محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن-العدد: 2374 - 2008 / 8 / 15 - 02:31
المحور:
الادب والفن
يُعَدّ الشّاعر الأسباني فيديريكو غارثيا لوركا ( 1898 – 1936 ) واحداً من الأصوات الشّعريّة المنتمية إلى جيل 1927 الّذي سجّل انطلاقة نوعيّة في تجديد روح القصيدة الأسبانيّة في القرن العشرين، حيث كانت نتاجات هذا الجيل التقاء للتّيّارات والمذاهب الفكريّة والأدبيّة الّتي عمّت أوربا آنئذ، بل كانت أصداؤها واضحة في نتاجات أبرز مبدعي القارّة الأمريكيّة اللاتينيّة النّاطقة بالأسبانيّة. كما عدّ لوركا بوتقة انصهر فيها التّراث العربي الأندلسي المتفاعل مع الثّقافات الأخرى بوعي وحيويّة نادرين. من هنا، بالإضافة إلى النّهاية المأساويّة الّتي انتهى بها لوركا حيث سقط قتيلاً في الحرب الأهليّة الأسبانيّة، Guerra Civil Española لفت تنبّه مبدعي العالم إلى أعماله الفنّيّة الّتي كادت تستحوذ على كلّ الأجناس والأنواع الإبداعيّة المليئة بالدّهشة وحساسيّة الانتظار.
لم يكن الشّاعر العربي بعيداً عن حساسيّة إدراك العمق اللوركي، لقد كان يتنسّم أريجه في ظلّ الكلمات الرّافلة بالوجع الشّعري المدفوف بالوجع الإنساني، لذلك كانت أصداء أعماله ترسم ظلالها على المشهد الشّعري العربي منذ وقت مبكّر، هذا ما يفصح عنه ديوان الشّعر العربي المعاصر، لاسيّما جيل الرّوّاد الّذين حملوا نياشين قصيدة التّفعيلة منذ السّنوات الخمسين للقرن العشرين، ثمّ انشغلت بالموضوع ذاته الأجيال اللاحقة.(1)
هكذا سأحاول مقاربة هذا الموضوع من خلال قصيدة لوركيّة تجلّت بشكل مائز في نتاجات الشّاعر الفلسطيني محمود درويش، والّتي يفصح البحث المعمّق، الّذي لا أزعمه الآن، عن عمق هذا الموضوع وتعلّقه في شعر الشّاعرين.
لقد كتب لوركا قصيدة (( أغنية شجرة البرتقال اليابسة Canción del naranjo seco ))(2) وهي قصيدة ذات أبعاد رمزيّة توحي بنمذجة الواقع الّذي يسعى الشّاعر إلى قراءته قراءة متعدّدة الرّؤوس، ومن ثمّ ستكون مفعمة بالدّلالات، وآية ذلك ما يمكن رصده في تأمّلها:
أيّها الحطّاب: LEÑADOR:
اقطع ظلّي Córtame la sombra.
خلّصني من عذاب Líbrame del suplicio
أن أراني بلا ثمر. de verme sin toronjas.
¿ Por qué nací entre espejos ?لماذا ولدت بين المرايا؟
El día me da vueltas.النّهار يلفّني.
Y la noche me copiaوالليل يقلّدني
En todas sus estrellas.في نجومه كلّها.
Quiero vivir sin verme. أريد أن أعيش دون أن أراني.
Y hormigas y vilanos,والنّمل والدّببة،
soñaré que son mis كنت أحلم بأن تكون
Hojas y mis pájaros.أوراقي وطيوري.
أيّها الحطّاب: Leñador:
اقطع ظلّي Córtame la sombra.
خلّصني من عذاب Líbrame del suplicio
أن أراني بلا ثمر. de verme sin toronjas.
من الثّابت لدى قارئ شعر درويش أنّه كتب قضيّة وطنه على جفون قصائده المقرّحة بدموع البعد والذّبول النّازف من جرح القلب وتنهّداته المرّة، من هنا نقرأ له أبياتاً من قصيدة موسومة بـ (( تأمّلات سريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسّط ))(3) والّتي تبدو معانقة النّسائم الآتية من الأرض المغروسة بفسائل القصيدة اللوركيّة وفق تعلّق نصّي يفرض جدليّته على استراتيجيّة المقاربة:
نحن ما نحن عليهْ،
نحن جيل المجزرةْ.
أمّة تقطعُ ثديي أُمِّها.
أمّةُ تقتل راعي حُلمها.
في الليالي المقمرةْ.
دون أن تبكي عليهْ.
أين ظلُّ الشّجرةْ ؟
نرى أنّ تشديد درويش على الشّـجرة لا يخرج عن سلطة الأبيات المحمّلة بكلّ ما يرفد فعاليّة النّموذج في تحريك عناصر النّصّ المتعلِّق، وقولنا بتشديد درويش نابع من تكرار هذا العنصر النّصّي بماهيّات تعضّد من مكانته الشّعريّة. فإذا كانت الشّجرة قد وردت بصيغة المضاف إليه في البيت الّذي ذكرناه: ( أين ظلّ الشّجرة ؟ )، فإنّها سترد أكثر من مرّة بالطّريقة الّتي تجعلها تستحقّ التّأمّل في المرّات اللاحقة؛ وهو ما نقرؤه في قول درويش:
نحن ما نحن عليهْ
نحن مَنْ كُنّا لنا
نحن مَنْ صرنا... لمنْ ؟
فارسٌ يغمد في صدر أخيه
خنجراً باسم الوطن
ويصلّي لينال المغفرةْ.
أين شكل الشّجرة ؟
من الواضح أنّ هذه الأبيات قدّمت تسلسـلاً تصاعديّاً في بناء القـصيدة وهي تسير نحو تحقيق وحدتها العضويّة المعبّرة تعبيراً صادقاً عن الواقع المتجلّي في كلّ بيت من أبياتها. وبعبارة أخرى نقول: إنّ درويش نجح في تقديم واقع عربي بكلمات لا يفقدها تعلّقُها بالآخر انتماءها إلى طينة الوطن، بل يزيدها ثراء وخصباً، وإذا ما أردنا ملامسة الوحدة العضويّة ملامسة حقيقيّة، فإنّنا نجدها متمثّلة في البحث عن معطيات الشّجرة الّتي ظلّ الشّاعر يلاحقها بلهفة وتشوّق، وكأنّ لديها ما يبحث عنه، فهو لم يكتف بالسّؤال عن ظلّها وشكلها، وإنّما ظلّ يسأل:
أين جذع الشّجرة ؟
ثمّ
أين …أين الشّجرة ؟
إنّ قولنا بتعلّق نصّ درويش بنصّ لوركا من خلال الشّجرة، لا يعني سلب معناها من قاموس درويش الشّعري، فمن المعلوم لقرّائه أنّه على علاقة حميمة مع الأشجار، حتّى إنّ دفاعه عنها يضاهي دفاعه عن قضيّة وطنه المستلب؛ ألم يقل: (( أنا مولع بالشّجر. أقف أمام الشّجرة مثل المسحور، فينازعني حنين لعناقها وتقبيلها، ولكنّي لا أستطيع التّحرّك لكي لا أخسر شيئاً من سحرها وتعاليها. واحتار في اختيار اسم لها: حكيمة، فاتنة. لا! لا! إنّها شجرة وكفى! ... ليتني طير كي أجعلها وطني... وطن آه هذه هي الكلمة!)) ؟(4)
بيد أنّ هذا لا يعني أيضاً نفي تعلّق نصّ درويـش بنصّ لوركا، وذلك استنتاج مبني على عناصر نصّيّة وخارج نصّيّة. أمّا الخارج النّصّيّة فتتمثّل في قوله:(( إنّ الشّجر يحمل مجدين: مجد الجمال، ومجد المنفعة.))(5) وهذه المقولة، وإن كان الشّاعر لا يقصد بها شجرة لوركا، فهي تدلّنا عليها عندما طالبت الحطّاب بقطع ظلّها حينما أصبحت بلا ثمر. وفي هذه الحالة تصحّ مقولة درويش لأن تتّسم بالميتانصّيّة الّتي بها نقرأ نصّ لوركا، وهو ما يتجلّى في حوار شجرته، ومن ثمّ نصّه هو ( درويش ) حيث تسلك الشّجرة طريق المجاز المؤدّي إلى معاينة واقع الأمّة، وفي هذا مدخل ملائم للاقتراب من العناصر النّصّيّة إن لم يكن قراءة لها. فتضمين القصيدة الدّرويشيّة عناصر لوركيّة مثل: الخنجر، والدّم في الأبيات موضع المقاربة، علاوة على ما صاحبها من عناصر نصّيّة رافقت المشهد الدّرامي لـ ( لأثداء المقطوعة )، وهي التّيمة اللوركيّة بامتياز.(6) وبالتّالي فإنّ هذا الحشد من العناصر الأسبانيّة في قصيدة درويش يجعل فرضيّة تعلّقها بنصّ لوركا مقبولة، لهذا فمن الطّبيعي أن يأخذ الشّاعر العربي المعاصر هذا الموضوع المتعلّق بعالم الغجر الّذي كشف لوركا عنه الغطاء ومزّق حجبه، وشيّد من نزيف جرحه معبراً لبلوغ أعتاب الوطن المفقود؛ هكذا يقول درويش:
وطني حقيبهْ
وحقيبتي وطن الغجر
شعب يخيِّم في الأغاني والدّخانْ
شعب يفتِّش عن مكان
بين الشّظايا والمطر.(7)
ما أقرب هذا المشهد المؤثّر إلى ذاك الّذي كتبه لوركا بالدّم الغجري في قصيدة (( حكاية الحرس المدني الأسباني Romance de la guardia civil Española))(8) وهو يصف مدينة الغجر ساعة اجتاحها الحرس المدني، وهي تعيش أجمل أغانيها، فزرع في كلّ ركن من زواياها النّار والدّخان. وكأنّنا الآن نقرأ نصّاً من خلال نصّ آخر، الأوّل هو السّابق- نصّ لوركا- والثّاني هو اللاحق- نصّ درويش- وبهذه القراءة يكون التّعلّق النّصّي قد أُنجز بين أعمال الشّاعرين الّتي يظلّ نموذجها في هاته المقاربة الشّجرة الّتي مدّت ظلّها بعيداً لتذيب بقبلاتها اللاهبة أضواء النّهار المندلقة في ليل القصيدة الطّويل.
الهوامش:
* نُشرت هاته المقالة في مجلّة ( شمال جنوب ) وهي مجلّة دوريّة نصف سنويّة ثنائيّة اللغة تصدر عن قسم اللغة الفرنسيّة_ كلّيّة الآداب_ جامعة السّابع من أكتوبر_ مصراتة_ ليبيا، العدد الثّاني/ الصّيف 2008 وقد ترجم المقالة في العدد ذاته إلى اللغة الفرنسيّة الأستاذ عبّاس محمّد الخالدي.
1_ للاطّلاع على المزيد انظر: محمّد عبدالرّضا شياع_ الخلفيّة النّصّيّة الأسبانيّة والشّعر العربي المعاصر: بحث في التّفاعل النّصّي، أطروحة دكتوراه الدّولة في الأدب المقارن_ مرقونة في شعبة اللغة العربيّة وآدابها_ كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة_ جامعة محمّد الخامس_ الرّباط، تاريخ المناقشة 29/05/2001.
2_ Federico Garcia Lorca – Obras Completas, 3a edicion, Madrid, pp: 348-349.
3_ محمود درويش_ ديوان محمود درويش، المجلّد الثّاني، دار العودة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1994، ص- ص:162_165.
4_ محمود درويش_ شيء عن الوطن، دار العودة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1971، ص ص: 93_94.
5_ المصدر نفسه، ص:91.
6_ Federico Garcia Lorca – Obras Completas, Op.cit, p-p:381-385 y p-p:386-388.
7_ محمود درويش_ ديوان محمود درويش، ( م.س )، ص ص:57_58.
8_ Federico Garcia Lorca – Obras completas, Op.cit, p-p:381-385.
#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟