شكلت المسألة التنظيمية وما تزال وجهاً من الأوجه المتعددة لأزمة التكيف مع المعطيات الجديدة على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني، التي يواجهها حزبنا منذ ما يزيد عن العقد من الزمن. أما وقد قطعنا شوطاً على طريق تجاوز الارتباك الأيديولوجي والسياسي، باتجاه صياغة رؤية أكثر تماسكاً حول ما يجري في العالم والمنطقة، وحول المشروع المطلوب إنجازه من قبلنا، بات من الملح تركيز اهتمام أكبر على مسألة تكييف بنيتنا وتقاليدنا التنظيمية، بما يتلاءم مع هذا التوجه النظري والسياسي. لقد شكلت الإجراءات الخاصة بعقد مؤتمرنا التاسع، والتي أقرها المجلس الوطني، مؤشراً إيجابياً على هذا الصعيد. لقد أثبتت التجارب السابقة، صعوبة ضمان فعالية حقيقية وديمقراطية حقيقية، في عمل الحزب، استناداً إلى إستراتيجيتنا التنظيمية الموروثة، رغم التقدم النسبي الذي تحقق حتى الآن، خاصة في مجال الإقرار المبدئي بحق التنوع، ضمن الحفاظ على وحدة التنفيذ. ولكن آليات عقد المؤتمرات، وأشكال التفويض والانتخاب، واستمرار أجواء التوتر وفقدان الثقة حول هذا الاستنتاج السليم مجرد التزام مبدئي بدون مفاعيل إيجابية. لذا عاش الحزب حالة فقدان مزدوج للمركزية وللديمقراطية. بل وأكثر من ذلك، ساهم نظام الانتخاب الأكثرية، أي نظام الصراع على الصوت المرجح والحاسم في تفجير صراع متواصل أساء لوحدة الحزب وفعاليته وصورته. كما أنه كرس انفصالاً عملياً بين نتائج العمليات الانتخابية والتسويات التنظيمية حيث أمكن إجراؤها. لقد تحولت الوظيفة الحقيقية لقانون الانتخاب من وسيلة لتقديم أفضل كادرات الحزب إلى موقع القرار، إلى وسيلة لتقديم الأقدر على إثارة العصبيات والغرائز والأحقاد، بما يشبه آليات النظام الطائفي تماماً أي أنه تحول إلى آلية لإنتاج الأزمة وتعميقها.
وقد أفاد ذلك بعض أطراف التنافس الداخلي، الذين يترددون في تعديل قواعد هذا التنافس، خوفاً من تأثير الممارسة الديمقراطية الحقيقية على مقدار إمساكهم بالقرار الحزبي. ولم يزعج في المقابل بعض أطراف الاعتراض، لأنه يمدهم باستمرار بمادة تحريض حقيقية ضد القيادة. وقد حان الوقت للخروج من هذا الاستعصاء العبثي، الذي يشل الحزب. هذه هي المهمة المركزية أمام المؤتمر التاسع. وعلى أساس النجاح فيها، سيتقرر مدى نجاحه أو فشله.
لا تكمن المشكلة في مفهوم المركزية – الديمقراطية، كإطار نظري تاريخي، إذا جاز التعبير، ملائم لرسم استراتيجية للبناء التنظيمي. لقد أظهرت تجربة حزبنا وباقي الأحزاب أن المشكلة تكمن في الاستراتيجية التي نفذت، وهي خاضعة أساساً، كأية استراتيجية أخرى، لموازين القوى وتراكم الخبرات. ومن هنا لا بد من رسم خطة تنظيمية تجنبنا الانحرافين الضارين، الانحراف الإداري الأوامري، والانحراف الفوضوي التفتيتي، وكلاهما يساهم في تعميق أزمة الحزب سياسياً وتنظيمياً، إضافة إلى أن كل منهما يغذي الآخر. إذن ما هو السبيل لتجاوز الأزمة، والتقدم على طريق بناء حزب يستند إلى مركزية حقيقية وديمقراطية حقيقية؟ ينبغي أولاً تجنب النظرة العدمية لما لدينا من قواعد وتقاليد تنظيمية، فكثير منها ما يزال صالحاً للأخذ به، وبعضها الآخر يحتاج إلى قدر من التعديل والتطوير. أما البعض الأخير فيحتاج إلى تعديل جذري أو الإلغاء. ولا بد هنا من التأكيد على أن المعضلة الرئيسية تكمن في آليات الانتخاب الحزبي، وليس في البنية التنظيمية أو التقنيات الإدارية. لذا ينبغي التركيز عليها من أجل فهم أسباب تعقد الأزمة وتعثر سبل الخروج منها، وليس الهروب منها إلى التفسيرات الذاتية، وتقديم الاقتراحات الإصلاحية ذات الطابع التقني، كما ورد في التقرير التنظيمي أو كما جاء في مداخلات بعض الرفاق في المجلس الوطني. لذا نرى ضرورة الاهتمام بإجراء إصلاحات حقيقية تنسجم مع روحية الإجراءات التي أقرها المجلس الوطني وتتناول المستويات التالية:
1. أشكال وضوابط التعبير عن الآراء الفردية أو الجماعية المغايرة لرأي الأكثرية.
2. النظام الانتخابي في الحزب
3. البنية التنظيمية وصلاحيات الهيئات
4. تداول المسؤوليات
1- من الواضح أننا لم ننجح حتى الآن في ترجمة ما أقره نظامنا الداخلي بشأن إنتاج وتعميم الرأي المغاير لرأي الأكثرية في قضيةٍ ما أو في مجموعة قضايا، في لحظة ما أو خلال فترة من الزمن. وما جرى حتى الآن ليس سوى تطبيق عشوائي ومتوتر لهذا الحق تتحمل بعض القيادات مسؤولية مؤكدة في التسبب به، إلى جانب بعض المعارضة التي لم تحسن تظهير طروحاتها، أو أرفقتها بممارسات سياسية غير سليمة، مما أدى إلى إخضاع المسألة كلها لمنطق التنافس الداخلي في مختلف القضايا، كما جرى إلباس الحسابات الذاتية والفئوية أغطية فكرية وسياسية مبالغاً بها، لتسهيل التعبئة والتهرب من تطبيق الحلول الكفيلة بحل المشكلة، أو على الأقل إيقاف تفاقمها، ولنعترف من البداية، أن الكلام على الديمقراطية يصبح لغواً فارغاً إذا لم يقترن بآليات واضحة تضمن تمثيلاً صحيحاً وعادلاً لجميع الأطراف من خلال نظام انتخابي مناسب ومحايد. وهذا يتطلب تطوير أشكال الصلة بين أصحاب الآراء المختلفة وجسم الحزب، وأساليب خوض السجالات والمنافسات الانتخابية الداخلية، تحت سقف الانتظام الحزبي العام. أي باختصار، تشجيع التعبيرات الجماعية عن الرأي، مع الحزم في تطبيق مضمون النظام الداخلي.
- بعد تثبيت حق الاختلاف وصياغة أشكال ترجمته العملية، لا بد من تدقيق شروط العضوية وشروط المشاركة في المؤتمرات، حتى لا تتكرر الاجتهادات والتباينات في تحديد الهيئة الناخبة عشية كل عملية انتخابية. في هذا المجال ينبغي إبقاء الشروط الحالية مع التوسع في مفهوم المشاركة، بما يتعدى مجرد الاجتماعات الحزبية دون إلغائها، مع المرونة النسبية في موضوع التسويات المالية قبيل المؤتمرات.
2- في مجال النظام الانتخابي الحزبي، لا بد من إحداث تجديد حقيقي، حاسم، وجريء. لقد اعتمد الحزب حتى الآن، أكثر من صيغة انتخابية ثبت فشلها بصورة جلية، فلم تكن صيغة لجنة الترشيحات عملياً سوى تخريجة لتظهير وتمرير التوليفات والتركيبات المعدة سلفاً من قبل الهيئات القيادية المشرفة على المؤتمرات. لم يكن الجانب الأسوأ في هذا الاجتهاد الذكي لإنتاج وإعادة البنى الستالينية وإدامة ما يمكن تسميته الديكتاتورية الأبوية، هو تأبيد التراتبية القائمة، بل نوع العلاقات والتربية التي ترسيها، فهي تنمي سلوكيات التبعية حيال القيادات من جهة، وتعزز مبدأ الولاء على حساب الكفاءة والجهد النضالي من جهة ثانية. إنها في المحصلة الأخيرة صيغة حزب لا يستمر إلا باستمرار العصبية الجامعة، ولا يشتغل إلا وفق النظام الأوامري.
- أما صيغة الانتخاب الأكثري التي فرضها المناخ المتوتر والمرضي الذي ساد الحزب بعد المؤتمر السادس، والتي اعتبرها بعض الرفاق وما زال، صيغة ملائمة وديمقراطية، فإن أي تحليل مبسط لآلياتها ولما أدت إليه من مفاقمةٍ لأزمة الحزب، يكشف بوضوح تام أنها أسوأ من سابقتها. فقد أكدت التجربة ما سبق التحذير منه، أي أنها لا يمكن إلا أن تكون صيغة الصراع على الصوت المرجح والحاسم. وبالتالي ستشجع باستمرار على تشكل الكتل والتحالفات غير المبدئية، وتعزز ممارسات التنافس الحاد، كما أنها قد تدفع البعض إلى محاولات التزوير من أجل تأمين الفوز. إنها بالاختصار صيغة إدامة أزمتنا الراهنة، وتتابع دعوات الحسم والفرز وتقسيم الحزب.
- أما صيغة اللائحة الناقصة التي اقترحت عشية المؤتمر الثامن، والتي تلزم الناخب الاقتراع لعدد يقل عما هو مطلوب من مندوبين، فهي ولا شك أفضل من الصيغتين السابقتين، لكنها لا تحول دون الاصطفافات ذات المنحى الانتخابي البحت، ولا دون التكتلات العصبوية الضيقة، إضافة إلى تمكينها الأكثرية من التأثير في ترجيح من يفوز من الأقلية. وأخيراً فهي لا تكون عملية إلا في الحالات التي يقتصر فيها التنافس على لائحتين اثنين، مما يعيق تعدد اللوائح وهو أمر مرغوب لتنشيط الممارسة الديمقراطية.
- تبقى صيغة التمثيل النسبي، وهي الصيغة التي يقترحها الحزب لحل معضلة التمثيل السياسي في المجتمع. إنها من حيث المبدأ الصيغة الأكثر ديمقراطية، والأكثر عدالة للتمثيل الصحيح فهي الوحيدة القادرة على عكس توازنات ومناخات الحزب بدقة، من دون تشويه، ومن دون توتر، ومن دون التباسات مفتعلة، إضافة لإرسائها ثقافة وتقاليد ديمقراطية حقيقية، عبر تحرير إرادة الرفاق من ضرورات الالتحاق بأي شخص أو فريق من أجل الوصول إلى مواقع التأثير، وهو حق مطلق من حقوقهم. إنها صيغة الخلاص من الاصطفافات المصلحية والعصبوية والعشائرية القائمة أو المحتملة. إذا كان لهذه الصيغة كل هذه الفضائل، فلماذا يعجز الحزب منذ أكثر من عقد من الزمن تقريباً عن مجرد تجربتها؟ إنه سؤال بديهي ولا شك، ولكن الجواب عنه لا يقل بداهة. إن المستفيدين من النمط الراهن للصراع يجهدون لإدامته، تارة عبر تضخيم حجم الخلافات الفكرية والسياسية، وطوراً عبر تخيير الرفاق الآخرين بين الالتحاق أو الخروج من الحزب. وكأن تظهير التوازنات الفعلية وترسيخ نهج التصالح والتفاهم والمشاركة، بدل نهج الصراع المتشنج والاستئثار، أمر يتعارض مع وحدة الحزب وفعاليته ووضوح خطه المبدئي.
- انطلاقاً من كل ما سبق، وأخذاً بعين الاعتبار موقف بعض الرفاق من التمثيل النسبي، بسبب الشكل والملابسات التي رافقت طرحه، ربما كان من المناسب اعتماد نظام مركب يجمع أفضليات النظامين الأكثري والنسبي. وهذا تمثيلاً مرجحاً للأكثرية في الهيئات التمثيلية من دون حرمان الآراء الأخرى من حقها في التمثيل وذلك من خلال انتخاب ثلث المندوبين على أساس التمثيل الأكثري، والثلثين على أساس التمثيل النسبي.
- أما في ما يتعلق بالهيئات التنفيذية فيعتمد النظام الأكثري، ولكن للحؤول دون سيادة الهاجس الانتخابي البحت، يعمد إلى انتخاب مسؤول الهيئة أولاً. بعدها يفسح له المجال لتقديم فريق عمله إلى المؤتمر، فيفوز من يحصل على الأكثرية المطلقة في الدورة الأولى، والأكثرية النسبية في الدورة الثانية. إن هذا الشكل من الانتخاب يحد من تكون الهيئات التنفيذية غير المتجانسة من جهة، والهيئات المستندة إلى العصبية أو ضرورات النجاح الانتخابي من جهة أخرى.
- أخيراً في المجال ذاته، من المناسب اعتماد صيغة المؤتمر الدائم، ليس كهيئة تقريرية بل كهيئة انتخابية وتوجيهية، تجتمع مرة واحدة في السنة لإبداء رأيها في أداء الحزب العام، أو بصورة استثنائية بناء على دعوة من رئاسة الحزب لمناقشة قضية ما بالغة الأهمية، أو لسد فراغ تنظيمي حصل لسبب من الأسباب. إن هذا الإجراء يريح الحزب من ضرورات إجراء الانتخابات الوسطية كل سنتين، مما يفسح المجال أمامه للعمل الشعبي بدل هذا الانشغال المتواصل بالانتخابات الداخلية.
3- في ما يتعلق بالهيكلية التنظيمية، يبدو من المفيد إبقاء الفرع والمنطقية كأهم حلقتين في التراتبية الحزبية، على أن نعود إلى صيغة لجنة التنسيق كإطار على مستوى المحافظة الإدارية، شرط إعطائها دوراً تقريرياً في ميادين محددة، منها على سبيل المثال: التحالفات السياسية والانتخابات النيابية.
- بالنسبة للمؤتمر الوطني، يحتفظ بصلاحياته الراهنة، على أن يتم انتخابه من الفروع مباشرة، على قاعدة النظام الانتخابي المركب المشار إليه أعلاه ويضاف إلى صلاحياته حق انتخاب رئيس للحزب يعاونه مجلس رئاسة طيلة المدة الفاصلة بين مؤتمرين.
- بالنسبة للمجلس الوطني، يحتفظ كذلك بدوره الحالي، بعد تغيير بنيته وطريقة انتخابه. حيث ينتخب ثلثه من المؤتمر الوطني على أساس النظام الأكثري، وثلثه الثاني على أساس النظام النسبي، ويشكل ثلثه الأخير من مسؤولي المنطقيات والقطاعات.
- أما بالنسبة للمكتب السياسي، فالأنسب أن يكون متوسط الحجم، لا يتعدى خمس المجلس الوطني، وأن ينتخب على الوجه الآتي: ينتخب المجلس الوطني الأمين العام أولاً، ثم يعرض هذا الأخير اقتراحه للمجلس الوطني من أجل الاقتراع، فيفوز بالدورة الأولى من ينال أكثر من نصف الأصوات، ويفوز في الاقتراع التالي من يحصل على الأكثرية النسبية.
- من أجل ضمان وحدة حزبية أقوى وأكثر استقراراً، من المفيد استحداث هيئة قيادية جديدة تنبثق من المؤتمر الوطني مباشرة، تقوم بمهماتها خارج المنافسات السياسية والانتخابية والشخصية. تسمى هيئة رئاسة الحزب وتنتخب على الوجه الآتي: ينتخب المؤتمر الوطني رئيساً للحزب، ثم يتقدم الرئيس المنتخب باقتراح هيئة رئاسة تعمل إلى جانبه، فيتم انتخابها كما سبق وعرض بالنسبة للمكتب السياسي. ويكون من أهم واجباتها:
• تولي مهام بروتوكولية لتمثيل الحزب في مناسبات معينة.
• تولي مهام الهيئة الدستورية التي تنتفي الحاجة إليها.
• الإشراف على عقد المؤتمرات المختلفة وخاصة المؤتمر الوطني.
• دعوة المؤتمر الوطني للانعقاد عند الضرورة.
• المساهمة في حل الخلافات عند تعثر الهيئات التنفيذية.
ويمكن توقع مهام أخرى تتولاها، شرط أن لا تكون ذات طابع تنفيذي منعاً لازدواجية السلطة.
4- أخيراً وليس آخراً، تعميم مبدأ تداول المسؤوليات ليشمل المسؤوليات الإدارية والنقابية والهيئات الأهلية القريبة من الحزب، كي تتعمم وتترسخ تقاليد العمل الديمقراطي والشفافية في كل ما لنا علاقة به.
17/11/2003
رياض صوما
عضو المجلس الوطني
واللجنة الانتخابية العليا