|
نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزي الشيوعي السوري-المكتب السياسي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 733 - 2004 / 2 / 3 - 07:13
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
المناقشة التالية لمشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي-المكتب السياسي لا تطالب لنفسها بصفة تحليل موضوعي هادئ لقضايا أثارتها الوثيقة. فكاتب هذه السطور معني سياسيا ومرتبط وجدانيا وعقليا بمستقبل هذا التيار إلى درجة لا تسمح له بأن يلعب دور مراقب خارجي. وهو يأمل أن لا يعوقه هذا الارتباط عن "قول الحق في وجه السلطة" (بصيغة المرحوم إدوراد سعيد)؛ وهي في هذا المقام سلطة الحزب الذي يصدر هذه النشرة. لقد كانت الميزة التي انفرد فيها الحزب، في تقديري، هي نوعية علاقته بالمثقفين التي أشار إليها الأستاذ ميشيل كيلو (اليسار السوري: ملاحظات أولية، موقع "المواطن"، 14/1/2004)، في سياق يجمع بصورة دالة بين المرارة ونسبة تلك الميزة إلى "اليسار السوري". قد يجادل المرء في جوانب من مناقشة الأستاذ كيلو، لكنها تعكس تذمرا مما يعتقده بعض المثقفين موقفا أبويا أو وصائيا أو احتوائيا من قبل الحزب حيالهم. هذا خطأ وخطر معا، ويستوجب التوقف والتفكير. تغيير اسم الحزبفي رأي شخصي، تجنب مشروع الموضوعات القضية الأساسية التي كانت يتوقعها متابعو نشاط الحزب خلال بضع السنوات الأخيرة، أعني تغيير اسم الحزب. فقد بدا أنه تبلور منذ المؤتمر التداولي الذي عقد قبل قرابة ثلاثة أعوام خيار تغيير اسم الحزب، وبدا للجميع أن الأمر لم يعد يحتاج إلا إلى مؤتمر ليحول هذا الخيار إلى قرار. وقد أعطت التعليقات على مناقشات المؤتمر التداولي ( شباط 2001) وانطباعا أكيدا بأن تغيير الاسم واقع لا محالة. وبالرغم من وجود أصوات معارضة لتغيير الاسم فقد بدا ان التغيير "محسوم"، ولم ينظر أحد إلى وجود معارضين كمشكلة في حزب ديمقراطي: يدعو إلى الديمقراطية منذ أكثر من 25 عاما، ويعتزم التحول إلى حزب ديمقراطي في أول مؤتمر قادم. بل لقد بدا أن بعض معارضي تغيير الاسم قد تقبلوا التغيير، حتى لو لم يتخلوا عن درجة من الارتباط العاطفي باسم الحزب الشيوعي. فهذا الارتباط مفهوم جدا، ولم يفكر أحد، في حدود ما أعلم، بازدرائه والتقليل من شأنه. ففكرة تغيير اسم الحزب لم تتولد عن عداء إيديولوجي للشيوعية ولا عن تكسِّب سياسي رخيص او مسايرة سلبية للراي العام، بل فرضت نفسها بالتدريج كتتويج للخيار الديمقراطي التعددي الذي سار فيه الحزب منذ النصف الثاني من السبعينات، وتكرس برنامجيا في المؤتمر الخامس عام 1978، وتعمد بالدم والعذاب في سجون السلطة بين أوائل الثمانينات وأواخر التسعينات. تغيير اسم الحزب وليد السياسة وليس الإيديولوجية، وهو ثمرة تجربة عملية دفع المئات ثمنها وليس ثمرة تأمل في حديقة الأفكار أو تسكع في متحف النظريات. وليس غير هذا التغيير في رأيي يشكل النقلة الطبيعية في مسار فكري وسياسي هو مسار اكتشاف الديمقراطية والتحرر من الشمولية. بل إن القطيعة مع الشمولية، التي يعبر عنها التخلي عن اسم الحزب الشيوعي، ضروية لا للحزب وحده، ولكن كذلك لليسار السوري وللحركة الديمقراطية السورية، كما لكثير من اليساريين والديمقراطيين العرب. وهي وحدها التي تنصف كفاح وتضحيات أولئك الذين دفعوا أرواحهم في مواجهة الدكتاتورية، أو قضوا سنوات طويلة من أعمارهم في سجونها. وليس هناك خذلان بالمقابل لتك التضحيات أكثر من الثبات على يافطة أمست عنوانا لازدراء الكرامة الإنسانية ولسيادة سلطات غاشمة بقدر ما هي فاسدة، من النوع الذي نعرفه جيدا في بلادنا. ويكاد يميز المتمسكين بهذه اليافطة في كل مكان التعصب والسلطوية والتحجر الفكري. ومعلوم أنه اجتمع للعينات الأشد تمسكا بهذه اليافطة في بلادنا شهادة الزور على حال بلدهم وشعبهم، مع تبعية متعددة الأشكال للسلطة السياسية والإيديولوجية لدولة الاتحاد السوفييتي (وقد كانت في حالات غير قليلة تبعية مجزية ماديا اغتنى بفضلها عدد محترم من الرفاق ...المحترمين)، مع عداء أصيل وجوهري لكل اشكال التحرك الشعبي والمبادرة الديمقراطية بحجج كُتُبية (العفوية، التقليدية، الأصولية،..). أهمية تغيير الاسملماذا تغيير اسم الحزب مهم؟ لأنه قبل كل شيء التتويج السليم لمسيرة انفتاح فكري وسياسي، ونزع للعقائدية والقداسة عن الذات، ومعارضة للسلطة، عمرها أكثر من 25 عاما. لكن كذلك لأنه تتكثف فيه جملة تحولات باتت تحتاج إلى قطيعة وتأسيس: قطيعة نهائية، قكرية وسياسية وتنظيمية، مع الشمولية، وتأسيس حزب ديمقراطي يساري في سورية التي تفتقر في آن واحد لأحزاب ديمقراطية (رغم ما يبدو من وفرة ظاهرية، ورغم ما تعرضت له كلمة الديمقراطية من تضخم خفض من قيمتها) ولأحزاب يسارية حقيقية (رغم أن الجميع "يساريون"، وليس هناك حزب يميني واحد في سورية).على أن ما فوّته الحزب ليس تغيير الاسم، فهذا أمر متروك للمؤتمر ولا يزال من المرجح أن يتغير فعلا؛ ما فوته بالأحرى هو تركيز النقاش الجاري لمشروع الموضوعات حول مسألة تغيير اسم الحزب وجملة القضايا المتصلة بها. فقد كان من شأن محورة النقاش حول هذه النقطة أن تعطي للمشروع رؤية يفتقدها نصه الراهن، وأن تحتم تناول ثلاث فقرات فائضة من الوثيقة بطريقة مختلفة تماما: (1) "العالم يتغير..التاريخ يستمر"؛ (2) "أدوات تحليل جديدة ومفتوحة"؛ و(3) "مفهوم الحزب". إذ تبدو هذه الفقرات الثلاثة بالخصوص إجابات ملتبسة على سؤال أو أسئلة لم تطرح. فقد كان العالم يتغير دائما والتاريخ لم يتوقف يوما، فما الذي استجد حتى نشعر بالحاجة إلى توكيد ذاك التغير وهذا الاستمرار؟ ومم تشكو "أدوات التحليل" القديمة حتى نحاول الحديث عن أدوات جديدة (هذا بصرف النظر عن أن الفقرة المعنية لم تنجح في تقديم ادوات تفكير من أي نوع)؟ وما الذي يدفعنا إلى طرح تصورنا لمفهوم الحزب إن لم نبين عبر تحليل ملموس لمسار الحزب منذ "استقلاله السياسي" في بداية السبعينات تعارض مفهوم الحزب الشيوعي، اللينيني، مع الخيار الديمقراطي؟الأسئلة التي كان من شأنها أن تمنح "عيونا" للفقرات الثلاثة المذكورة هي الأسئلة المتعلقة بكيفية استئناف العمل الديمقراطي بعد (1) الهزيمة السياسية والأخلاقية والفكرية للحركة الشيوعية االعالمية؛ (2) المواجهة المكلفة مع نظام قمعي ومغلق، والتي لم ينته فصلها الأكثر ترويعا إلا في أواخر التسعينات؛ (3) تنامي الإجماع المعنوي على الخيار الديمقراطي في سورية، لكن مع العجز عن تحقيق اختراق فكري يحرر الفكرة الديمقراطية من الكلام المكرور، او اختراق سياسي يحقق نقلة في ديناميكية الحركة الديمقراطية ويقدمها خطوة على طريق تكوين قطب ديمقراطي مؤثر، او اختراق اجتماعي يفتح أما الديمقراطيين السوريين آفاق تواصل مع فئات أوسع من شعبهم. وليس أقل أهمية من كل ما سبق التساؤل عن كيفية تحقيق الحزب لنقلة في وعيه لذاته تمكنه من مطابقة خياراته السياسية (الديمقراطية) مع هويته الإيدولوجية (الشيوعية). وفي نظري أن مشكلة اللاتطابق هذه أمست عائقا يحول دون الحزب ودون التقدم السياسي والفكري معا، وبخاصة انه لم يعد ثمة ما يبرر دوام العيش بشخصية منفصمة على الطريقة التي فرضت علينا بين عام 1978 واليوم. ومن الواضح لكل من يتابع نشرة "الرأي" انها لا تحتاج إلى شيء من الماركسية أو الماركسية اللينينية لبناء تحليلاتها السياسية. ومن الواضح كذلك أن الحزب يقوم باكتساب الأنصار الجدد على أرضية توجهه الديمقراطي وكفاحه ضد الدكتاتورية وليس تحت الرايات الحمراء والمنجل والمطرقة ( ويبدو لي أن الحدود الضيقة حاليا لهذه التعبئة مصدرها التباس، بل انفصام، شخصية الحزب). أضيف كذلك أنه غير قادر على منافسة التنظيمات الشيوعية الأخرى في التعبئة على أرضية الشيوعية. فمركز ثقل هويته هو نضاله الديمقراطي وليس عقيدته الشيوعية أو مرجعيته الماركسية. بينما مركز ثقل هوية التنظيمات الشيوعية الأخرى هو "الماركسية اللينينية" و"الطبقة العاملة" و"الاشتراكية العلمية" وما إلى ذلك. ولم يكن أخصام الحزب مخطئين حين كانوا لا يطلقون اسم الحزب الشيوعي إلا على تيار خالد بكداش ثم يوسف فيصل. ورغم أن معظم أولئك الخصوم كانوا منخرطين في معركة إيديولوجية وسياسية ضد الحزب، ويضمرون التقليل من شأنه حين يحجبون الشرعية الشيوعية عنه ويمنحونها لأحزاب الجبهة، فإن زهد الحزب في "المنجل والمطرقة" و"الرايات الحمر" والإحالة المتكررة لماركس ولينين كانت تمنح موقفهم شرعية عقلية لا شك فيها. نهاية الحزب الشيوعيإذا طرحنا الأسئلة المشار إليها فسرعان ما نجد ان محور التركيز في مشروع الموضوعات سوف يتحول نحو البحث عن أصول الشمولية في العقيدة الشيوعية وفي الفكر الماركسي، وعن الطابع مفرط التجريد للتحليل الاجتماعي الماركسي، ويكشف أن ثمن ما سمته فقرة "برنامجنا" من المشروع - بلغة غنائية - "أمميتنا العريقة" هو النظر إلى المجتمع كنمط إنتاج والقفز فوق وقائع الدولة والثقافة والدين والصراعات القومية، أي كل ما يشكل أمة، وربما لتبينا أننا لا نستطيع تقديم نقد منسجم لـ"حزب المركزية الديمقراطية" دون نقد فلسفة نقل الوعي من الخارج التي يقوم عليها الحزب المذكور. وما يربكني شخصيا هو أن الحزب في عمله السياسي أعاد الاعتبار بالفعل للتجربة الحية للشعب، وتحول مزاجه منذ زمن بعيد عن نظرية العفوية اللينينية، المتعالية على تلك التجربة، والتي تشكل الوجه الآخر لنظرية الحزب. فعبر الانفتاح على اشكال الكفاح المتعددة، السلبية منها والإيجابية، تحققت قطيعة موضوعية مع موضوعة لينين حول نقل الوعي، وهي موضوعة تؤسس لدكتاتورية الحزب السياسية ودكتاتورية الماركسية النظرية. العالم الذي يتغير هو عالم ما بعد انتهاء "الحرب الباردة" بهزيمة الصيغة الشيوعية لليسار، والتاريخ الذي يستمر هو تاريخ الكفاح من أجل المساواة بين بني البشر ومن أجل الحرية والكرامة الإنسانية حتى لو لم يعد هذا الكفاح مكفولا باية حتمية تاريخية. ولا يمكن لـأدوات التفكير الجديدة أن تكون غير ما تقدمه العلوم الاجتماعية والإنسانية من مناهج ومفاهيم ومقاربات متجددة على الدوام. والحزب ليس مطالبا إطلاقا بأن يبدع "أدوات تفكير" خاصة به، أو أن يتبنى "نظرية علمية" مستقلة، أو ان يكون له منظره الخاص (المفتي النظري للحزب)، أو أن يقدم لمنتسبيه "منهجا معرفيا تحليليا فلسفيا"، ناهيك عن "عقيدة للكون والطبيعة" كما يبدو أن الصديق محمد سيد رصاص يدعو في مقالة لامعة (المآلات المختلفة لحزب يساري سوري، الحياة، 8/1/2004). فكل ذلك ليس إلا تناسخا لـ"الوعي" اللينيني ينقله الحزب الذي لا يمكن إلا أن يكون واحدا لطبقة أو كتلة عاطلة عن الوعي بالضرورة، وأسيرة لـ"العفوية" بالضرورة ايضا. هناك حاجة بالفعل إلى فتح نقاش حول "مفهوم الحزب" بالنظر إلى ان هناك مؤشرات متزايدة على أن مفهوم الحزب / الوعي يعاني من أزمة. أميل إلى أن الحزب الحديث أقرب في بنيته وحركيته إلى الحركات الاجتماعية المرتبطة بمشكلات محددة، وأبعد عن "دولة الظل" او "الوطن السياسي والمعنوي" لأعضائه، وفقا للنموذج الذي اقتدت به التنظيمات الشيوعية (والبعثية والناصرية والإسلامية..) طوال عقود. لكن الحزب السياسي يختلف عن الحركات الاجتماعية القطاعية بأنه يعمل على النطاق الوطني ويطرح مسألة السلطة. على كل حال، هذه تقديرات شخصية قابلة للمراجعة والتعديل، فالشكل المناسب للحزب لا يمكن أن استخلاصه من التأمل ولا تحديد ملامحه قبل نقاش عام واسع ومفتوح. لكن الثابت في رأيي أن الحزب اللينيني و"رسالته التحضيرية" مرتبطان ارتباطا وثيقا بالدكتاتورية، سواء داخل الحزب قبل "الاستيلاء" على السلطة أو في المجتمعات التي "تتشرف" بحكمه لها. نقد ورقة "مفهوم الحزب" أريد في مقطع اخير ان اناقش الفقرة المعنونة "حول مفهوم الحزب" في مشروع الموضوعات. ابدأ بالأمور الشكلية. تقول الجملة الأولى: "أدى احتكار السلطة ...إلى احتكار السياسة". والثانية: "أدى هذا الاحتكار ايضا إلى تعميم القمع..." على الفور يرصد المرء اختلالا مربكا في علاقة السبب بالنتيجة: فتعميم القمع هو أداة احتكار السلطة (وهذا هو ذاته احتكار السياسة) وليس ثمرته. هذا الخلل التحليلي ليس مقبولا في ورقة تحاول أن تكونة غير عقائدية. فالعقل "يتكركب" هنا و"يغرز" في الوحل. بعد قليل نقرأ أن أول ما تعنيه "المسألة الوطنية" هو "تداول السلطة وإخضاعها لرقابة الشعب.." كان يمكن أن يقال ان "أول ما تعنيه" "المسألة الوطنية" هو المواطنة المتكافئة أو السيادة الشعبية قبل أن نصل إلى تداول السلطة. "عبر هذا المسار [مسار احتكار السلطة] تغير مفهوم الحزب في وطننا، واصبح يعني تماما الحزب الحاكم". هذا الكلام صحيح فيما يصرح لكنه خاطئ فيما يضمر: فنسبة تغير مفهوم الحزب إلى مسار احتكار السلطة في سورية يتكتم على حقيقة انه لم تكن لدى الأحزاب السياسية الأخرى فكرة عن السلطة غير كونها موضوعا للاستيلاء والاحتكار، وان سورية لم تشهد نقاشا جديا حول هذه المسألة التي تتحدث عنها الفقرة بلغة غير تحليلية تجمع بين التقريرية والتحريضية. وبغياب هذا النقاش لا نستطيع ان نتبين إن كانت الأحزاب السورية الأخرى قد قطعت مع مفهوم الحزب "المناضل" من اجل "احتكار السلطة".وفي كلام عمومي يوحي أنه يقول اشياء كثيرة دون ان يقول شيئا محددا، نقرأ: "لقد آن الأوان لإعادة بلورة مفهوم الحزب من جديد، على أساس الخبرة المتراكمة والعمل السياسي، انطلاقا من فلسفة سياسية واضحة في خطوطها الكبرى العامة والخاصة. آن الأوان كي يتجسد الحزب المتجدد في الواقع العملي". المشكلة أن الورقة لم تجنبت على قدم المساواة التطرق إلى "الخبرة المتراكمة والعمل السياسي" و"الفلسفة السياسية"، واضحة أو غامضة. فكيف سيتجسد "الحزب المتجدد في الواقع العملي"؟وبعد قليل نجد: "وفي تاريخنا احتكر قادة القبائل والطوائف العمل السياسي إما بالوراثة، او عبر ظروف طارئة، أو شخصيات نافذة تمتلك مصادر القوة العسكرية في المقام الأول". هذا الكلام عديم الفائدة، لا لأنه يصعب إثباته، ولكن لأنه يستحيل تفنيده وهو على هذه الدرجة من العمومية العابرة للعصور التي تجعله قابلا للانطباق على جميع المجتمعات السابقة للرأسمالية، بما فيها الديمقراطيات المتقدمة حاليا. في الصفحة الثانية تقدم لنا الورقة مجموعة من التحديدات لمفهوم الحزب الديمقراطي: (1) إنه "حزب يسلم بضرورة الديمقراطية كخيار نهائي"؛ و(2) "يسلم بأن الديمقراطية هدف نسعى إليه ونناضل من اجله في ظل الاستبداد والتسلط لكي نحرر المجتمع من شمولية حكم الحزب الواحد"؛ أما بعد الانتقال إلى الديمقراطية فمن مهمات الحزب الديمقراطي (3) "العمل الدائم لتعزيز ممارسة الديمقراطية" وتطويرها "لما فيه خير المجتمع"؛ وكذلك (4) "يؤمن الحزب الديمقراطي بأساليب النضال الديمقراطية وينبذ العنف والعمل السري". بنية المناقشة كما هو واضح بنية تقريرية، تلقينية، "غير تعاقدية" إن جاز التعبير، اي لا تحاول أن تتفاعل مع عقل القارئ وتبرهن له على صواب ما تقول (الأمر نفسه بالمناسبة نجده في ورقتي "العالم يتغير...التاريخ يستمر" و"أدوات تفكير جديدة ومفتوحة"). وهناك، في تصوري، ارتباط عميق بين التفكير التقريري وبين السلطة الأمرية غير الدستورية، وبالعكس: بين المنطق البرهاني والسلطة الدستورية التعاقدية. الدليل: إقرأوا أي نص بعثي حديث، ولا حظوا انقطاع العلاقات بين العقل البعثي والمنطق البرهاني.لا تلبث الورقة أن تنتقل من عموميات الحزب الديمقراطي "كامل الأوصاف" إلى سياق ملموس حين تجعل من "بطش السلطة الوحشي مبررا موضوعيا لممارسة العمل السري في حزبنا، وفي جميع الأحزاب المعارضة". حسنا! هذا غير صحيح. فليس بطش السلطة وحده، وقد كان وحشيا بلا جدال، هو سبب العمل السري، لا في "حزبنا" ولا في أي من "الأحزاب المعارضة". إن "السرية" هي التفضيل "الطبيعي" لجميع التنظيمات الشيوعية والبعثية والناصرية والإسلامية في سورية. وهي عنصر في بنية حزبية تشمل ايضا هدف الاستيلاء على السلطة ووجود عقيدة واحدة صحيحة والتنظيم التراتبي الهرمي و"المركزية الديمقراطية". إذ ليس هناك حزب "يناضل" من اجل "الاستيلاء على السلطة" ويكون حزبا علنيا في الوقت نفسه. وليس هناك حزب يعتبر أن عقيدته "كلية الجبروت لأنها صحيحة" (لينين واصفا الماركسية) ولا يكون حزبا سريا..إلخ. ولا مجال لإنكار ان السرية كانت فضيلة عظمى بالنسبة لنا ولتلك الأحزاب جميعا، وأننا لم نبدأ باعتبارها مشكلة خطيرة إلا في السنوات الأخيرة بفضل تجربتنا في العمل السري وارتقائنا من تصور الديمقراطية كمجرد برنامج سياسي أو "مطلب" إلى تصورها "كمفهوم تحليلي أنتج بمعونته ["اليسار السوري"] خطه السياسي وبرامجه وعلاقاته" حسب ميشيل كيلو في مقالته المشار إليها أعلاه. وفي سياق تحديد آخر للحزب الديمقراطي ينص على أنه "يبقى ديمقراطيا في موقفه من الأحزاب والقوى الأخرى القائمة في المجتمع" التي قد يختلف معها في الرأي، نفاجأ بالاستنتاج الغريب التالي: "خلافنا مع السلطة السائدة ليس مجرد خلاف في الرأي، وإلا سقطنا في الانتهازية السياسية المترددة". كنا نظن أنه "ليس مجرد خلاف في الرأي" لأن المئات قضوا سنين طوالا من عمرهم في سجون "السلطة السائدة"، وان منهم من قدم روحه في "الخلاف" معها.من تحديدات الحزب الديمقراطي ايضا أنه "ديمقراطي تنظيميا، في اسس تنظيمه وفي بنيته وحركته الداخلية". وهذا يقود الورقة إلى أن "تمسح الأرض" بمفهوم "المركزية الديمقراطية" البائس الذي لم يعد هناك من يدافع عنه. في سياق تهشيم هذا المفهوم نطّلع على تمييز غير مبين بين "الاتحاد الكفاحي" المركزي الديمقراطي و"الاتحاد الطوعي" الذي تزكيه الورقة. التمييز غير مبين، إن لم نقل إنه مفتعل، لأنه حتى الأحزاب "الكفاحية"، باستثناء حزب البعث، كانت "اتحادات طوعية". بل إن حزب البعث ذاته عوض عن القسر غير المباشر (والمباشر أحيانا) الذي يمارسه على السوريين للانتساب إليه بالتراخي الشديد في التعامل مع عدم التزام أعضائه بواجباتهم "الكفاحية". وإذا كان لا شك أن الأحزاب الأخرى كانت، ولعلها لا تزال، تمارس التشهير بمن يغادرونها أو يخالفونها الرأي، وفقا لأقبح التقاليد الشمولية، فإن الورقة تغفل عن مناقشة هذه الشكل من "القسر" المميز للأحزاب الشمولية غير الحاكمة.لا يستطيع القارئ أن يمتنع عن ملاحظة غرابة لغة الورقة كلها، فوق تقريرية محاكماتها وتمييزاتها الاعتباطية. نقرأ مثلا: "السؤال الأساس هو كيف يمكن أن نتجاوز تنظيميا مسألة "تزمت" العضو في الحزب؟" ولا نجد ما يسعفنا لفهم معنى "تزمت العضو" الذي يبدو انه يحيل بطريقة ما إلى "التفارق بين العقائدية والديمقراطية" التي لا تُحلُّ، وفقا للورقة، "عن طريق الإلزام والقسر، بل عن طريق الحوار والإقناع أيضا". وياله من مزيج ديمقراطي سحري هذا الذي يتسامح بالإقناع والحوار غير مكتف بالإلزام والقسر وحدهما! تربط الورقة بحق بين مفهومي الحزب الطليعي والحزب القائد، لكنها تفعل ذلك بطريقتها التقريرية المحنقة دائما. ثم نتعثر بتمييز آخر غريب بقدر ما هو غير مفهوم بين "الجانب الاجتماعي من الهوية" الحزبية و"الجانب الديمقراطي" منها: "... مع الخروج من اشكال التنظيم الإخضاعية، لا بد من التاكيد، في مرحلة التحول الديمقراطي، على أن هوية الحزب تتجسد، في الوقت نفسه، في قدرته على تمثيل طبقة بعينها، او طبقات من الشعب. وهذا هو الجانب الاجتماعي من الهوية الذي لا يتناقض مع التمسك بمصلحة المجتمع الجمعية استنادا إلى صيغة التعاقد الاجتماعي التي يتم التوصل إليها، دون أن يكون هناك تعارض بين مصالح الطبقات الفقيرة ومصلحة المجتمع ككل. وهذا هو الجانب الديمقراطي من الهوية". وهذا ليس جانب "صف الكلام" الوحيد في الورقة موضوع هذا النقاش! الأمر مؤسف بالفعل. فقد ارتبطت الفكرة الديمقراطية منذ اليونان القديمة بالطلب على البرهان والوضوح الفكري إلى درجة أن الكلام تحول إلى صناعة اسمها المنطق؛ فيما ارتبط الكلام المتداخل، الغامض، القابل لتأويلات متعددة، بالسلطة القسرية وقدرتها على التلاعب بالناس والعقول.تعود الورقة إلى تحديدات الحزب الديمقراطي لتقرر أنه "يجري انتخاب حر لقيادة تمثل الأكثرية" في هذا الحزب دون أن يعني ذلك "انتفاء حق الأقلية في التعبير عن نفسها على أكمل وجه" كي "تتحول إلى أكثرية إذا استطاعت". من التحديدات كذلك أن "الحزب الديمقراطي يهدف إلى الانتشار الواسع"، لذلك "يقيم العضوية على شروط تهتم بالمضمون أولا دون الأخذ بمبدأ النخبة الخاصة، والوجهاء المتنفذين". ترى كيف الجمع بين "الشروط المرنة" والاهتمام "بالمضمون أولا" ورفض "مبدأ النخبة الخاصة" في جملة واحدة؟ وإذ ترغب الورقة في جمع كل الأشياء الجيدة في الدنيا فإنها لا تلبث أن تضيف إلى ما سبق أن الحزب الديمقراطي "لا يقصي النخب ولا يُحوّل الارتباط [به] إلى علاقة شكلية سطحية..." إلخ. ثم يربط هذا كله بتعزيز "تمويل الحزب نفسه بنفسه رغم اعتماده على الطبقات الشعبية". ترى ألا يمكن ان يكون الحزب ديمقراطيا إلا إذا "اعتمد على الطبقات الشعبية"؟العلنية مبدأ ثابت في عمل الحزب الديمقراطي حسب الورقة، لكنه يلجأ إلى السرية "في حالات ضيقة محددة تحت احتمالات الضغط البالغ". الورقة لا تميز بين السرية، وهي ثقافة وتنظيم وتكوين نفسي، وبين الاحتماء الطبيعي من سلطة باطشة. تختم الورقة بالدعوة إلى أن لا يكون "حكمنا على تاريخ العمل الحزبي منطلقا من موقع الإدانة أو الثأر أو التشفي" وتزكي بدلا منها "موقع النظرة الموضوعية". هذا منصف. ولم يكن غرض كاتب هذه السطور الإدانة ولا التجريح أو القسوة المجانية. حاولت أن أظهر تشوش الورقة وغموضها والتباساتها وتقريريتها. ورهان هذه المناقشة كلها هو الوضوح والإبانة. فالديمقراطية مرتبطة كما أشرت بالوضوح وبالفضائل المدنية الأخرى للمعرفة: الاعتدال، التميز، البرهان. ومن وراء الوضوح هناك هدف عملي وسياسي. فالحزب الديمقراطي حزب تعاقدي بالضرورة، وأول التعاقد أن يعرف الجميع، وبوضوح تام، ما هم فاعلون وإلى أين هم ماضون. جوابي الشخصي: نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري. ختاما، يلفت النظر أن ورقتي "القومية العربية" و"سورية: من الاستبداد إلى الديمقراطية" تتميزان بحيوية فكرية وأسلوبية تفتقر إليهما أوراق المشروع الأخرى. ويبدو أنه كلما اقترب موضوع النقاش من السياسة ارتقت محاكماته وأسلوبه، وكلما ابتعد عنها تعكرت لغته وارتبك منطقه. هذا لا يعني أن الورقتين المشار إليهما مكتملتان، فقد أغفلتا اشياء مهمة، القصد بالأحرى أن ما قالتاه مفيد. أما الأوراق الأخرى فغير جيدة (كي لا نُكبِّر الكلام أكثر). ويأمل كاتب هذه السطور أن تتاح له الفرصة لتناول تلك الأوراق الأخرى في وقت آخر. دمشق 22/1/2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
-
من الحزب الشيوعي إلى اليسار الديمقراطي
-
لم ننجح في حل المسألة السياسية، فنجحت المسألة السياسية في حل
...
-
الآثار السياسية للعولمة واستراتيجية التعامل معها
-
بداية العولمة ونهاية إيديولوجيتها1 من 2
-
المثقف المستشار والرائي الأميركي
-
تغيير الأنظمة وإعادة تشكيل المجال الشرق أوسطي
-
المثقفون والأزمة العراقية ردود قلقة على واقع مأزوم
-
فوق العالم وفوق التاريخ التحول الامبراطوري للولايات المتحدة
-
الوطنية الاستبدادية والديمقراطية المطلقة
-
نزع الديمقراطية من الملكية الأميركية
-
الولايات المتحدة، العراقيون، والديمقراطية قضايا للنقاش
-
جدول الحضور والغياب في الميدان السوري العام
-
أفق مراجعة الإشكالية القومية
-
دولة في العالم أم دولة العالم
-
تراجع السياسة … وعودتها
-
السقوط الحر للجماهيرية العظمى
-
العلمانية المحاربة - مناقشة لخطاب الرئيس شيراك حول الحجاب
-
المطابقة المستحيلة ياسين الحافظ ورهان الوعي
-
مـن يــربــح مــاذا فـي ســوريــا ومـن يـخـســر؟
المزيد.....
-
فرنسا: هل ستتخلى زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عن تهديدها
...
-
فرنسا: مارين لوبان تهدد باسقاط الحكومة، واليسار يستعد لخلافت
...
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأوروغواي
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
المزيد.....
-
نَقْد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 1/2
/ عبد الرحمان النوضة
-
اللينينية والفوضوية فى التنظيم الحزبى - جدال مع العفيف الأخض
...
/ سعيد العليمى
-
هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟...
/ محمد الحنفي
-
عندما نراهن على إقناع المقتنع.....
/ محمد الحنفي
-
في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟...
/ محمد الحنفي
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك
...
/ سعيد العليمى
-
نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب
/ عبد الرحمان النوضة
-
حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس
...
/ سعيد العليمى
-
نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|