر لكي يمارس دوره القيادي، ولكي تقوم هي بدورها في المراقبة والمحاسبة والنقد البناء.
() عضو معارض في المجلس الوطني للحزب الشيوعي
©2004 جريدة السفير