_1_
ما هو التغيير وما هو الثبات؟
هناك أشياء مهما تغيرت تبقى على حالها. وهناك أشياء مهما بقيت على حالها...تغيرت.
يقول الفيلسوف الأغريقي هيراكليتس "كل شيءٍ في حالة تغير" لأنه يعتقد أنه مهما بقيت الأشياء على حالها تغيرت. بل إنه قد يقول: كلما بقيت الأشياء على حالها تغيرت.
أما بارمينيدس فيقول أنَّ "الموجود حقاً هو الثابت بالمطلق" لأنه يعتقد أنَّ الشيء المطلق يبقى على حاله مهما طرأ عليه من تغيير. وقد يقول: إنَّ الحقيقة المطلقة هي التي تبقى على حالها كلما طرأ عليها التغيير.
_2_
منذ بداية العهد الجديد والنظام في سورية يتحدث عن التغيير والثبات دون أن يفقه المواطن عن ماذا يتحدث في النظام الواقع: عن تغيير هيراكليتي أم عن ثبات بارمنيدي؟
يخال لي أنه سواء بحديثه عن "إصلاح لا يمس الثوابت" أو "عن تمسُّك بالثوابت لا يتعارض مع الإصلاح", يلوي النظام عنق كلي المفهومين إذ أنه يحاول أن يقـنعنا بأحد طرحين:1) إما أنه "يجب على الأشياء أن تتغير بأن تبقى على حالها",2) أو أنه "يجب على الأشياء أن لا تتغير عندما لا تبقى على حالها".
في خطاب القسَم, استعان السيد الرئيس بشار الأسد بالطرح الأول, والذي نتجَ عنه وقتها وهم "ربيع دمشق". موت ذاك الربيع حتى قبل أن تبدو طلائع أزهاره كان محتماً طالما أنَّ الدعوة, والتي لم تدركها المعارضة يومها على ما يبدو, كانت في الواقع تدور حول الاعتراف بأنَّ بقاء الأشياء على حالها هو ما يجعلها تتغير, ولم تكن في الواقع تدور حول رفض الثبات, مثلاً, إنطلاقاً من اعترافٍ موضوعي صريح بأنَّ التغيير لا يجتمع مع ثوابت. ما قيل هو: كلما بقيت الأمور على حالها, لا مانع من التغيير. لا عجب أنَّ الرئيس الأسد في خطابه الشهير اللاحق في مجلس الشعب اتهم المعارضة بأنها أساءت فهم خطابه. وقد كان محقاً, فالمعارضة لم تـفهم أنه كان وقتها يدعو للثبات على قاعدة تحقيقه من خلال التغيير, ولم يكن يدعو لتغيير الثبات نفسه.
في خطاب الدورة التـشريعية الأخيرة لمجلس الشعب, استعان السيد الرئيس وبنفس الحماس, إن لم يكن أكثر, بالطرح الثاني والذي نتج عنه لاحقاً القرار اللافت بكفّ يد حزب البعث عن الإدارة المباشرة والتـفصيلية لمؤسسات الدولة والاكتـفاء بالإشراف والمحاسبة ووضع السياسات العامة. وهذا بدوره قد يكون وهماً آخر وقد يظهر فراغه الواقعي من المضمون قريباً طالما أنَّ الدعوة كانت تدور حول الاعتراف بأنه مهما تغيرت الأشياء فإنَّ كل الجهود ستـنصبُّ على إبقائها على حالها في الجوهر. الدعوة هنا أيضاً كانت نوعاً من الألفاظ الغير واضحة لأنها لا ترفض التغيير موضوعياً ولا تدعو لإيقافه بسبب, مثلاً, الفهم الخاطئ لخطاب القسم من المعارضة, بل تدعو بالأحرى إلى توظيفه من أجل عدم التغيير حتى وإن لم تبقى الأمور على حالها.
_3_
كل هذا الحديث عن الدعوة للتغيير والتمسك بالثوابت يبدو أقرب, إذاً, للغوٌ التـنظيريٌ البعيد حالياً عن المضمون الواقعي في جدة الحياة العامة حيث لا يتحكم لا المواطن ولا أي جهاز سلطة مهما حاول بالتغييرات التي تطرأ على حياة المجتمع, كما هو معروفٌ ومعلن من الـقاص والداني في الساحة الثـقافية سواء المناوئة أو المناهضة للنظام. ولكن, نضيف لهذا أنه في جدة حياة الإنسان لا يمكن أن يتحكم أحد أيضاً بالثوابت ولا يمكن أن يقرر حالة أو مضمون الثبات على المواطن.
إذا كانت الأشياء تتغير مهما بقيت على حالها, فلماذا لا تبقى أيضاً على حالها كلما تغيرت؟ وإذا كان التغيير أحياناً خارج حدود السيطرة والتوقعات, ولذلك تخاف الأنظمة عادةً منه, فلماذا لا يكون الثبات أيضاً خارج حدود السيطرة ويشكل خطراً على النظام نفسه؟ ألا يمكن أن يكون للثبات مفعولاُ عكسياً على من يدافع عنه أحياناً؟
الواقع الحياتي الإنساني يعلمنا أنه أكثر ما يمكن للإنسان أن يفعل في حياته هو أن يواجه التغيير ويتعامل معه بعد أن يحدث, ويعلمنا الواقع المعيشي أيضاً أن الإنسان بنفس الصورة لا يستطيع أن يقرر الثبات بل يمكنه فقط أن يواجه الثبات ويتعامل معه أيضاً بعد أن يحدث. عندها يمكن رؤية التغيير أو الثبات بشكل واقـعي وإدراك أبعاده واستطالاته المعلنة والمستترة والتعامل معها وتـقويمها إن لزم الأمر. من هذا المنطلق, يبدو كل من يعتـقد أنه يستطيع أن يقرر صنع التغيير واهماً و كأنه يدعو إلى العيش في عالم أسطوري. ولكن, يبدو أيضاً أنَّ كل من يعتقد انه يستطيع أن يقرر خلق حالة من الثبات واهمٌ بنفس الـقدر ويدعو أيضاً إلى العيش في عالمٍ لا يقل أسطورية.
الثبات يحدث ولا يـُفرَضُ فرضـاً. وإذا كان التغيير أمراً يجب أن يحدث كي يوجد, فعلينا أن ندرك أنَّ الثباتَ أيضاً أمرٌ يجب أن يحدث كي يوجد, لا أن يتم تقريره من مصدرٍ علوي؟ حتى لو كان الغرض هو إبقاء الأشياء على حالها بالرغم من تغيرها, فهذا يعني أننا نتحدث عن "أحداث ثابتة" أي أنَّ الثبات نفسه شيء لا نراه إلا حين نقوم بـتغيير الأشياء ولا نبقيها على حالها, أي أننا لا نقبل حالة الثبات إلا حين نصنعها بإرادتـنا.
_4_
التـنظير الكثيف الذي ملأ الشارع السوري عن "التغيير-الثبات" لا يعني في الواقع ولا يمس حاجات ومشاكل المجتمع السوري ولا يأخذ المواطن ودوره المباشر في مسألتي التغيير والثبات بعين الاعتبار. إنه يمثل في العمق خلافاً تـنظيرياً غامضاً بين منطق قديم ومنطق آخر ليس مختـلفاً في الذهنية إلا أنه يقول عين الأمور بطريقة أخرى. أصحاب المنطق الأول من الجيل الأقـدم في النظام يقول "كلما أبقينا الأمور على حالها أمكن التحكم بتغييرها بأمان". أما أصحاب المنطق الثاني من الجيل الأجدّ في النظام فيقول "كلما حاولنا تغيير الأمور بأمان أمكن إبقاءها على حالها". مجلس الشعب الأخير يمثل في هذا الإطار منطق الجيل الـقديم, أما الحكومة فتمثل منطق الجيل الجديد (وإن لم تتغير الأسماء كثيراً). وكلا المنطقان في النهاية ترداد لنفس الطرح إنما بطريقة مختلفة.
_5_
متى سيدرك منظري الأنظمة العربية في الألفية الثالثة أنَّ الأهم من جدل التغيير والثبات هو موضوعهما الأساسي الحي: المواطن في محيط اجتماعه المدني مع الآخرين. أليس الأجدى الإصغاء للإنسان المسحوق بين مطرقة الحرس الداعين للثبات وسندان الحرس المدافعين عن التغيير, بدل الانهماك في محاولة المصالحة بين متضادين نظريين لا يمكن أن يجتمعا إلا لغواً؟. كلا المنطقين يتحدث باسم المواطن والوطن دون أن يعنيهما أو
يصغي إليهما فعلاً. أليس الأجدى النظر إلى التغيرات الواقعية التي تحدث في فكر وحياة المواطن كل يوم دون أن يقررها النظام, وأليس من الأجدى إعطاء هذا المواطن الفرصة ليقول بنفسه ما هو الثابت الذي يؤمن أن على النظام أن يحفاظ عليه, بدلاً من الحديث في الهواء عن ضرورات حياتية إنسانية أبعد ما تكون في الواقع عن اللغو والتلاعب بالألفاظ؟