الفصل الخامس من تقرير اللجنة التحضيرية الذي أقره المؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السوري المنعقد في دمشق بتاريخ 18/12/2003:
الفصل الخامس:
سورية نقطة مواجهة هامة:
تخوض سورية اليوم المعركة الأشرس في تاريخها ضد مخططات الامبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية، ومن كل ما تقدم يتبين أن هذه المخططات تهدف إلى إخضاع وتطويع منطقتنا ضمن إطار مخططاتها العالمية الشمولية، من هذه الزاوية تلعب سورية تاريخياً من الزاوية الجغرافية السياسية، ومن الزاوية المعنوية ــ السياسية أهمية كبرى لإحباط هذه المخططات، ومن ثم إلحاق الهزيمة بها.
وهذا الدور ليس جديداً على سورية، فهي لعبته طوال القرن العشرين من النضال من أجل الاستقلال، إلى النضال ضد الأحلاف الاستعمارية بعد الاستقلال، وصولاً إلى مواجهة العدو الإسرائيلي في المراحل المختلفة من الصراع. ويدرك الكثير من الاستراتيجيين، أن سورية هي مفتاح المنطقة، فأي مخطط إمبريالي لايمكن استكماله دون تطويع سورية، بل أن مقاومتها وحدها، كما أثبتت تجربة التاريخ قادرة على إفشاله مهما حقق من تقدم في المنطقة. لذلك ترتدي قضية تعزيز صمود الشعب السوري أهمية كبرى في الظروف الحالية، هذا الصمود الذي كانت الوحدة الوطنية عماده دائماً. وعلى أساس ذلك فإن إيجاد المناخ الملائم لتعزيز الوحدة الوطنية، قضية ذات أهمية قصوى في الظروف الحالية، وبما أن هذه الوحدة الوطنية تتكون ضمن ظروف اقتصادية اجتماعية وسياسية محددة، فلابد من بحث جميع هذه القضايا:
1. الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي:
تميز التطور الاقتصادي في البلاد خلال السنين الماضية بالسمات التالية:
- انخفاض نسب نمو الدخل الوطني إلى ما تحت معدلات النمو السكاني، مما يعني عملياً الانخفاض المطلق المستمر للحصة الوسطية المحتملة للفرد من الدخل الوطني.
- رغم كل زيادات الأجور التي تمت، لم يجر تحسن في مستوى معيشة الجماهير الشعبية الواسعة، وحافظت الهوة بين الأجور والأسعار على وضعها. والتي تتميز بفارق بين مستوى الأجور وضرورات مستوى المعيشة يصل إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف.
- لم تعط حملات مكافحة الفساد المعلنة أي نتائج تذكر على مستوى معالجة موضوع النهب الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني، وخاصة من قبل البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية. وتقول آخر الأرقام أن الأموال المودعة في الخارج تصل إلى 100 ـ 180 مليار دولار.
- استمر معدل البطالة العالي، ولم تفلح بعض المحاولات الإصلاحية الطفيفة في إيجاد حلول تذكر لهذه المشكلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الكبرى. إذ يصل اليوم حجم البطالة إلى أكثر من (20%) من قوة العمل في أحسن التقديرات. أو إلى (12 ـ 15 %) من السكان، وإلى 50% بين الشباب.
وترافق كل ذلك بنقاشات واقتراحات مختلفة حول اتجاهات الإصلاح الاقتصادي المفترضة، لم تؤد حتى اليوم إلى الوصول إلى برامج تتضمن أهداف محددة مجدولة زمنياً. ويجري الصراع في هذه المجال بين اتجاهين أساسيين يعكسان مجرى الصراع الطبقي في البلاد، وهما:
- اتجاه قوى السوق الكبرى الملتحقة ببرامج العولمة المتوحشة.
- الاتجاه النقيض الذي يعكس المصالح الوطنية ومصالح الجماهير الشعبية في البلاد.
وما بين هذين الاتجاهين، هناك العديد من التلاوين المتأرجحة في طروحاتها ما بينهما.
إن اتجاه قوى السوق الكبرى مستفيداً من الأوضاع العالمية والإقليمية المستجدة، يريد اليوم فرض برنامجه كاملاً بلا نقصان، وبغض النظر عن الأشكال التخفيفية التي يقدم فيها هذا البرنامج من أجل تسهيل مروره، إلا أن جوهره يستند إلى الأمور التالية:
- اعتبار قطاع الدولة السبب الرئيسي في المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الوطني من انخفاض معدلات النمو إلى انخفاض مستوى المعيشة.
- يُطالب على هذا الأساس بالانفتاح الكامل على قوى السوق الرأسمالية العالمية ويركز بالدرجة الأولى على الانفتاح المالي النقدي، الذي يسهل حركة الرساميل من وإلى البلاد. الأمر الذي لابد منه لإخراج الأرباح الجديدة المتوفرة إذا ما تم هذا الأمر.
- لذلك يركز الآن على أن اقتصاد السوق المفتوح، مع إلغاء فعلي لأي دور للدولة اقتصادي ـ اجتماعي، حتى في الإطار التوجيهي هو أمر ضروري للانتعاش الاقتصادي المأمول.
ويلاقي هذا البرنامج قبولاً خارج القاعدة الاجتماعية المستفيدة منه أحياناً، وهي بالذات قوى البرجوازية الطفيلية، لأن حجم النهب الكبير الذي يتعرض له قطاع الدولة على يد نفس هذه القوى المتواطئة مع أوساط البرجوازية البيروقراطية يخلق بلبلة تسمح بالدعاية التي تحمل قطاع الدولة الخاسر شكلياً، المخسر فعلياً، مسؤولية الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي تعاني منه البلاد.
وهنا يجب لفت الانتباه إلى أن أوساط من البرجوازية البيروقراطية، هي ليست من حيث المبدأ ضد هذا البرنامج، ولكنها لم تستطع بسبب الظروف العالمية والإقليمية التي تستفيد منها إلى حد كبير قوى البرجوازية الطفيلية، أن تصل إلى اتفاق معها حول تقاسم جديد للمصالح والحصص والوظائف. وينعكس هذا الموضوع في مجال الرؤى المختلفة المطروحة حول الإصلاح الاقتصادي، وبالتالي حول وظيفة قطاع الدولة وحجمه في المرحلة اللاحقة.
والجدير بالذكر فإن الضغط الذي يُمارس لإلغاء أي دور للدولة في الحياة الاقتصادية ـ الاجتماعية، لم تثبت الحياة فائدته في أية بقعة من العالم حيث جرى ذلك. بل بالعكس يمكن القول أن بعض التجارب الانفتاحية تحت شعار اقتصاد السوق والتي حققت نتائج مؤقتة في مرحلة ما، ما لبثت أن انهارت، مثل تجربة جنوب شرق آسيا، قد جرت كلها في ظل دور توجيهي تخطيطي قوي للدولة.
إن الاستعصاء الذي يواجه قوى السوق الكبرى محلياً، دفعها مؤخراً للابتزاز مهددة أنه إذا جرى تأخير خصخصة قطاع الدولة، فهو قد يصبح في وضع لايمكن فيه التفكير بالتعامل معه بحجة أنه أصبح خردة، وهذه المحاولة واضحة الأهداف من أجل تسريع إنهاء مقاومة بعض أوساط البرجوازية البيروقراطية لخصخصة قطاع الدولة، هذا القطاع الذي كان خلال فترة طويلة مجالاً واسعاً لنهبها ولثرواتها غير المشروعة.
نرى أن الخصخصة الكاملة أو الجزئية لقطاع الدولة ما هي إلا محاولة لإعادة هيكلة النهب الجاري، وإعادة اقتسام الحصص بشكل جديد بين الناهبين السابقين بمختلف شرائحهم.
- أما الاتجاه الثاني، فيرى أن المشكلة لا تكمن في طبيعة ملكية قطاع الدولة من حيث المبدأ، بل في شكل التوزيع الذي يجري للثروة المنتجة فيه، والتي تساهم بجزء هام جداً من الدخل الوطني، هذا التوزيع الذي يعتبر النهب الكبير أحد أشكاله الأساسية. والغريب أن تكون الكثير من مؤسسات القطاع العام خاسرة دفترياً، بينما كل من يتعامل معها من خارجها إن كان من حيث الإمداد أو التسويق رابحاً بشكل فاحش، وهذا إن كان يدل على شيء، فإنه يدل أنه عبر هذه الآلية يجري شفط القيمة المنتجة في قطاع الدولة لصالح قوى النهب. ليظهر في نهاية المطاف أمام المجتمع أنه هو الخاسر والمسبب لكل المشاكل، بينما في واقع الأمر فإن المشكلة الحقيقية تكمن في آليات النهب التي تستخدم آليات توزيع وإعادة توزيع الدخل الوطني لصالحها إلى حد كبير.
لذلك فإن المشكلة لايمكن أن تُحل فقط بمحاربة الفساد المتجلي بأشخاص معينين، إذا جرى ذلك بقدر ما يجب كسر آليات النهب التي تؤدي إلى كبح التطور الاقتصادي، وإلى سرقة لقمة الشعب.
ومن هنا فإن الإصلاح الإداري الذي يهدف إلى وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، لن يحل المشكلة دون كسر آليات الفساد القادرة على إعادة إنتاج النهب بغض النظر على الأشخاص يديرون الاقتصاد الوطني.
لذلك يرتدي موضوع أولويات الإصلاح الاقتصادي أهمية كبرى، ومع الأسف الشديد لم تنعكس هذه الأولويات بشكل واضح وصحيح في برنامج الإصلاح الاقتصادي، أو في البيانات الحكومية. فما هي هذه الأولويات حسب وجهة نظرنا:
1. تحديد حجم الفاقد من الاقتصاد الوطني الذي يسببه النهب الكبير حجماً وموقعاً، والعمل على إغلاق كل منافذ النهب.ويقدر الاختصاصيون أن النسبة تتراوح بين (20 ـ 30%) من الدخل الوطني السنوي تذهب نهباً خارج دورة الاقتصاد الوطني لتحط الرحال في نهاية المطاف في البنوك الأجنبية، وهذا ما يفسر حجم الأموال الكبيرة المهربة والتي أصبح لا خلاف حول أن حجمها قد تجاوز الـ(100) مليار دولار، التي إذا قُسمت على سنين الخطط الخمسية السابقة، منذ الرابعة منها، لبلغ الحجم الوسطي للنهب السنوي (4) مليار دولار، وهو ما يعادل (20%) من الدخل الوطني المنتج سنوياً في الفترة الأخيرة، وما يعادل (130%) من كتلة الأجور سنوياً للعاملين في الدولة، وما يعادل (70%) من كتلة الأجور العامة في البلاد، وما يعادل الحجم السنوي التقريبي المعلن لأرباح قطاع الدولة، وما يعادل أخيراً (30%) من كتلة الأرباح السنوية بشقيها العام والخاص.
إن الحجم الكارثي للنهب أصبح معيقاً لكل التطور اللاحق، وأصبح من المستحيل حل أي قضية اقتصادية ـ اجتماعية، دون الإيقاف الفوري والسريع لهذا النزيف.
إن إعادة هذا الحجم من الفاقد إلى دورة الاقتصاد الوطني سيسمح بإقلاعه بوتيرة عالية تسمح بحل كل مشاكله خلال فترة قصيرة، لذلك يصبح الحديث عن جلب استثمارات خارجية لضخها في الاقتصاد الوطني لتحقيق النمو المطلوب، في ظل هذا الوضع، أمر غير مجدي ومستحيل. وقد أثبتت تجربة قانون الاستثمار رقم (10) خلال السنين العشر الماضية عدم جدوى هذا الأسلوب. إن الطريقة الوحيدة المضمونة لتأمين موارد للتطور اللاحق للاقتصاد الوطني، هي تعبئة كل الموارد الداخلية، وهذا أمر ممكن من الناحية المبدئية، ولكن في وجهه تقف تلك القوى التي ستتضرر مصالحها من هذه العملية، وهي في سعيها لتركيز الانتباه على الاستثمارات الخارجية تريد كسب الوقت للاستمرار ما أمكن في عملية نهب الاقتصاد الوطني.
إن هذا الفاقد الكبير من الثروة الوطنية، قادر إذا ما استرجع أن يحل مشكلة التراكم في الاقتصاد الوطني من أجل توسيع الإنتاج اللاحق التي كانت مستوياته متدنية جداً خلال الحقبة السابقة. هذا التراكم الذي هو أمر لابد منه لتأمين نسب نمو عالية، كما أنه قادر على إحداث تعديل جذري في مستوى المعيشة للجماهير الشعبية الواسعة.
وبالمناسبة فإن برنامج الإصلاح الاقتصادي يضع هدفاً للنمو بعد سبع سنوات (6%) فقط، وإذا اعتبرنا حسب الأرقام الرسمية أن نسبة النمو الحالية هي (3%) يمكن أن نستنتج أن المقصود هو الزيادة الدورية لنسبة النمو (0.5%) سنوياً خلال السنوات السبع، مما يعني أن وتيرة نسبة النمو المقترحة هي متناقصة، أي عوضاً عن أن تكون وتيرة النمو متسارعة، يقترح برنامج الإصلاح الاقتصادي وتيرة نمو متناقصة!، وهذا بحد ذاته يؤكد أن موضوع النمو اللاحق لا يُدرس بشكل جدي كأحد مؤشرات فعالية الاقتصاد الوطني.
لماذا نركز على قضية النمو؟، لأنه في ظل المستوى الحالي لإنتاج الدخل الوطني، وفي إطار المستقبل المنظور أصبحت هذه القضية قضية وطنية شاملة لأنها مرتبطة بتسريع أو تبطيء أو إلغاء إمكانية حل المشاكل الاقتصادية ـ الاجتماعية وكما تبين هذا الموضوع مستحيل الحل دون اجتثاث النهب من جذوره.
من وجهة النظر الماركسية فإن شكل علاقات الإنتاج الرأسمالي الذي يغلب عليه الطابع الطفيلي والذي يتميز بالنهب الكبير الموجه للخارج للثروة الوطنية، أصبح ليس فقط معيقاً لتطور القوى المنتجة، بما فيه الشق البشري منها، بل أصبح يحت ويفتت ويدمر هذه القوى المنتجة فلمصلحة من يجب أن يستمر ذلك؟! إن القوى الوطنية التي يهمها استمرار الدور السوري كنقطة مواجهة دائمة مع مخططات الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية التي تستهدف السيادة والكرامة الوطنية، لا يهمها أبداً الاستمرار في هذا الوضع، بل يجب أن يهمها العكس. لذلك تتداخل هنا في مثال واضح غير قابل للنقاش، القضية الوطنية بمعناها العام والقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية بمعناها الخاص.
2. ردم الهوة بين الأجور والأسعار يجب أن يكون من أولويات الإصلاح الاقتصادي الفورية، ولن يكون له معنى إلا إذا تم حل هذه المشكلة ضمن فترة زمنية قصيرة نسبياً، وأصبح واضحاً نتيجة ضعف التطور الاقتصادي أنه لم يعد ممكناً الآن حل هذه المهمة فوراً بضربة واحدة، لأن الهوة بين المستوى الوسطي للأجور والمستوى الوسطي للمعيشة، أصبح يتراوح بين (3 ـ 4) أضعاف، فإذا كان الحد الأدنى للأجور اليوم هو (3500) ل.س فإن الحد الأدنى لمستوى المعيشة يجب أن لا يقل عن (15000) ل.س، وإذا كان وسطي الأجور بين (5000 ـ 7000) ل.س فإن الحد الوسطي لمستوى المعيشة في ظل مستوى الأسعار الحالي يجب أن لايقل عن (25000) ل.س، لذلك فإن البحث عن موارد حقيقية لتمويل هذه الزيادات الضرورية كي تحل المشكلة خلال فترة زمنية أقصاها خمسة سنوات وبالتدريج، سيتطلب إجرائين جذريين:
- تغيير المعادلة بين الأجور والأرباح في الدخل الوطني، القائمة حالياً على أساس (30 ـ 70 %)، مما يتطلب رقع نسبة الأجور على حساب نسبة الأرباح ومن المعروف أن العلاقة المتوازنة بين الأجور والأرباح تتراوح بين (40 ـ 60%) كحد أدنى وأعلى بين طرفي المعادلة. وليس من نافل القول التذكير أن معالجة موضوع النهب يمكن أن يصبح أحد الموارد الرئيسية لزيادات الأجور ضمن إطار تعديل المعادلة المطلوب.
- الاتجاه وبشكل سريع نحو نسب نمو عالية للاقتصاد الوطني تؤمن رفع معدلات الاستهلاك اللاحقة، وبالتالي تؤمن تطور ديناميكي للأجور، ومعدلات النمو هذه يجب أن تضمن مضاعفة الدخل الوطني خلال سبع سنوات، أي يجب أن تضمن نمواً وسطياً سنوياً بين (8 ـ 10%) مما سيتطلب نسب تراكم مضاعفة على أقل تقدير من التي تجري حالياً. وهذا بحد ذاته بالتالي سيؤمن وتيرة متصاعدة للنمو، وواضح أن حل هذه المهمة مستحيل دون الإجراء الذي لا نكف عن ذكره وهو اجتثاث النهب كشرط ضروري لهذه العملية، ودون رفع الأجور ضمن الحدود التي تحدثنا عنها أعلاه كشرط كاف للموضوع نفسه.
لذلك فإن البرنامج النقيص لبرنامج السوق، والذي يعبر عن مصالح الجماهير الشعبية، إن كان يمكن التعبير عنه اقتصادياً بالأرقام التي أتينا على ذكرها، إلا أنه اجتماعياً يتطلب تغيير ميزان القوى الطبقي في البلاد، في إطار المعركة الوطنية الكبرى الجارية، لصالح أصحاب المصلحة الحقيقية في الحفاظ على الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية والكرامة الوطنية، أي الجماهير الشعبية الواسعة، وضد قوى النهب التي أصبحت جزء لا يتجزأ في نهاية المطاف من قوى العدوان الخارجي لأنها حامل برنامجها الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يهيئ لتفتيت الوحدة الوطنية من أجل الإجهاز على الاستقلال والسيادة الوطنية.
3. إصلاح جذري لقطاع الدولة يهدف إلى تخليصه من ناهبيه وإعادة بث الحياة فيه عبر إنعاشه بموارد إضافية تم حجبها عنه بشكل مقصود أو غير مقصود خلال الحقبة الماضية، مما أدى إلى تخلف كبير في بنيته وفي أدواته، وهذا الإصلاح لايمكن أن يمر إلا عبر إعادة النظر بالسياسات السابقة المتبعة تجاه قطاع الدولة، وخاصة المالية والأجرية والضريبية.
إن قطاع دولة قوي نظيف من النهب، هو ضمانة للأمن الوطني بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لذلك فإن المشكلة تكمن ليس في فصل الإدارة عن الملكية، بل في محاسبة الإدارة جدياً على أساس معايير ومقاييس مبررة علمياً وموضوعياً على الملكية المؤتمنة عليها من قبل الشعب والدولة. ونظام المعايير هذا سيسمح برصد الفعالية الحقيقية لأداء مؤسسات قطاع الدولة، مما سيسمح بتقييمها موضوعياً، وليس على أساس الحسابات الدفترية التي تعتمد بالدرجة الأولى على حساب الربح عبر السعر المحدد في السوق خارج إرادة المنتجين الحقيقيين.
إن موضوع معايير ومقاييس تقييم أداء قطاع الدولة هو موضوع علمي معقد، يتطلب دراسته بعمق، حوار وطني من أجل الوصول إلى حلول حقيقية، والبحث عن حل لمشاكل قطاع الدولة خارج إطار تخليصه من النهب وخارج إطار وضع معايير موضوعية لأدائه لن يعطي أي نتيجة بل سيبقي الموضوع دائراً في حلقة مفرغة، مما سيسمح لقوى السوق الكبرى بالتعاون مع المتواطئين معها من ضمن قطاع الدولة، الإجهاز عليه لاحقاً، ومن الضروري هنا التذكير بتجربة كل من سبقنا على طريق تقييد قطاع الدولة والحد من دوره، مما يتطلب دراسة لهذه التجارب التي فشلت بأجمعها، ولم تعط إلا نتائج عكس المعلن عنها في بادئ الأمر.
إن وضع الاقتصاد الوطني وقطاع الدولة يتطلب الدعوة إلى مؤتمر وطني لبحث الموضوع وإيجاد الحلول الضرورية السريعة.
إن الصراع بين هذين البرنامجين يسبب اصطفافات اجتماعية وسياسية مختلفة. والملفت للنظر في ظل تعقيد الوضع الحالي أن هنالك قوى ترى أن برنامج قوى السوق الليبرالي هو ضروري للوصول إلى ديمقراطية في المجتمع، مستندة إلى تجربة أوروبا الغربية في القرون ما قبل العشرين، وبالفعل فإن برنامج البرجوازية الأوروبية الليبرالي اقتصادياً قد رافقه بشكل مواز أشكال من الحريات السياسية، انتزعتها الطبقة العاملة في مجرى النضال العام، ودفعت الكثير للحصول عليها. ولكن الذي لا يقال أنه بعد استقرار الرأسمالية في مراكزها العالمية الأساسية لم يترافق انتشار الرأسمالية في الأطراف ببرامجها الليبرالية اقتصادياً مع إشاعة الديمقراطية، بل كل تجربة العالم الثالث تؤكد العكس، وهو أن الليبرالية الاقتصادية قد ترافقت مع مزيد من تقييد الحريات السياسية ومزيد من الحد من الحريات الديمقراطية ومزيد من القمع.
واليوم في عصر العولمة المتوحشة يصبح نشر النموذج الليبرالي الاقتصادي مترافق بالضرورة، كما ثبتت الأحداث، ليس فقط مع القمع السياسي لأنظمة تابعة، بل وصل الأمر إلى الاحتلال العسكري المباشر الذي كان أحد نتائجه الأولى في العراق، هو إعلان برنامج بريمر للخصخصة الشاملة للمؤسسات العراقية في مناقصة سرية دولية استقدم لها أكبر أخصائيي ما يسمى بـ«الخصخصة النهبية» في روسيا، مثل غايدار.
لذلك، فإذا كان مستوى الحريات السياسية في بلادنا لا يلائم متطلبات الواقع وضرورات الحياة فإن الطريق إليها لا يمر أبداً عبر الليبرالية الاقتصادية. كما أن إبقاء الوضع القائم كما هو عليه دون أي تغيير اقتصادياً واجتماعياً وديمقراطياً، يحمل في كنفه خطر فتح الطريق أمام قوى السوق لتنفيذ أهدافها البعيدة.
إن بعض القوى في جهاز الدولة، والمستفيدة من النهب، تخاف من توسيع مدى الحريات السياسية، وهذا مفهوم، لأن نهبها سيكون المتضرر الأول. ولكن في تقييدها للحريات السياسية تعطي قوى السوق المجال لاستخدام كلمة حق لتصل إلى باطل الأباطيل. فلنستفيد من تجارب غيرنا عبر دفع المجتمع نحو أوسع حريات سياسية ممكنة، لأن في ذلك الضمانة الحقيقية لحل المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، هذا الأمر الذي بمجمله سيصلب الوحدة الوطنية ويخلق الظروف الملائمة كي يتحول كل مواطن سوري إلى مقاوم للمخططات العدوانية الإمبريالية الأمريكية والصهيونية.
وأخيراً لابد من الإشارة في هذا المجال، أن قوى النهب الكبرى قد سعت تاريخياً الى تعميم الفساد في إطار المجتمع بشكل عام، وفي جهاز الدولة بشكل خاص، وهي تهدف من وراء ذلك الى إبعاد الانتباه عن جوهر المشكلة الحقيقي الذي هو النهب الكبير، أي حماية نفسها من المجتمع، لقد كان الفساد نتاجاً للنهب ولايمكن الخلاص منه إلاّ باجتثاث جذوره، مما سيؤمن الأرضية الضرورية للنضال الحقيقي والفعال ضد الفساد وكل آثاره الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
2. البنية الطبقية والقوى المحركة للمجتمع السوري:
لقد شخص حزبنا منذ أواسط السبعينات البنية الطبقية المستجدة في المجتمع السوري، وأشار إلى نمو الطبقة العاملة، وتحول البرجوازية الطفيلية إلى قوة مادية، وحذر من أخطارها اللاحقة، وأشار إلى تعاونها مع أوساط البرجوازية البيروقراطية اللتان تنهبان معاً الدولة والشعب.
كما أن المؤتمر التاسع أكد صحة هذا الاتجاه في التحليل، بما فيه أن علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة يغلب عليها الطابع الطفيلي.
وكان التصور حتى ذلك الحين، خاصة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وما بعده بقليل، أن الطابع الطفيلي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية هو طابع مؤقت يمكن التخلص منه عبر عقلنة التطور الاقتصادي. ولكن الأحداث والتطورات بعد 11 أيلول 2001 في ظل استشراس العولمة المتوحشة، تضع على بساط البحث بشكل جدي موضوعة طفيلية علاقات الإنتاج الرأسمالية ومدى ديمومتها، أي هل مازالت ظاهرة مؤقتة يمكن النضال ضدها لوحدها، أم أنها أصبحت صفة ملازمة بالضرورة للتطور الرأسمالي في عصر العولمة الإمبريالية. وللإجابة على هذا السؤال، تستدعي جملة من الاستنتاجات الهامة والجذرية، لأنها بدورها تفرض سؤالاً آخراً حول البرجوازية الوطنية وفعاليتها وقدرتها في الظروف الجديدة على لعب دور أساسي في التطور اللاحق، مع عدم نفينا لوجود برجوازية وطنية تعمل في مجال الإنتاج المادي ومتضررة من النشاط البرجوازي الطفيلي، إلا أن قدرتها على لعب دور اقتصادي وسياسي فعال، أصبحت اليوم ضمن المستجدات الدولية والإقليمية، موضع تساؤل جدي.وفي كل الأحوال يبقى التناقض الأساسي في المجتمع قائماَ بين قوى البرجوازية الطفيلية التي نسميها بقوى السوق الكبرى من جهة، وبين مجموع الجماهير الشعبية، وفي طليعتها الطبقة العاملة من جهة أخرى.
وقد ازداد في العقد الأخير الوزن النوعي للبرجوازية الطفيلية في الحياة الاقتصادية للبلاد من خلال تأثيرها على القرارات الاقتصادية، وهي إن كانت تهيئ نفسها اليوم للانقضاض على القرار السياسي أو للمشاركة فيه على الأقل، فإن المسؤولية الأساسية فيما وصل إليه الوضع اليوم في هذا المجال تتحمله أوساط لبرجوازية البيروقراطية التي تحالفت تاريخياً مع البرجوازية الطفيلية في نهب الدولة والشعب معاً. وإذا أضفنا الى ذلك الضغوطات الخارجية والتعقيدات في الوضع الإقليمي، يصبح هامش المناورة لدى أوساط البرجوازية البيروقراطية ضعيفاً جداً، في ظل تراجع الحركة السياسية وضعف نشاطها في البلاد.
والمعروف أن البرجوازية الطفيلية تستمد قوتها، ليس من سعة قاعدتها الاجتماعية الضيقة جداً أصلاً، بل من علاقاتها الدولية الاقتصادية والسياسية مع النظام الإمبريالي العالمي. ويزيد من وزنها النوعي تواطؤ أجزاء هامة من البرجوازية البيروقراطية معها. ومع أن تمركز الرأسمال قد بلغ حدوداً عالية لدى هاتين البرجوازيتين، وأصبحت الحدود بينهما في مجال النشاط الاقتصادي متشابكة أحياناً كثيرة، وأصبح ممارستهما للدور الوظيفي الذي يقوم به الرأسمال المالي عادة واضحة للعيان، هذا الرأسمال الذي وصفه لينين بأنه اندماج بين الرأسمال المصرفي والصناعي بالدرجة الأولى، إلا أن الفوارق بينهما في مجال ممارسة الدور الوظيفي مازالت قائمة، مما يخلق تناقضات هامة بينهما لايمكن تصنيفها بإطار الصراع الطبقي الجاري إلا بالتناقضات الثانوية. ولكن المشكلة أنه في ظل العوامل الكابحة لاحتدام التناقض الأساسي، تحتل هذه التناقضات الثانوية أحياناً موقعاً هاماً وتتحول مؤقتاً إلى تناقضات رئيسية.
إن لا وطنية البرجوازية الطفيلية، أي قوى السوق الكبرى، هو توصيف قديم لحزبنا، ولكن المشكلة اليوم في ظل اختلال ميزان القوى الدولي والإقليمي أن هناك أوساط هامة من البرجوازية البيروقراطية تبحث عن مساومة جدية مع البرجوازية الطفيلية ضمن إطار إعادة التقاسم الوظيفي تسمح باستمرار مصالحها التي يمكن أن تتضرر في ظل تنامي قوى البرجوازية الطفيلية.
إن تنفيذ برنامج قوى السوق، جزئياً أو كلياً، إن كان من جهة سيغير الدور الوظيفي السابق الذي كانت تقوم به البرجوازية البيروقراطية، إلا أن نتيجته الأساسية ستكون احتدام الصراع الطبقي في البلاد وتبلوره بين القطبين النقيضين الأساسيين وهو ما سيدفع موضوعياً بالقوى المتضررة من هذا البرنامج إلى التحالف والتكاتف للوقوف بوجهه، وغني عن الذكر أن هذا البرنامج ببنوده المختلفة ليس برنامجاً اقتصادياً ـ اجتماعياً بحتاً، بل هو برنامج سياسي يتطلب تنفيذه التفريط بالاستقلال الوطني والسيادة الوطنية. والقوى المتضررة من هذا البرنامج هي قوى واسعة، تبدأ بالطبقة العاملة مروراً بأوساط البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف وصولاً إلى أوساط من البرجوازية الوطنية الكبرى يمكن أن تكون أجزاء غير مهمة من البرجوازية البيروقراطية جزءاً منها بسبب تضرر مصالحها المباشرة من هذا البرنامج.
وإذا انطلقنا من الفكرة الماركسية الواضحة التي تقول: «أن القاعدة الاجتماعية لأي فكرة لا تتطابق بالضرورة مع قاعدتها الجماهيرية، أي أن هذه القاعدة يمكن أن تكون أضيق أو أوسع من القاعدة الاجتماعية».
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن التاريخ في لحظات انعطافية كثيرة شهد حالات كهذه، مثل الحزب الشيوعي الألماني في الثلاثينات الذي كانت قاعدته الاجتماعية حكماً الطبقة العاملة الألمانية، إلا أن قاعدته الجماهيرية كانت أضيق بكثير من قاعدته الاجتماعية بسبب ظروف تاريخية محددة. ومثل مصر بعد ثورة 1952 حيث كانت القاعدة الجماهيرية للنظام أوسع بكثير من قاعدته الاجتماعية التي كانت تمثلها في أحسن الأحوال الفئات المتنورة من البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف.
إذا انطلقنا من كل ذلك، يتضح لنا أنه في ظروف سورية حتى اليوم، إن كانت القاعدة الاجتماعية للبرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية ضيقة جداً لا تخرج أبداً عن حدودهما، إلا أن قاعدتهما الجماهيرية هي أوسع بكثير من قاعدتهما الاجتماعية، بسبب ظروف محددة مرتبطة من جهة بالقدرة الاقتصادية الكبيرة لهاتين البرجوازيتين، ومن جهة أخرى بالقدرة الضعيفة المرتبطة بأسباب موضوعية وذاتية للحركة السياسية التي يفترض أن تمثل موضوعياً مصالح الجماهير الشعبية الواسعة. إلا أن حركة التاريخ قد علمتنا أن عدم التطابق بين القاعدة الاجتماعية والجماهيرية هي حالة مؤقتة، لابد أن تستقيم في نهاية المطاف كي يجري التطابق بين هاتين القاعدتين بسبب احتدام الصراع الطبقي. وإذا أضفنا إلى ذلك ظروف سورية الخاصة التي تندمج فيها المعركة الوطنية الكبرى ضد مخططات الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية مع المعركة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي يمر فيها أيضاً خط المواجهة، لاستنتجنا أن قدرة الحركة الوطنية الحاملة لبرنامج اقتصادي ـ اجتماعي ديمقراطي واضح المعالم ضد الرأسمالية، هي إمكانيات واسعة ومفتوحة وتطور الحياة نفسها سيسمح لهذه الحركة بالتصدي لقوى السوق وإنزال الهزيمة بها إذا استطاعت العودة إلى الجماهير وإيجاد لغة مشتركة معها وتعبئتها بالشكل المطلوب.
إن عملية تجذير الوعي الطبقي المعادي للرأسمالية لدى الطبقة العاملة وأوسع الجماهير الشعبية، يجري قدماً وبتسارع كبير بسبب الضغط الذي تمارسه الإمبريالية الأمريكية الواضح المكشوف العلني، عبر ممثليها من قوى السوق من أجل تنفيذ برنامجها الاقتصادي الاجتماعي السياسي بكامل بنوده. وإلى جانب ذلك، وبسبب التمركز العالي للرأسمال المالي، تتسع جماهير المتضررين، مما يخلق الأرضية الموضوعية لإمكانية تغيير ميزان القوى الطبقي لصالح المعركة الوطنية.
إن كل ذلك يخلق آفاق جديدة لإعادة اصطفاف اجتماعي سياسي في البلاد، تصبح فيه الأمور واضحة المعالم وتعكس التناقض العالمي الأساسي بين العمل ورأس المال، والذي يتجلى في ظروفنا الخاصة باندماج المهام الوطنية العامة مع المهام الاقتصادية الاجتماعية مع المهام الديمقراطية.
إن وعي هذه الحقائق، وصحة التعامل معها، سيفتح المجال لإنعاش الحركة السياسية بشكل عام كي تلعب فيها القوى الوطنية دوراً أساسياً يعكس تصاعد دور الجماهير في الحياة السياسية.
3. الحركة السياسية في البلاد، واقعها وآفاقها:
إن الواقع الذي يجب الاعتراف به أن هناك هوة كبيرة بين الحركة السياسية في البلاد بمختلف مكوناتها وبين الجماهير الشعبية. وإذا كنا لا نريد القول أن هناك اغتراب بين الحركة السياسية بمختلف مكوناتها عن الجماهير الشعبية، فإننا يمكن أن نؤكد أن هناك انكفاء واضح للحركة السياسية المنظمة عن حركة الشارع، هذا الانكفاء الذي إذا قيس خلال العقود الماضية، لتبين أنه يسير بخط تصاعدي منذ الستينات، بالمقارنة مع الخمسينات... وهكذا دواليك..
وقد أدى هذا الانكفاء بنتائجه السلبية المختلفة الى انتعاش الأشكال المتخلفة للنشاط الاجتماعي، والتي كانت تميز المجتمعات في مرحلة ماقبل تطور الحركات السياسية فيه، إن اشتداد مشاعر التعصب القومي والديني والطائفي، ماهي إلاّ نتيجة لتراجع الحركة السياسية.
إن كل تحليلنا في السابق، كان يستند إلى فكرة مفادها أن هذا الانكفاء هو انكفاء مؤقت، وإن كان فعلاً مؤقتاً، فقد طال أمده، ووصل إلى مدى أصبحت في بنى الكثير من الحركات السياسية القائمة، بنى شكلية لا تعكس قوى فعلية على الأرض. وهذا الأمر، حينما نتحدث عنه، إنما نقصد في ظروفنا الحالية القوى داخل الجبهة وخارجها، إن كانت مؤيدة أو معارضة للنظام. إن الاعتراف بهذا الواقع هو مدخل حقيقي من أجل الخروج منه، هذا الأمر الذي أصبح ضرورة لامناص منها في ظروف احتدام الصراع في المنطقة في الفترة الأخيرة.
ويكمن جوهر المشكلة، على الأرجح، في أن الكثير من الأحزاب السياسية فقدت خلال العقود الماضية بالتدريج دورها الوظيفي في المجتمع، وعندما تصبح أحزاب بدون وظيفة تتحول إلى أحزاب شكلية، وتكون أحزاب حقيقية عندما تعبر بالفعل عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشرائح والطبقات الاجتماعية التي تمثلها. بل لا يكفي هذا التعبير الذي يجب أن يترافق مع فعل حقيقي على الأرض كي يتحول هذا التعبير إلى واقع. والحقيقة أن الصراع الاجتماعي في المجتمع ممكن أن يجري، وهو أمر موضوعي لا راد له، ولكن الحقيقة الأخرى التي يجب الاعتراف بها أن هذا الصراع يمكن أن يجري دون أحزاب إذا لم تستطع هذه الأخيرة تحديد دورها الوظيفي وممارسته على الأرض.
وإذا كان هنالك أسباب موضوعية لتراجع الحركة السياسية الوطنية، وهو ابتعادها عن تنفيذ برامجها المعلنة، وتحقق عكسها في الواقع، بسبب الأوضاع العالمية وتناسبات القوى في إطارها في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن الأسباب الخاصة المحلية والذاتية قد جاءت لتزيد الطين بلة، فأحد الأسباب الموضوعية الأساسية لتراجع الحركة السياسية الوطنية هو ضيق الهامش الديمقراطي المطلوب ومحاولات الاحتواء التي مارستها أجهزة الدولة خلال هذه الفترة. إن جهاز الدولة كجهاز مستقل نسبياً عن المجتمع له مصلحة دائماً في أي نظام كان، حسب ما تعلمنا الماركسية، أن يفلت من تحت رقابة المجتمع، وأن تصبح له بالتالي مصالحه الخاصة نسبياً التي تدفعه لاحتواء الحركات السياسية بأشكال مختلفة من أجل منعها من التفاعل مع المجتمع، كي لا يؤثر هذا الأمر على مصالحه.
إن تجربة الاتحاد السوفييتي فيها دلالات هامة جداً حول هذا الموضوع، فالمشكلة لم تكن بضرورة فصل الحزب عن الدولة، كما يتصور البعض، بل في اندماج هذا الحزب في جهاز الدولة، هذا الاندماج الذي أدى بالتدريج إلى تكييف جهاز الحزب مع مصالح جهاز الدولة، وبالتالي ابتعاده عن إمكانية تمثيل مصالح المجتمع.
إن النتيجة المنطقية لهذا الميل، إذا استمر، هو فقدان الحركة السياسية تأثيرها نهائياً على جهاز الدولة الذي يمكن أن يجري تحت شعارات ضخمة، أولها قيادة الحزب للدولة. إن القيادة الفعلية لأي حركة أو حركات سياسية لأي دولة لا يمكن أن تجري إلا عبر شرط ضروري أساسي، وهو الفصل التام لجهاز الحزب عن جهاز الدولة كي يحافظ الحزب، أو الأحزاب على سلطتها المعنوية أمام الجماهير التي تلعب الدور الحاسم في نهاية المطاف في تحديد مجرى التطور الاجتماعي السياسي.
لذلك توقفنا طويلاً في طرحنا وممارستنا خلال الأعوام التي تلت المؤتمر التاسع عند ضرورة تعديل النظام الانتخابي القائم في البلاد وإصدار قانون عصري للأحزاب، وفتحنا نقاشاً وطنياً عاماً حول الموضوع على صفحات «قاسيون» شارك فيه عملياً كل الطيف السياسي الوطني الموجود في البلاد. لأننا اعتبرنا أن المدخل لإزالة العوائق الموضوعية أمام تطور الحركة السياسية هو إعادة التفاعل بين الأحزاب والشارع، هذا الأمر الذي لايمكن أن يتم إلا عبر نظام انتخابي يُدخل القدر الكافي من الأكسجين إلى النظام السياسي، معتبرين أن النظام الانتخابي الحالي قد أصبح متخلفاً عن حاجات التطور السياسي، وهو السبب الرئيسي في إحداث غربة بين الناخب وممثله المفترض، وهو الذي يسمح بوجود الكثير من الثغرات التي يمكن النفاذ منها للتأثير والتلاعب بنتائج الانتخابات من قبل جهاز الدولة، مما يمنع الحركة الجماهيرية من التعبير عن نفسها، هذا التعبير الذي هو أصلاً باروميتر ضروري لأي دولة كي تستطيع قياس مزاج المجتمع وتوجهاته كي تأخذها بعين الاعتبار إذا أرادت الاستمرار بلعب دورها الوظيفي. وإلى جانب ذلك افترضنا أن أي قانون للأحزاب لا يستند إلى نظام انتخابي فعال لن يعط النتيجة المطلوبة منه، لأنه لن يعطي الحركة السياسية الأدوات الضرورية للخروج من الواقع الذي تعيش فيه. وهذا يفسر لماذا لم يستطع قانون المطبوعات الجديد بالرغم من كل الملاحظات التي وضعت عليه أن يلعب الدور المطلوب منه. فهو يجب أن يكون نتيجة لقانون أحزاب عصري التي سيعاد إنتاجها وربطها بالمجتمع عبر قانون انتخابات جديد وفعال.
إن أي محاولة إصلاحية في البلاد محكومة بالنجاح في حال استندت إلى قوى المجتمع النظيفة، وهذه القوى لايمكن تحريكها إلا عبر حزمة من القوانين التي تحدثنا عنها أعلاه، انتخابات، أحزاب، مطبوعات.وهي بالعكس محكومة بالفشل إذا استندت فقط إلى الحل ضمن إطار جهاز الدولة فقط (من جوا لجوا)، وهذا يبين كم هي هامة اليوم ومصيرية قضية إعادة السياسة إلى المجتمع التي تتطلب نشر أوسع الحريات الديمقراطية السياسية بالشكل الذي تقدم. وهذا يتطلب حكماً:
■ رفع الأحكام العرفية وحالة الطوارئ
■ إيقاف الاعتقالات السياسية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
■ تأمين مبدأ استقلالية القضاء وسيادة القانون.
■ تحديد دقيق يجد تعبيراته القانونية لمفهوم حقوق الإنسان من حق الحياة إلى حق العمل مروراً بحقوق التعبير عن الرأي والإضراب...إلخ.
■ تعديل النظام الانتخابي الحالي لمجلس الشعب.
■ إصدار قانون الأحزاب لقوننة الحياة السياسية في البلاد.
■ تعديل قانون المطبوعات كي يتجاوب مع المستجدات ومع الضرورات التي يفرضها نظام انتخابي وقانون أحزاب جديدين.
■ إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة لسنة 1962.
إن قوننة كل هذه القضايا ستسمح بقطع الطريق على بعض القوى التي تتاجر بها، ليس من أجل تحقيقها، بل من أجل الوصول إلى غايات أخرى تمس السيادة الوطنية وتمس جذرياً الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، ومن جهة أخرى فإن تأخير وعرقلة قوننة هذه المسائل بأية حجة كانت، تصب الماء موضوعياً في طاحونة الذين يعملون، كما يقال، لكسر الحلقة من الخارج.
إن روح المسؤولية تجاه قضايا الوطن والشعب، تجعلنا نقول اليوم بصراحة: أنه في ظل الوقت المتناقص في الأوضاع المعقدة التي تشهدها منطقتنا، لا خيار ولا بديل إلا نشر الحريات السياسية لتعبئة الجماهير الشعبية من أجل أن تدافع عن مصالحها الوطنية والاقتصادية ـ الاجتماعية.
إن القضية الديمقراطية بمتطلباتها الحالية، هي جزء لا يتجزأ من القضية الوطنية والمعاشية، لذلك نؤكد أن تلازم هذه المهام ووضعها جميعاً على سلم أولويات واحد، يتطلب نفي المقولات الضارة التي تقول حيناً بأولوية الجانب الديمقراطي على الجوانب الأخرى، أو تقول حيناً آخر بأولوية الجانب الوطني العام على الجوانب الأخرى.
إننا نرى أن كل هذه الجوانب هي جوانب لقضية واحدة لايمكن فصلها عن بعضها البعض، هي قضية الوطن والمواطن. من هذا المنطلق نرى أن الوقت مازال مناسباً لإطلاق الإصلاح الوطني الديمقراطي بجوانبه المختلفة، ولا نعتقد أن أي إصلاح سيكون مجدياً وفعالاً إذا لم يتصف بصفتين:
- الشمولية، أي معالجة جميع جوانب حياة المجتمع والدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
- والجذرية، أي المعالجة العميقة لكل المشاكل الحقيقية عبر إزالة مسبباتها الفعلية إن كانت هذه المشاكل تخص مستوى المعيشة، أو الفساد، أو النمو، أو الإدارة ....إلخ.
ومن جهة أخرى، نعتقد أن هناك أسباب ذاتية لتراجع الحركة السياسية متعلقة بالأحزاب نفسها، أي بنيتها وخطابها وممارستها، وفيما يخصنا نحن الشيوعيون، نستطيع القول أنه بعد تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية، تراكمت لدينا بالتدريج جملة من الأمراض، اصطلح على تسميتها بأمراض العمل الجبهوي، ونرى أن الحديث عن هذه الأمراض لا يضير التجربة الجبهوية بقدر ما يفيدها، فإذا كانت الجبهة التي تكونت في أوائل السبعينات، خطوة هامة بالمقارنة مع الوضع الذي سبقها في طريقة التعامل بين الأحزاب الوطنية، فإن هذه الخطوة بعد مضي عقود عليها تتطلب المراجعة النقدية الجدية، هذه المراجعة التي تفترض الجرأة والموضوعية في التقييم. وإذا أردنا تلخيص هذه الأمراض يمكن القول أنها تندرج في الآتي:
1. تنامي الميل لدى القيادات الحزبية في الركض وراء الامتيازات المعنوية والمادية، مما أبعدها بالتدريج عن قواعدها وكواردها وأدى إلى حدوث ما يشبه القطيعة بين هذه الأحزاب وجماهيرها المتكونة تاريخياً.
2. إن العمل الجبهوي كخطوة جديدة بالنسبة للأحزاب المنضوية فيه، قد خلق لها إمكانيات من خلال ممثليها في الوزارة ومجلس الشعب والإدارة المحلية والنقابات و...إلخ.. في حل بعض المشاكل المطلبية من فوق التي كانت تعالجها سابقاً من تحت عبر الجماهير عندما لم يكن لها تمثيل رسمي، هذا الأمر بالتدريج أضعف لياقة قيادات الأحزاب وكوادرها في العمل بين الجماهير والتعبير عن مصالحها، مما أدى إلى استسهال العمل من فوق والابتعاد عن العمل من تحت، الأمر الذي أفضى إلى فقدان تدريجي لعلاقة هذه الأحزاب مع جماهيرها السابقة. وقد ساهم هذا الأمر موضوعياً في إضعاف الحركة الجماهيرية ونشاطها، وهذا يؤكد كم هو هام الفصل بين الجهاز الحزبي وأجهزة الدولة.
إن العودة إلى الجماهير هو الطريق الوحيد للخروج من هذا الإشكال، وليس غريباً أنه في ظل هذا الوضع قد تحول الكثير من ممثلي الأحزاب في أجهزة الدولة إلى ممثلين للدولة في أحزابهم.
3. إن الأحزاب إذا أرادت أن تحافظ على نفسها كجسم حي لابد لها من التصدي دائماً للأمور المستجدة في المجتمع، هذا التصدي الذي يخلق بدوره نقاشات وسجالات وحتى صراعات أحياناً. إن الصراع الفكري والسياسي في الأحزاب، ضمن الأطر التنظيمية، هو صراع صحي كما تعلمنا الماركسية، يدفع هذه الأحزاب إلى الأمام. ولكن في ظل وضع أخذت بعض القيادات الحزبية، خوفاً على امتيازاتها الجديدة، بالتصدي للآراء المخالفة بالقمع، وحتى بمحاولة استعداء الحلفاء على الرفاق في الداخل، مما كان يعطل التطور الحزبي الطبيعي ويؤدي إلى إضعاف الثقة التدريجية بين القيادات والكوادر التي حل محلها في كثير من الأحوال حالة غربة كاملة. لذلك ليس من الغريب أن تكون أفواج التاركين والمبعدين أكثر بكثير من الباقين الذين أصبحوا، جلهم، من المستفيدين من امتيازات التعاون الجبهوي، أو من الطامحين للاستفادة منه. لذلك ليس غريباً الوضع الناشئ الذي يتميز بالضعف الشديد لهذه الأحزاب أمام استحقاقات العمل السياسي في الأوضاع الحالية.
إن دراسة تجربة الجبهة الوطنية التقدمية بمجملها تتطلب في نهاية المطاف الجواب على سؤال حقيقي، وهو: لماذا لم تستطع هذه الجبهة تنفيذ برنامجها والقيام بدورها؟!.
إن مجمل التحليل السابق يقودنا إلى إجمال الاستنتاجات التالية:
ــ لم تكن البرامج الموضوعة تتناسب مع المهام الحقيقية، مع اتجاه التطور الحقيقي. مما منعها من التنفيذ في نهاية المطاف.
ــ كما أن التكون التدريجي لروح اتكالية، تسعى بالدرجة الأولى للحصول على الامتيازات والحفاظ على المواقع القيادية لدى البعض، قد أضعف دور أحزاب الجبهة في التصدي لمهامها.
ــ ولا يجب أن يسقط من الحساب، أن عقلية الاحتواء والوصاية التي عملت على أساسها أجزاء هامة ومؤثرة من جهاز الدولة، قد قيدت نشاط هذه الأحزاب ضمن هامش معين، مما أخرجها بالتدريج من الفعل السياسي الحقيقي.
ــ إن إعادة النظر بتجربة الجبهة يتطلب القول: أن قوة كل مشارك في أي تحالف، هو قوة للجميع. وضعف كل مشارك، هو ضعف للجميع. لذلك، فيما يخصنا، فقد أكدنا منذ البداية أن تحالفاتنا ستستند إلى التجربة السابقة التي لن نسمح لأحد بأن يكون وصياً علينا، ولن نقبل لأنفسنا بأن نتحول إلى عبء على أحد وإلى قوة هامشية تسعى لتحقيق امتيازات لصالحها على حساب مصالح الحزب العامة ومصالح الوطن.
إن كل هذه الأمور تطرح علينا بشكل جدي قضية استعادة دورنا الوظيفي التاريخي، فكرياً، سياسياً، اجتماعياً، جماهيرياً، وتنظيمياً. مما يعني عودة الحزب ليلعب دوره المطلوب منه في التعبير عن مصالح الطبقة العاملة وأوسع الجماهير الكادحة، وهذا يضع أمامنا مهام كبيرة تتطلب البحث الجدي في الوسائل الكفيلة لاستعادة الحزب لدوره الوظيفي.