من يدري ربما يصفني بعض القراء بالمبالغة إذا قلت ُ أن الحزب الشيوعي العراقي هو قلب الحركة الوطنية .
لكنني لا أجد بأساً في القول ان هذا الحزب قد خُلق ليكون نبض الحركة الوطنية .
فإذا أردتَ قياس مدى ادّعاء هذه الحكومة العراقية أو تلك بممارسة الديمقراطية أو الموضوعية أو عن التزاماتها الدستورية فما عليك سوى النظر إلى موقفها من الحزب الشيوعي ، فإن هبت رياحها ضده فأن تلك الرياح تتواصل في النهاية ضد مواقع الأحزاب الوطنية كلها ، وإن خاطبته بصوت خفيض من القهر أو التضييق العنيف فأن صداه في داخل الأحزاب الوطنية يكون أمراً طبيعياً وفي خارجها يكون دلالة على حبكة الحكومات الرجعية لتطويق فعل الحركة الوطنية كلها .
من هنا يبدأ قلمي المستقل في الكتابة الملخصة عن تاريخ سبعين عاماً من نضال الحزب الشيوعي و" نصوص " خطابه السياسي والتنظيمي الموجه للشعب العراقي رغم صعوبة ذلك بمقالة قصيرة عن عمق ومعطيات تاريخ طويل لمواطنين شيوعيين كثار تخلوا عن ذاتهم ليكونوا أحراراً في علاقتهم مع الوطن والشعب فصارت حياتهم محاطة بالكوارث الفاشية وبصنوف من سيوف المصائب تصول وتجول حولهم من كل صوب ومكان لتقطيع روح خطابهم من ركيزته ولتشويه مضامينه الواهبة نفسها لكل كمال ولفكرة الافتداء في سبيل الشعب العراقي وحقه في حياة حرة صميمية ..
كان خطاب العقود السبعة الماضية قد تجمعت أوراقه في صندوق ثقيل لا أستطيع حمله كله أو فتحه كله لقراءة أوراقه كلها المدون فيها مثال صلابة فتوته الخاصة المتواصلة رغم العمر الطويل للحزب مما جعل حكمة وجوده في الذكرى السنوية لهذا العام بمستوى الواقع الراهن على أرض السياسة وعلى أرض الثقافة .
ما أن يأتي آذار ، كل عام ، حتى نجد فرسه مذكراً إيانا بتاريخ ميلاد الحزب الشيوعي العراقي في نهاية يوم ربيعي 31 /3/1934 مؤسسا صورة ملحمية في الزمن العراقي بكيفية ملموسة وغنية تتضمن عنصرا حركيا من عناصر بلاد الرافدين الموصوفة بعطاءات ملحمية كثيرة أولها ملحمة ككامش . . وتكون كتابة بعض الكتاب وشدو بعض الشعراء إزجاء ًجميلاً لوقت القراء حتى مع تذكيرهم بالدماء الشيوعية التي فارت وفاضت على أرض العراق إلى جانب دماء الوطنيين الآخرين من كل جنس ومذهب وحزب وعقيدة وقومية .
لا يغيب آذار غير 11 شهراً في العام الواحد حتى يرفع رباط الأشهر الأخرى لنراه بعيوننا وهو يجدد قدرته على استخراج كل ما هو جديد في الواقع الاجتماعي .
هذا العام 2004 نبصره بطريقة أخرى .
عادت روابي الكروم لشعبنا والعناقيد أصبحت في متناول يديه بعد أن مسكتها يد ظالمة 35 عاماً وقف فيها الناس حيارى مبلسين أمام بعضهم البعض يتطلعون في فراغ بحثاً عن أمل الخلاص .
إنها لذكرى تتدفق مع عناقيد الربيع وزهوره رغم كل شيء طالما يؤمن الإنسان إن النصر على الظلم لا يحتاج لمعجزة ..
لا يغيب تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عن أذهان العراقيين خاصة السياسيين والمثقفين والأدباء مثلما لا يغيب عن الطبقة العاملة والفلاحين فهو يسجل في ذكرى ميلاده في آذار من كل عام انه" نص " وجيه أول من نصوص الوعي المعرفي في تاريخ الأحزاب السياسية في العراق الحديث بعد أن امتلك هذا الحزب طيلة سبعين عاما وظيفة سياسية كبيرة على ساحة السياسة العراقية الممتدة في أنحاء العراق كافة .
ليس من دون معنى أن يُعرف الرجل الشيوعي في محيطه الاجتماعي بأنه مناضل في سبيل مصالح الجماهير وكونه مواطنا صالحا في هذه المدينة أو تلك . انتهى منذ زمان بعيد ذلك السؤال الذي كان يسأله أبن المدينة أو أبن الريف : من هو الشيوعي وكيف يكون شكله وما هي صفاته ..؟ فلا يوجد مكان في العراق يخلو من كفاية المعلومات عن الشيوعية والشيوعيين وتضحياتهم الجسيمة وتفردهم في سبيل تحقيق وطن حر وشعب سعيد .
على هذا الأساس فان " البطل الشيوعي " قد تفوق بتواضع في رواية الأحداث السياسية في العراق حين انتصر يوسف سلمان يوسف على رمزية خشبة الإعدام وحين انتصر حسين الرضي على جبروت قصر النهاية وحين انتصر ستار خضير على غدر رصاص الشارع المظلم .
وليس من غير المعقول ان لا يكون في كل مدينة وقرية من هم يعادون الشيوعية والشيوعيين إما عن جهل وإما عن موقف طبقي أو سياسي مستغل لضمان مصالحهم في السيطرة على الآخرين ، وإما عن رباط يوضع على العيون بثقل الكذب والزيف والخداع .
وجد النص الشيوعي في العراق مكانة في قلوب وعقول متلقين عراقيين على اختلاف طبقاتهم وقومياتهم وثقافاتهم منذ عام 1934 حتى اليوم . كان منهم العربي والكردي والتركماني والصابئي والشيعي والسني ، رجالاً ونساءً ، شباباً وشيوخاً ، منهم من كان معدما فقيرا من العمال والفلاحين ومنهم من كان من عائلة بورجوازية ثرية ومنهم من كان ابن وزير ومنهم من كان من عائلة دينية شيعية ومنهم من كان كرديا سنيا ومنهم من كان محاميا أو قاضيا أو طبيبا أو معلما أو أكاديميا .
يتسع خيالي إلى مدى واسع يصل إلى أعماق الأهوار وأعالي جبال كردستان وحيثما يوجد الكثير من رجاء الناس الذين يأملون نور حياة جديدة فأنك ترى محايثة كاملة لوجود الشيوعيين داخل ملحمة النضال الوطني مساهمين بقوة وحيوية لتعزيز روح الشعب الفاعلة إنْ بفعل ٍ صائب ٍ في أغلب الأحيان وإنْ بفعل ٍ أضيق من الواقع في بعض الأحيان بعد أن تحولت كينونة الحزب الشيوعي العراقي إلى حزب أفعال حق بُعيْد تأسيسه . وبدون شك أن كثيراً من أفعال الحياة في كل مكان وزمان لا تخلو من أخطاء .
لم يبن ِ الحزب تكويناته التنظيمية والسياسية في ما وراء الواقع بل في صلبه مرتبطا بشعبه وبقضاياه يعيش تجربته كلها برؤية جدلية يومية وقد تجنب الشيوعيون العراقيون الطريق المؤدية إلى الصمت في جميع مصاعب ومصائب السبعين عاماً أينما كانوا حتى داخل السجون وقد منحوا الشعب أفضل ما يملكون وكثير منهم قدم حياته على مذبح الحرية في سراديب المعتقلات والسجون أو تأرجحوا فخورين على أعواد المشانق فكانوا وما زالوا حجر البناء لهيكل الحرية في العراق .
انبثق الحزب في يومه الأول أو لنقل في سنته الأولى من تيار فكري واحد غير مكتمل وليس نموذجياً بعد ، شذبه يوسف سلمان يوسف وسط اضطرابات فكرية واجتماعية وطبقية سائدة في المدن العراقية وأريافها . كانت مجموعات وطنية عديدة أخرى تملك في تلك الأونة مواقف أيديولوجية وسياسية منها ما هو محافظ ومنها ما هو ديمقراطي ومنها ما هو رجعي مع تبلور علاقات ريفية شبه إقطاعية ومنها ما هو قادم مع القادمين من خارج الوطن وغيرها كان أهمها تيار " جماعة الأهالي " الشقيق لتيارات ديمقراطية أخرى نشأت في بريطانيا والهند ومصر وغيرها ساهمت بنشر مقولات الوعي الديمقراطي .
كانت ثلاثينات القرن الماضي إذن مولدة الروح الوطنية الباحثة عن الحقيقة الفكرية والسياسية في وقت كان الشعب العراقي فيه متحفظاً انفعاليا من كل حزب أو تجمع وطني . فكانت ولادة الحزب الشيوعي استباقا ذكياً للتطورات السياسية القادمة صنعته نخبة صغيرة العدد بتحد ٍ هادئ داخلة لمعترك النضال الوطني من باب الفضيلة الاشتراكية والديمقراطية .
لكن ما كان بشيراً لبداية مرحلة سياسية جديدة هو" النص الوطني الجديد " الذي حمله تيار الشيوعيين العراقيين المتفاعل مع أهداف نخبة عراقية لم يكتب خطابها الجماهيري ، في تلك الآونة ، بعد . فوجد الشيوعيون العراقيون الأوائل أنفسهم أمام مهمات تأصيل الوعي الوطني والديمقراطي في هيكل تنظيمي موحد .
هكذا كانت البداية قد قامت من خلال تجارب تنظيمية وخبرات فكرية يقوم بعضها على الوعي وبعضها الآخر قام على الحماس . كان لا بد من محصلة مناسبة لترسيخ ليس فقط تنظيم الحزب الجديد بل ترسيخ قدرة فهم الأحداث ووصفها وتفسيرها و تشذيبها من خلال مقاييس الماركسية وعلى ضياء تجارب أحزاب شيوعية أخرى في العالم ومنها أو في مقدمتها الحزب الشيوعي السوفيتي ، الذي قدم بعد سبعين عاماً من سلطته مثالاً تجريبياً يشير إلى أن الأفكار الشيوعية مثل النسيج الممتاز المرتبطة خيوطه بآلاف الخيوط فما أن يتوقف المكوك تتوقف روابط النسيج كله . من هذه التجربة أدرك شيوعيو العراق أهمية ضمان العلاقة بين النص والتطبيق دون غياب لا في ميزات النسيج ولا في قدرات المكوك ..
في كثير من مراحل تطور" النص الشيوعي " في العراق كان النص يظهر مفهومه تدريجياً وكان انتشاره سريعاً بين الجماهير رغم وجود خلفيات معرفية متنوعة ، بعضها مؤهل وبعضها غير مؤهل ، كان مفروضاً عليه التمعن في صيغ الخطاب الشيوعي المنصوص عليه في شعاراته ومنشوراته السرية المطبوعة بالرونيو . كانت النصوص تبعا لذلك تـُفسر بكيفيات مختلفة من قبل بعض كوادر الحزب ومن قبل أصدقائه وأعدائه بوسائل غير متطابقة مع بنية الواقع أو منطوية على سلوك انعزالي أعاق فعله في بعض الوقائع السياسية في التاريخ العراقي لما بعد ثورة 14 تموز 1958 ولما بعد فترة تعزيز قوة حزب البعث العربي الاشتراكي المحمول بجذور الفاشية العراقية بعد صعوده الثاني إلى السلطة عام 1968 .
بوصف الحزب الشيوعي ، من حيث التركيب التنظيمي ومن حيث الدلالة الفكرية حزباً ماركسياً ــ لينينياً ، وقد سار، خلال 70 عاماً ، على ارض مكسوة بالحصى الغليظ قبل وأثناء وبعد ان ينجز وظيفته الاتصالية مع الجماهير. لعل من المهم الإشارة إلى ان الحزب واجه في كل مراحل تطوره تدخلات مباشرة لتهدم بنائه والقضاء على مهاراته من الداخل والخارج :
أولاً : في داخله واجه العديد من قصور وعجز بعض الكوادر في فهم الخواص الأساسية لوجود الحزب الشيوعي العراقي في وسط اجتماعي ــ اقتصادي غير متبلور تنعكس فيه تقلبات العلاقات الاجتماعية رأسمالياً في المدن وإقطاعيا في الريف ، مما أدى إلى إرهاقه بالانقسامات والأنشقاقات الداخلية في بداية الأربعينات ( مجموعة إلى الأمام ) وفي بداية الخمسينات( مجموعة راية الشغيلة ) وفي نهاية الستينات ( مجموعة القيادة المركزية ) . مما جعل الحزب بين عقد زمني وآخر مرغما على إعادة تثبيت التوازن الهيكلي في تنظيماته عقب كل هزة داخلية ، تنظيمية أو فكرية ، مما كان يستوجب في ذات الوقت إعادة تكوين التوازن في شعاراته وأهدافه وأساليب عمله . يلاحظ بهذا الصدد أن الحزب كلما عالج صدمة سياسية أو تنظيمية أو نفسية كلما وجد نفسه في حالة من العمل الإيجابي المتواصل للتخلص من انفعالية قيادته وقاعدته كي يرقى إلى مستويات متقدمة في العمل السياسي الوطني على المستويين التنظيمي والجماهيري في خضم نشاطات الشارع العراقي المليء بالإضرابات والمظاهرات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم . . بدءاً من إضراب عمال النفط في كاورباغي عام 1946 وحتى الآن حيث تواجه الحزب في هذه الأيام ضرورات امتلاك القدرات السياسية الحقيقية والقدرات التنظيمية الناهضة في ظل وطننا المحتل منذ عام 2003 المليء بقوى ظلامية جرى ترويض حواسها على فعل الجريمة وعلى الحركة التخريبية المسلحة من قبل قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في البلاد لمدة 35 عاماً . كان تفجير مقر الحزب الشيوعي في بغداد الجديدة ــ المشتل إشارة احتمالية جديدة لما قد يواجهه الحزب في المستقبل المنظور من عنف وهجمات مسلحة تقوم بها حلقات دموية من أعدائه المتنوعين الذين يبطنون عدائهم بمختلف الذرائع ولا اشك أن ظلال النظام السابق تغطي كل عدوان من هذا النوع .
ثانياً : كان المستوى الثاني من التدخل ، لتطويق الحزب وربما لسحقه أو إتلاف نصوص خطابه الجماهيري ، يأتي من الخارج . من أجهزة وسياسات الحكومات التي تعاقبت على دست الحكم اعتمادا على حجم كبير من وسائل القمع والإرهاب كان بكرها كثافة نيران القمع الموجهة إلى الحزب الشيوعي عام 1947 ــ 1948 ــ 1949 حيث لم يستطع الحزب من تفادي الهجوم الواسع النطاق على قياداته وقواعده بالتدخل الحكومي ــ الرجعي بمهارة إلقاء القبض على قيادة الحزب وإعدام أربعة رفاق قياديين ( يوسف سلمان ــ مسيحي ، و زكي بسيم ــ سني ، و محمد حسين الشبيبي ــ شيعي ، ويهودا إبراهيم صديق ــ يهودي )ربعة تم اختيارهم بغاية أساسية أولى ، هدفها محاولة قطع جذور الحزب الشيوعي مع الجماهير الشعبية المحيطة به . كانت السلطة القائمة آنذاك مرتبطة مباشرة بالاستعمار وسياساته ودوائره المختلفة المناوئة للشيوعية في الشرق .. كانوا يريدون إعاقة نمو جنينها في العراق والشرق الأوسط .
غير أن الحزب سرعان ما نهض مجددا في بداية الخمسينات رغم جراحه المثقلة بالضربات البوليسية وبأنواع من الخيانات الداخلية من عناصر الضعف داخل الحزب وعجزها عن الصمود في سراديب التحقيقات الجنائية ( مالك سيف / نموذجاً ) واستطاعت كوادره الشابة من خفض نسبة العوق في مسيرته وخلق التطور الجديد في أساليب عمله وفي تطبيب جراحاته وفي رفع مستوى تقنيات هيكله التنظيمي . فتوفرت له الإمكانية والظروف لوضع ٍ سليم ٍ ساعده على تبوأ مركز قيادي في انتفاضتي 1952 و1956 تعلم منهما ومن إضرابات عمال الميناء 1952 وإضراب عمال نفط البصرة 1954 ومن انتفاضات فلاحية كثيرة مهارات فردية وجماعية لقيادة الكثير من الأعمال والتحركات والتمردات الجماهيرية سواء من خلال التحالفات مع أحزاب أخرى أو من خلال الاعتماد على الذات .
تعلـّم الحزب في تلك المرحلة وعلـّم جماهيره مجموعة المنبهات السياسية التي تساعد في المساهمة بالأحداث قبل وقوعها كي يساهم في صنعها والتأثير في مساراتها ومشاريع فعلها فكيـّف نفسه وشعاراته لإزالة التعقيدات عام 1957 فدخل الحزب كشاب ٍ نشيط ٍ في ربيع عمره النضالي إلى ساحة العمل الجبهوي في ربيع ذلك العام متتبعاً الحقيقة الفعلية المنصوص عليها في برنامجه الوطني : لن يحقق شعبنا انتصاره من دون قيام الجبهة الوطنية..
فقامت بعد اتحاد جهوده مع جهود أحزاب وطنية أخرى ، جبهة الاتحاد الوطني ، بسرعة وقابلية لم يكن أحد يتخيل أن بـُعدها الشاسع أنتج، بعد فترة قصيرة ، قيام و نجاح ثورة ً في يوم 14 تموز 1958 لبدء مرحلة تغيير المجتمع تغييراً جذرياً في سلك التحرر من نظام الإدارة الاستعمارية واقامة نظام يمنح الشعب حريته على أساس الديمقراطية .
لم يكن النص الجديد للشيوعية العراقية بعد ذاك يجد شكله الملموس والدقيق بسهولة آنذاك . كانت الشيوعية وحزبها محبوبين وعزيزين وموضوعين للاحترام من قبل مجموعات جماهيرية ليست قليلة . لكن النص نفسه المطالب بالحرية والديمقراطية لم يسلم من الشر والأشرار من كل نوع من أنواع السلطة الفردية الحكومية التي سمحت ، دون وعي ، للثيوقراطية والرجعية أن تتجمع بأسم العدالة والحرية بقيادة حزب البعث المتحالف مع قوميي جمال عبد الناصر فرفعوا مجتمعين سيفاً بموجب بيان رقمه 13 ليهلكوا به ليس " النص الشيوعي " بل محاولة إهلاك صانعيه كلهم في شباط 1963 .
ضاعت منذ ذلك الطغيان الفاشي سلطة القانون وضاعت أيضاً الأعراف الاجتماعية للتواصل معه أو الاستنجاد به . وأصبح الحاكم الفرد هو الذي يصنع القانون بمفاهيم قبلية وفاشية ميزتها الأولى وضع الشعب العراقي كله في مستوى التبعية الإلزامية . تحولت الدولة منذ 17 تموز 1968 إلى كيان إداري مركزي واحد أصبح فيه حزب البعث هو القانون الذي يصنع " النصوص " التي لا يستطيع الشعب العراقي أن يستنشق هواء أية نصوص وطنية أخرى وفي مقدمتها " نصوص " الحزب الشيوعي العراقي . ومنذ عام 1979 خصوصا أصبح صدام حسين بشخصه وإرادته هو النص القانوني الأول في البلاد كلها . يملي تشريعه على الناس والأحزاب عن طريق أحاديثه الضالة عبر الشاشة التلفزيونية وبأساليب المضامين الملموسة بالحروب والقهر والسجون والأسلحة الكيمياوية والمقابر الجماعية طيلة ربع قرن من الزمان إلى حين سقوطه في 9 نيسان 2003
خلال سبعين عاماً أقسم كما يبدو جميع حكام الأنظمة المتعاقبة في العراق على إنهاء وجود الحزب الشيوعي العراقي أو على عزل نصوصه السياسية عن ميادين الحركة الجماهيرية وأحزابها الوطنية .ولم يختلف هؤلاء الحكام بعضهم عن بعض إلاّ بحدة النيران الموجهة إلى صدره . كما أقسمت بذات الوقت جميع المدن العراقية الخاضعة لأولئك الحكام أن تحتفظ بنصوص الشيوعيين العراقيين في صدور أبنائها وبقيت ملتزمة بتعهداتها : الحزب الشيوعي لا يموت .
إن تبادل هذا القسَم مع الحزب الشيوعي القائل : ( قد يموت شيوعيون بالرصاص أو على أعواد المشانق ) لكن يظل ضمانة حقيقية لاستمرار حياة الحزب الشيوعي وتجاوزه جحيم ربع القرن الماضي وخلاصه النهائي من سيف و نتائج النظرية التعاقدية بين حزب الفاشية الصدامية وجميع حلفائه الرجعيين داخل العراق وخارجه وهي النظرية التي كان قياسها العام أن القضاء على الحزب الشيوعي يعني القضاء على الأحزاب الوطنية كلها . من يتأمل واقع الحياة الحزبية في زمن صدام حسين يقر حتما التسليم بحقيقة ان كآبة عميقة رسمت لافتات جميع الأحزاب الوطنية العراقية اللاجئة في الخارج والعاملة بسرية بالغة في الداخل .
لم تكن هذه النظرية الفاشية مفهوما إرهابياً مجرداً . بل هي مفهوم ملموس من النظرية التعاقدية المتخيلة في تقاليد الرجعيين والإقطاعيين والرأسماليين المستعمرين الغزاة وبين جميع الروابط السياسية الجاهلة وغير الواعية للأهمية التاريخية لوجود النص الشيوعي في أيدي الجماهير الشعبية وفي عقلها وهو النص الذي بدأه الرفيق فهد بالقول : قووا تنظيم حزبكم .. قووا تنظيم الحركة الوطنية ..
هذا النص لا يجد قيمته التاريخية في إيجاد رابطته التاريخية مع أحزاب الحركة الوطنية حسب بل انه يتضمن مرتبة فريدة النوع في سعة الأفق الوطني وفي رؤيته السديدة لتحويل الشيوعيين إلى " مناضلين وطنيين " لا يحملون امتيازاً خاصاً بل امتيازهم الأساسي يكمن بحكمة النضال من اجل مصالح الشعب العراقي كله، بالرغم من أن الحزب الشيوعي العراقي تميز بأنه أكثر الأحزاب درامية على مستوى التضحية ,
هذا المعطى كان الضمانة في تسهيل انتقال الحزب من مرحلة إلى أخرى ومن موقف إلى آخر كلما وجد خطأ ما في نص ٍ من نصوصه أو في آلية عمله بهذه الفترة أو تلك من فترات حياته الطويلة في مقاومة الطغيان والظلم الذي عانى منه شعبنا طيلة العقود السبعة من عمره .
حفل تاريخه كله بممارسة نقد نصوص الآخرين مثلما كان ناقداً مستديماً لنصوصه ذاتها معتمدا على روح بناءة جابه فيها بروحية القديس كل أخطائه وتطلعه للبحث عن آلية متجددة دائماً بصورة منتظمة وفعالة لمراقبة نفسه ونصوصه وسياسته وتطبيقاته .
إن تاريخ الحزب الشيوعي كله تضمن مجموعة مدهشة من الحيثيات الوطنية :
1 ــ كان طوال سبعين عاما شرطاً ضرورياً من شروط التغيير في المجتمع العراقي .
2 ــ مارس النقد الذاتي ويمارسه برزانة ٍ منسجمة ٍ مع الواقع الوطني والدولي .يشهد له تاريخ عمله السياسي أنه الحزب الأكثر جرأة في اعتماد وسيلة كشف أخطائه بالنقد الذاتي كمادة أساسية ملائمة لإعادة فعل البناء الذاتي ..
3 ــ رفع عاليا مستوى الإبداع الأدبي والفني والثقافي في وطننا بكتابات أعضائه لنصوص إبداعية ( أدبية وفنية ) بارعة تصدرت تاريخ الأدب العراقي أو طورته من خلال دعمه وتشجيعه لأفضل الرؤوس الشيوعية المفكرة داخل الحزب وخارجه ولجميع أصدقائه من الأدباء الملتحمين بدائرة فعله الثقافي .
4 ــ لم يعتمد في نصوصه على عموميات لا قيمة لها نسبياً بل نظم نصوصه بتكييف أكثرها من واقع شعبنا ووطننا وتركيبهما القومي والديني والطبقي . وقد أدى هذا الاعتماد إلى تشكيل قوتين مترادفتين مترافقتين في الحركات والوثبات الجماهيرية أساسهما : الحزب والجماهير .
5 ــ لم يحكم نصوصه خارج المسؤولية الروحية بل قدم قواعد ثمينة لتعريف احترامه للدين الإسلامي ولكل عقائد وأديان الشعب العراقي رغم أنه يقف إلى جانب أحزاب وطنية واسلامية عراقية لتلافي قيام سلطة ثيوقراطية في مستقبل العراق .
6 ــ لا يعتبر الحزب الشيوعي نفسه مصباحاً وحيداً في سماء العراق المظلمة خاصة في هذه الفترة المليئة بالفوضى والإرهاب والارتباك بل يعتبر مقامه إلى جانب مقامات الأحزاب الوطنية والديمقراطية كلها .. يعتبرها كلها مصابيح ساطعة وأن تجاذبها وتفاعلها واتحاد دوراتها الوطنية ستجعلها أكثر سطوعاً ..
7 ــ من أهم نصوص الحزب اهتمامه العملي بحقوق المرأة الاجتماعية والمدنية والإنسانية والدعوة لمساواة حقوقها بحقوق الرجل استناداً إلى روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة .
لم يكن الحزب الشيوعي بلا خطايا .
خطايا الانشقاقات كانت كثيرة .
القياديون الكهان كانوا كثراً .
اقتحمته نصوص خاطئة كثيرة .
تنازعت تاريخه موجات سياسية كثيرة .
لكنه ظل حيا بل بقي كياناً قابلاً للتجديد والتطابق مع البنية الذهنية الكلية لماهية وجوده خاصة بعد اجتيازه موجات البحر الغليظة والصعبة التي حاولت الفاشية إغراقه فيها وإنهاء حياته .
لقد كان تاريخ الحزب الشيوعي وسيبقى تاريخ مبارزة طويلة مع الحياة ومع الأعداء . يبقى النوع الأساسي من المبارزة ، كما بدأ في أول تأسيسه ، مبارزة أفكار ورؤى منطلقتين من كليتين ، كلية " الوجود " الذي تمليه ضرورات التاريخ العراقي وديدنه ومسيرته ، وكلية" العدم " التي يسعى لها أولاً وأخيراً أعداءه ، أعداء الشعب العراقي .
في هذه الأيام يراود الشيوعيين حلم المثال الأعلى في ترسيخ نظم وعلاقات الديمقراطية الشفافة داخل الحزب وفي خارجه أيضا على نطاق المجتمع كله . بالرغم من ان هذا المثال الأعلى يصطدم بقوة بسلطة حالية مزدوجة . في طرفها الأول سلطة اختلال ليست تقليدية ( سلطة الائتلاف المؤقتة ) وفي طرفها الثاني سلطة غير تقليدية أيضا( مجلس الحكم الانتقالي ) وكلا السلطتين صاحبة طموحات كثيرة تثير الكثير من غليان النصوص والأفكار والاتجاهات المترابطة أحيانا والمتناقضة في أحيان أخرى .. فهل يمكن لأحد أو لحزب أو لقوة وطنية ان تحقق وحدة المجتمع ووحدة التوجه والمسيرة ..؟
السؤال الأصعب في هذه القضية يواجه الحزب الشيوعي بالذات .
المجتمع هو ذاته في حالة انقسام يجب الاعتراف بها . لا يبدو منظورا في الصورة العراقية واقعا نهائيا لهذه الحالة من دون جهد وطني جبهوي ديمقراطي يحمل جوهره في عمل فعال من أجل اختراق كل السلبيات الراهنة لنقل البلد بشارعه السياسي كله وبمنظماته المدنية كلها إلى شاطئ الإيجابية ,
يجب الاعتراف بأن هناك من مجموعة أحزاب مجلس الحكم وجمهورها في الشارع وفي الأرياف من يسعى لاقامة السلطة الديمقراطية وهناك من الأحزاب والقوى من يريد إقامة سلطة دينية ، وهناك من القوى الداخلية والخارجية من يريد إفساد مهمة تحقيق السلطتين . كل سلطة تريد إخضاع الناس والمجتمع لنصوصها وشرائعها . أنه على العموم صراع حاد بين سلطتين، الدينية والمدنية . فكيف يكون للنص الشيوعي قدرة فاعلة في التمييز بين المهام والوظائف المتنوعة لتجنب تحول الصراع من الشكل الديمقراطي وحوار النفس الطويل إلى نهوض سيفين ــ لا سمح الله ــ يرمزان لسلطتين مدنية وروحية يتقابل حاملوها وجهاً لوجه .
صحيح أن هناك خيارات عديدة لنصوص وطنية كثيرة وحلول لكل الخلافات المعلنة والخفية بين " المجموع الديمقراطي " و " المجموع الثيوقراطي" على نطاق المجتمع العراقي كله ، لكن أهم قيمة لتلك الخيارات هي تحقيق واقعة تكيف كل حزب وطني مع المثل الأعلى في العمل المشترك الموحد .
أن أموراً كثيرة قد تغيرت في واقع حال الحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين :
1 ــ انتقل الحزب الشيوعي من كفاءة وخطورة العمل السري إلى فضيلة العمل العلني . ولا شك ان هذه الانتقالة منحت الحزب قوة متنامية في الشارع الديمقراطي العراقي ووسعت من كفاءته في الالتزام المتبادل بينه وجماهيره الغفيرة في المدن والأرياف .
2 ــ لم يعد الشعب العراقي كما كان في عقود كثيرة ماضية ملتزماً بنصوص هذا الحزب أو ذاك أو بهذه الآلية النضالية أو تلك فقد اصبح على درجة عالية من الوعي تؤهله لكل حوار . من هنا فان قيادات وكوادر الحزب الشيوعي تجد نفسها وواجبها الأول في تجاوز العمل في المكاتب الحزبية العليا والتوجه نحو الجماهير الشعبية في أدنى بقاع التجمعات الجماهيرية كي يحقق الحزب موقعه القيادي والتأثير في حركة الجماهير ..
3 ــ وجد الحزب نفسه ، كما الشعب العراقي كله ، يعمل على أرض محتلة . سيد القوة والقرار فيها جيش أمريكي مسلح استبق وجوده في هذه الأرض مصمما على محاربة سلفه الكبير في الحكم صدام حسين ونظامه واسلحته وأعضاء حزبه وأعوانه داخل العراق وخارجه من اجل مصالح مادية مشتركة . فوجد الحزب نفسه أمام أكوام من العقد الوطنية و العربية والدولية تستلزم مجابهتها بأقصى الحكمة والمعقولية فصاغ نصاً وطنيا جديداً بمنهاج الحد الأدنى القادر على التفاعل مع الواقع العراقي كله .
أظن أن من المسموح به القول بهذه المقالة أن الضرورة الأولى في نصوص الحزب الشيوعي أن تكون حساسة جداً ومدروسة جداً وعقلانية جداً وشفافة كي يقاوم أية محاولة للانزلاق من الطريق العدل .هناك أسباب مختلفة وعوامل متعددة يمكنها ان تفسر جميع أنواع الحذر من خطر الوقوع في انحراف عن الجادة أو الخروج عن واقع الحال العراقي المركب والمتناقض مما يفرض عليه أن يستمد نوره من القمر مهما كان ضعيفاً أو مكثفاً بالغيوم ، وأن يستمد نوراً من الشمس مهما كانت حرارتها قوية وشعاعها قوياً .
يمكن معالجة أية قضية بالنص المتجدد القائم على المبادرات السياسية وعلى الأفكار الوسيطة المعتدلة . بإمكانه بالمجموع الفكري الكلي ، والمواقف الموحدة ، أن يعالج عدالة أو ظلم القوانين بصبر جسور وعلى أساس نقطتين مهمتين :
الأولى هي أن تشارك قيادات الحزب جميع قواعده بمنتهى الشفافية والحبور وأن يكون لجميع أصدقاء الحزب ومحبيه نصيب في صياغات النص الشيوعي لهذا الزمان .
الثانية هي الاتجاه في العمل التنظيمي لبناء هيكلية جديدة يشارك فيه الشباب الشيوعي بنسبة عالية تمكنها من المساهمة بصياغة " نص المستقبل الوطني " في مؤتمر شيوعي عام وجديد يقول بصوت عال ٍ : ها أنذا ..!
لا شيء مستحيل إذا ما نظر الشيوعيون إلى أمام .. لا شيء مستحيل إذا فاضت الصدور بنصوص متجددة وإذا ما تجمع الشيوعيون وأصدقاؤهم كتفاً إلى كتف ويداً بيد لتحقيق مسرات الديمقراطية أمام أعين الشعب كله ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 30/1/2004