اقرا الان كتاب "فهد" الذي كتبه الدكتور كاظم حبيب والدكتور زهدي الداوودي بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الرفيق فهد سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي. وهو كتاب ضخم تزيد عدد صفحاته عن ٥٠٠ صفحة ولكني احاول قراءته بكل امعان لانني اعتبر نفسي تلميذا للرفيق فهد ويهمني جدا ان اتتبع كل ما يكتب عنه.
لست بالملاحظات التالية اقصد مناقشة الكتاب او التعليق عليه سلبا او ايجابا لاني ابتدأت لتوي قراءته ويتطلب ابداء رايي فيه قراءته كله بامعان وربما قراءته للمرة الثانية اذ ليس التعليق على كتاب مخصص لحياة وكفاح الرفيق فهد امر هين بل هو امر يجب ان يجري بمنتهى الحذر والدقة. ولكني حين بدأت في القراءة وجدت نقاطا او عبارات تحفزني على التعليق عليها بصرف النظر عن الكتاب وبلا علاقة في ابداء الراي فيما جاء به.
يشجعني على الكتابة في هذه المواضيع ما جاء في الخلاصة التي كتبها الباحثان. فقد جاء فيها "ان الدراسة التي نقدمها ونطرحها للحوار تتضمن وجهة نظر خاصة بالباحثين وليس هناك من جهة او شخص آخر مسؤؤل عنها" و "ان هذه الاجتهادات مطروحة للنقاش والحوار الموضوعي الهادف الى تعميق الوعي والرؤية بالماضي وبالسياسات والمواقف التي تم اتنهاجها وممارستها، وبالتالي، من اجل فهم واستيعاب الحاضر ووضع سياسات ومواقف للحاضر والمستقبل..."[1] يفهم من هذه العبارات المتواضعة ان الكتاب لا يمثل حزبا او منظمة. وانا اقدر هذا التواضع في الدعوة الى مناقشة المواد الواردة في الكتاب والمحاورة فيها بصورة موضوعية.
اول ما لاحظته هو النبذة الموجزة عن حياة الباحثين في ظهر الغلاف. الظاهر من هذه النبذة ان الباحثين نالا ثقافتهما الجامعية في المانيا الشرقية سابقا في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ومعنى هذا انهما عاشا الاشتراكية بالصورة التي شاهداها في المانيا الشرقية في تلك الفترة. ولا ادري مقدار اطلاعهما على الاشتراكية في البلدان الاخرى وفي الاتحاد السوفييتي.
بدأت الاشتراكية في المانيا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث جاء الحزب الشيوعي الالماني الى الحكم تحت رعاية الاتحاد السوفييتي الذي كان يحتلها. وقد بدأ الشعب الالماني بالمساعدة الاخوية للاتحاد السوفييتي في بناء مجتمع اشتراكي شانه في ذلك شان سائر شعوب دول الديمقراطيات الشعبية في اوروبا. لم يدم هذا الحال سوى سنوات معدودة اي الى سنة ١٩٥٣ عند وفاة ستالين. فور وفاة ستالين استولى الخروشوفيون على قيادة الحزب وعلى السلطة ومارسوا سياسة جديدة معاكسة للسياسة التي سار عليها الحزب بقيادة ستالين. ان الخروشوفيين وضعوا هدفهم الاستراتيجي اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي والقضاء على الاشتراكية. ولكن وضع شعوب الاتحاد السوفييتي لم يسمح لهم باعادة الراسمالية فورا لان ذلك كان سيؤدي الى الثورة عليهم والاطاحة بهم فلجأوا الى اعادة الراسمالية تدريجيا تحت ستار من الشعارات والعبارات الثورية الزائفة. وهذا معناه ان الاتحاد السوفييتي منذ وفاة ستالين لم يعد دولة اشتراكية. وسرعان ما ظهرت فيه كل مساوئ الراسمالية من بطالة وازمات وتضخم نقدي وسوق سوداء ومافيا ودعارة الخ ... وبدات تظهر عناصر برجوازية تستغل الشعوب السوفييتية بشتى الوسائل المتوفرة في مجتمع اشتراكي سائر في طريق استعادة الراسمالية وزوال الاشتراكية. وطبيعي ان البلد الذي يدمر الاشتراكية في بلاده لا يمكنه ان يساعد البلدان الاخرى على بناء الاشتراكية. وهذا يصدق على المانيا كما يصدق على سائر بلدان المعسكر الاشتراكي الذي ابدل اسمه بالمنظومة الاشتراكية.
كانت بلدان المعسكر الاشتراكي في ١٩٥٣ في بداية عهدها بالبناء الاشتراكي ولذلك فان العودة الى الراسمالية فيها كانت اسهل من عودة الاتحاد السوفييتي الذي مر في مراحل متقدمة في البناء الاشتراكي. فالمانيا التي عاشها الباحثان لم تكن في الواقع دولة اشتراكية رغم وجود الحزب الشيوعي في الحكم ورغم الزعم بانها دولة اشتراكية.
ويبدو لي ان الباحثين لاحظا التفسخ والتدهور في الحياة السياسية والاجتماعية في المانيا الاشتراكية بالاسم لدى عيشهما ودراستهما فيها. فهما كانا في شرخ شبابهما والشبيبة اكثر العناصر حساسية لما يجري حولها. ولابد انهما لاحظا سلوك الجيش السوفييتي الذي كان يحتل المانيا وتحول من جيش محرر مهمته مساعدة الشعب الالماني على التقدم في بناء الاشتراكية الى جيش محتل يسلك سلوك الجيوش الامبريالية المحتلة. ولابد انهما لاحظا تذمر الشعب الالماني من سلوك الجيش السوفييتي وحقده عليه وكرهه باعتباره جيش احتلال. ولكنهما كانا على ما يبدو من كلامهما ملتزمين بالانضباط الحزبي ومؤمنين بأن الدولة هي دولة اشتراكية ايمانا تاما وانا اصدقهما في ذلك. وكان الحزب الذي ينتميان اليه يمجد الاتحاد السوفييتي على انه نصير السلام ومحب الشعوب وغير ذلك من النعوت التي كان الاتحاد السوفييتي ينعت بها عن جدارة في عهد البناء الاشتراكي وبقي ينعت بها في عهد تدمير الاتحاد السوفييتي واعادة الراسمالية اليه. ويلاحظ الباحثان ان الحزب لم ينبس ببنت شفة عن الفساد والتدهور السياسي والاجتماعي في الاتحاد السوفييتي وبلدان المعسكر الاشتراكي رغم ان كل انسان بسيط يلاحظه. والباحثان يفسران ذلك بسياسة الصمت والتاييد الاعمى التي سارت عليها الاحزاب الشيوعية. وفي المقال الذي كتبه مؤخرا الدكتور كاظم حبيب عن القرار ١٣٧ اكد على هذه السياسة وانتقد الحزب على مواصلتها حتى هذا اليوم. ولكني لا اتفق مع الدكتور كاظم في تعليله لهذا السكوت. فقد فسر السكوت بان الحزب كان يوجه انتقاداته سرا بدون اعلان ذلك لاعضائه وللجماهير. ودعا الدكتور كاظم الحزب الشيوعي الى مجاهرة الجماهير والتوقف عن الانتقاد السري لان هذا يؤدي الى الاضرار بالحركة. ويعتقد الدكتور كاظم ان الحزب قد مارس سياسة الانتقاد السري في عهد الاتحاد السوفييتي وفي عهد الجبهة مع حزب البعث وهو يمارسها الان في مجلس الحكم. ودعا الدكتور كاظم الحزب الى الاعلان عن حقيقة موقفه من القرار ١٣٧ على الجماهير ونفي الاشاعات التي صدرت عنه بان صوته كان الصوت المرجح لصالح القرار الصوت الحادي عشر الذي منح الاغلبية ضد الاصوات العشرة المعارضة.
وصدر بيان الحزب بعد ذلك ولكن الحزب لم يبين بصراحة موقفه من القرار ومن التصويت عليه في مجلس الحكم ولم ينكر التهمة التي اشيعت ضده. بل ولم يستنكر القرار ولم ينتقد مجلس الحكم على اخذ مثل هذا القرار وانما اكتفى بان عدد المنظمات التي وقفت ضد القرار واعلن ان القرار كان رجعيا.
ان حقيقة سكوت الحزب الشيوعي عن الانتقاد العلني فيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي لم يكن استمرارا لعادة قديمة تعود الحزب عليها بل كان سكوتا لقاء الاموال الطائلة التي كان سكوته يدرها عليه. فمن المعروف ان الحزب الشيوعي العراقي شانه شان سائر الاحزاب الشيوعية الموالية للاتحاد السوفييتي الخروشوفي كان يتقاضى اجورا عالية على سكوته. ففي الصحف البريطانية ظهرت قبل سنوات قائمة بالرواتب التي كان كل حزب شيوعي يتقاضاها من الحكومات الخروشوفية المتعاقبة. وكانت اجور الحزب الشيوعي على ما اتذكر ٣٧٠ الف دولار في السنة على ما اتذكر والعهدة على الراوي. بالاضافة الى ذلك كان الحزب الشيوعي العراقي كغيره من الاحزاب الشيوعية الاخرى يتلقى الكثير من الخدمات كاللجوء والمصايف والسفرات والمعالجة في المستشفيات وقبول ابناء القادة للدراسة المجانية في جامعاته الخ... وكان من شأن اول كلمة انتقاد للاتحاد السوفييتي او للحزب الشيوعي السوفييتي يعني انقطاع هذا السيل من الاموال والامتيازات.
لهذا اعتقد ان الباحثين لابد ان يكونا متأثرين بهذه الاوضاع يعتقدان بان ما شاهداه وعاشاه في المانيا اثناء دراستهما هو الاشتراكية الحقيقية كما كان الحزب يثقفهما به ولذلك فانهما حين يتحدثان عن الاشتراكية فهما يتحدثان عن هذه الاشتراكية التي شاهداها وليس عن الاشتراكية الحقيقية. ويبدو لي ان هذا لابد ان يؤثر على تحليلهما للاوضاع التي كانت سائدة في الاتحاد السوفييتي في فترة البناء الاشتراكي وما كان يجري في الحزب الشيوعي العراقي في عهد الرفيق فهد.
حسقيل قوجمان
٣١ كانون الثاني ٢٠٠٤
************
[1] الكتاب ص ٤٨٧.