|
الثقافة العراقية تزدهر في برلين !
داود أمين
الحوار المتمدن-العدد: 2372 - 2008 / 8 / 13 - 11:09
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
المقدمة خمسة أيام ممتلئة بالمدهش والممتع والجميل، خمسة أيام حافلة بالفنون والآداب، حيث إمتزجت الموسيقى بالشعر، وتلاحم المسرح بالتشكيل، القصيدة تجاور اللوحة، والمحاضرة تلامس العرض المسرحي، والفلم السينمائي يقترب من الحفل الموسيقي، أكثر من 60 مبدعاً عراقياً ساهموا بشكل مباشر في فعاليات ( مهرجان أيام الرافدين الثقافية العراقية الرابع في برلين ) ، بالآضافة لعشرات غيرهم من المبدعين الذين حضروا نشاطاته المختلفة وساهموا في الحوارات والتعليقات، نادي ثقافي عراقي متواضع، في عاصمة دولة أوربية يعتمد على إشتراكات أعضائه، وهم بضع عشرات فقط، والتي لا تتجاوز 3 يورو في الشهر، نادي عراقي يديره خمسة أعضاء لا غير، مع مجموعة من المتطوعين، ينجح وللمرة الرابعة على التوالي، على حشد كل هذا العدد من المبدعين العراقيين، من الشعراء والمسرحيين والسينمائيين والتشكيليين والموسيقيين والقانونيين والكتاب والنقاد، القادمين من مختلف دول أوربا، ولا يكتفي بتنظيم ما سيقدمونه من نتاج ثقافي إبداعي، وتوفير القاعات والآمكنة المناسبة لكل نتاج فقط، وهو عمل غير قليل، بل ينظم النادي أيضاً عملية إستقبال المشاركين وإسكانهم ونقلهم لمقر الفعاليات، وتوفير ثلاث وجبات طعام يومياً لهم!! وهو جهد ترتبك في إنجازه وزارات ومؤسسات دولة تعتمد على ميزانيات مفتوحة!! الحقيقة لقد أدهشتني والكثيرين مثلي، الروح الفدائية العالية وهذا التفاني النادر لهذه النخبة القليلة من العراقيين ألآصلاء، الذين لا هم لهم سوى خدمة الثقافة العراقية ومحاولة توحيد خطابها من أجل عراق ديمقراطي ،عراق تستعيد فيه الثقافة الوطنية عافيتها ، بعيداً عن الطائفية والمحاصصة وألآحتلال، وأعتقد أن منظمي المهرجان والمساهمين فيه نجحوا، وفي حدود مناسبة ، في ملامسة الرئيسي والآساسي في هذه الآهداف النبيلة، فالدعوة لتوحيد الجبهة الثقافية العراقية، ومحاولة تشكيل إطار ثقافي ديمقراطي يضم كافة المثقفين العراقيين ، وبغض النظر عن قومياتهم وطوائفهم وأديانهم ومناطقهم وأفكارهم ، هذه الدعوة كانت حاضرة في نقاشات الكثير من الحاضرين، رغم أنهم لم يتخذوا خطوات عملية ملموسة لتنفيذها، كما كان موضوع الطائفية ودور الثقافة العراقية في التصدي لها محوراً لنقاش مثمر بين المساهمين ومع مستمعيهم ، كما كانت مضامين الفعاليات الثقافية التي قدمت خلال أيام المهرجان، على إختلاف أنواعها تصب في خدمة جوهر الثقافة العراقية التي بنيت على التعددية والتنوع، وعلى الحس الديمقراطي، الذي يغترف من الفسيفساء المعروف لشعب العراق، بكل تنوعه وإزدهاره.
المسرح والسينما كانا فاكهة المهرجان ! لقد كان للمسرح العراقي والسينما العراقية حضورهما المميز في المهرجان، ويتجسد الحضور بالنسبة للمسرح في النصوص المقدمة، إذ من بين ثلاثة أعمال مسرحية قدمت في المهرجان، كان هناك نصان عراقيان ، الآول ( أطفال الحرب ) أعده وساهم في كتابته المسرحي المبدع ( علي ريسان ) وهو من أخرجه ومثله، والثاني (عاشق الظلام) وكان من تأليف الكاتب العراقي ماجد الخطيب، أما الثالث ( الهنا والهناك ) فرغم أنه للكاتب المجري مروجك، فقد تم تعريقه وتقديمه بالدارجة العراقية، ويمكن وضع الآعمال الثلاثة في خانة المسرح الفقير، من حيث الديكور المتواضع وألآعتماد بشكل رئيسي على الممثل ( جسداً وصوتاً ) وقد مثل العمل الآول الفنان ( علي ريسان ) والعمل الثاني الفنانان ( أسعد راشد وحيدر أبو حيدر ) والعمل الثالث الفنانان ( حسن الدبو وسامر صادق ) وقد كشفت الآعمال الثلاثة عن طاقات إخراجية وتمثيلية ممتازة ، فبالآضافة لتمثيله الجيد وتنقله بين عدة شخصيات، كانت الحركة الآخراجية للفنان علي ريسان متقنة، ولولا صدى قاعة العرض، لكانت متعة الجمهور أكبر وأشد، أما ما قدمه المبدعان أسعد راشد وحيدر أبو حيدر من تنوع في الحركة والصوت، وهو ليس جديدا على ممثلين محترفين منذ سنوات عديدة، فقد إنسجم مع الخطة الآخراجية المتقنة للمبدع المخضرم (حميد الجمالي ) الذي لم يكتف بمساحة المسرح المحددة ، بل تعمد ملامسة الجمهور، والآقتراب منه من خلال وضع طاولة وكراسي ملاصقة للجمهور، وقد إستخدمها الممثلان في حوارهما الهارموني المتشابك، لفت إنتباهي في هذا العمل النهاية القاتمة وحالة اليأس التي ربما يوحي بها، فكلا الشخصيتين ( العامل والمثقف ) وهما عراقيان مغتربان ينهاران في نهاية العرض دون تفسير معقول ! أما العمل الثالث فعدى النص الجميل والمكتوب بعناية وذكاء، فقد قدم العمل إثنان من الممثلين المبدعين، وهما حسن الدبو( إبن المنلوجست العراقي الشهير علي الدبو) وسامر صادق، فقد أجادا في دوريهما وقدما عملاً كاد أن يتكامل مع خطة إخراجية ممتازة لمخرج واعد هو الفنان ( محمد السوداني ) ومؤثرات صوتية مدهشة (للطيف الدبو) لولا ألاخطاء اللغوية الواضحة أثناء العرض. إن الآعمال المسرحية الثلاثة تطمئن المتابع والمهتم بالمسرح العراقي أنه لا زال في خير، وإن ألاجيال المسرحية المختلفة تتمازج في الخبرة والتجربة، وتغترف أيضاً من تجارب المحيط المسرحي والثقافي الذي تعيشه في بلدان الغربة، بالآضافة لما تحمله من تقاليد وإصالة مسرحية وطنية. أما السينما في المهرجان ( وهي أكثر الفنون ندرة وبعداً عن الجمهور ) فقد كانت حاضرة بقوة، ويمكن أن أؤكد إن ما شاهدته من أفلام عراقية في أيام المهرجان الخمسة ، يعادل ما شاهدته خلال أكثر من عقد من السنين! فقد قدم الفنان السينمائي فاروق داود الفلم التسجيلي ( ذاكرة وجذور ) وهو عن الروائي المبدع ( غائب طعمة فرمان ) وقد أعاد الفنان فاروق من خلال هذا الفلم ليس صورة غائب الكاتب والروائي فقط ، بل صورة بغداد الستينات ، بدجلتها ومحلاتها القديمة وشخوصها ، كما قدم الفنان السينمائي محمد توفيق فلمين كان ألآول تعبيرياً قصيراً وهو بعنوان ( باب السماء ) رصد فيه الفنان حركة الضوء على حائط وأرضية مبنى ، اما الفلم الثاني والذي كان عنوانه (نسرين | ماريا ) حيث ألانتقال المدهش بين شخصية المرأة وهي تمثل ، ثم وهي تعود لواقعها ، لقد قدم الفلم غوصاً عميقاً في عالم المرأة ووقف الى جانب سعيها في الحرية والمساواة ، أما المخرج العراقي ( ليث عبد الآمير ) فقد قدم فلم ( أغاني المنسيين ) وكان الفلم إستعراضاً لواقع الآنسان العراقي والمدن العراقية ما بعد ألاحتلال ، اخر الآفلام كان عنوانه ( ب مثل بابل ) ورغم أن مخرجه هو الفرنسي ( جورج برناد) إلا أن مساعدته في الآخراج كانت الفنانة العراقية (سلام طه رشيد) وهي الممثلة الرئيسية في الفلم الذي يتحدث عن العراق وعن حضارة بابل القديمة وصلتها بالحاضر. إن عدد الآفلام المعروضة في المهرجان وتعدد مخرجيها ، وتنوع تجاربهم وموضوعاتهم ، يتيح للمشاهد تلمس نهضة جدية ومستقبل واعد لهذا الفن الجميل، الذي يتطلب إمكانيات مادية غير قليلة للآنتاج وصالات عرض للمشاهدة.
ندوات ومحاضرات وأسئلة لا زالت مفتوحة ! لقد حفل المهرجان الرابع لنادي الرافدين الثقافي في برلين، بالعديد من الندوات والمحاضرات الثقافية والسياسية والقانونية فعن تأريخ المسرح العراقي ، كانت هناك ندوة شارك فيها الفنانون ( الدكتور نور الدين فارس وأديب القليجي وعلي فوزي ) وأدارها الفنان علي رفيق، وقد تحدث الفنانون الثلاثة عن تأريخ المسرح في مدن العراق الرئيسية ، بغداد والموصل والبصرة، وكانت مادتهم مناسبة لحوار مثمر مع الجمهور حول المسرح العراقي وأفاق تطوره، في ظل الظروف الجديدة التي يعيشها الوطن. أما الندوة الثانية ، فقد كانت تحت عنوان ( دور المثقف العراقي في مواجهة الطائفية ) وقد ساهم فيها الآساتذة الدكتور زهدي الداوودي والدكتور صادق إطيمش والدكتور قاسم عكايشي والفنانة عفيفة لعيبي والناقد ياسين النصير، وأدارها الشاعر هاتف الجنابي، وقد أثارت المضامين الهامة للموضوعات التي طرحها المساهمون في الندوة ، الكثير من النقاش الهام حول دور المثقف العراقي المغيب عن عمد ومقصودية عن المشهد السياسي ، وما يدور في الوطن، وعن كيفية الخروج من هذا الواقع ومحاولة تفعيل دور المثقف العراقي من خلال ألآطار التنظيمي الجامع للمثقفين ، ومن خلال الفاعلية الثقافية والثقة بإمكانية المثقف وبدوره وبقدرته على التأثير والتغيير . كما كان يفترض أن تكون هناك ندوة يساهم فيها ألآستاذ لبيد عباوي والاستاذ جورج منصور ويديرها ويساهم فيها الدكتور كاظم حبيب، إلا أن ظروفاً منعت حضور الضيفين من العراق ، فتم الآستعاضة عن الندوة بمحاضرة قيمة عن الوضع السياسي للدكتور كاظم حبيب ، وقد إستحثت المحاضرة المستمعين لنقاش حيوي، تناول القضية العراقية من جوانب متعددة . كما قدم القاضي زهير كاظم عبود محاضرة قيمة عن ( حقوق القوميات والآقليات الدينية في الدستور العراقي ) ساهم الجمهور خلالها أيضاً في إبداء الكثير من الملاحظات والآراء. وعدا الندوات، كانت للمحاضرات الثقافية مساحتها أيضاً، إذ قدم الآستاذ الباحث (غازي يوسف) بحثاً ممتعا عن ألة الناي، وكان يدعم مادته النظرية بتقديم معزوفات جميلة على الة الناي التي يعمل على تطويرها، كما قدم الفنان التشكيلي ( فيصل لعيبي ) محاضرة قيمة عن ( تطور الفن التشكيلي في العراق ) مع عرض سلايدات للوحات عراقية لمختلف الفنانين العراقيين الذين تحدث عنهم.
شعر وموسيقى وتشكيل! بعد دقيقة الحداد على ارواح شهداء الثقافة العراقية وشهداء الشعب العراقي، التي بدأ بها مهرجان برلين إفتتاح أيامه العذبة، كانت الموسيقى هي الحاضرة ، فقد أهدى الفنان غازي يوسف عاصمة بلاده بغداد ، تقاسيم شجية على الة الناي، مفتتحاً اليوم الآول من مهرجان الفرح الذي إستمر خمسة أيام، وقد إختتمت (فرقة ترانيم) المتكونة من 8 من العازفات والعازفين، ومن مختلف القوميات والبلدان، وبقيادة الفنان العراقي ( طه حسين رهك ) إختتمت المهرجان في يومه ألآخير بحفل موسيقي تحت عنوان ( أنا من أهوى ) حيث قدمت الفرقة أغنيات عربية وعراقية منوعة، ولولا العطل المفاجيء في أجهزة الصوت لكانت متعة الآستماع والمشاركة كبيرة لدى الحاضرين ! وبين عزف ناي اليوم الآول وموسيقى ( ترانيم ) في اليوم الآخير، كان الشعر العراقي حاضراً وبقوة في المهرجان ، ففي اليوم الثاني من الفعاليات إستمع الجمهور لآربعة أصوات شعرية عراقية متميزة ، كان لي شرف تقديمها لمستمعيها، والشعراء هم عدنان الصائغ وعبد الكريم كاصد وفاضل السلطاني وهاتف الجنابي، وقد أمتعوا الجمهور بالجديد مما كتبوه ، وبالتجارب الشعرية التي يشتغلون عليها، وفي اليوم الثالث حضر الشعر مجدداً، ولكن هذه المرة بالدارجة العراقية ، حيث قدم العزيز طارق حربي صديقيه داود أمين وطه رشيد للجمهور كشاعرين شعبيين! ورغم إنني أعلنت أني لست شاعراً شعبياً، إلا أنني قرأت قصيدتين شعبيتين أعترف أنهما تمثلاني ، كما قرأ صديقي الشاعر طه رشيد مجموعة من قصائده الغزلية الجميلة، وكان للآمسية صداها الطيب لدى جمهور الحاضرين. أما الفن التشكيلي فكانت حصته محفوظة في المهرجان، إذ ساهم 12 فنانة وفناناً تشكيلياً عراقياً ينتمون لمختلف المدارس الفنية ومختلف الآجيال، في عرس ألآلوان الذي إستمر على جدران قاعة النشاطات، يصافح عيون المشاهدين طوال أيام المهرجان .
التكريم طبق المهرجان الشهي ! لقد تعودنا، نحن العراقيين أن نقيم المأتم ونبالغ في ألآطناب على من نخسرهم بالموت من مبدعينا، نجلد ذواتنا أننا أهملنا هذا المبدع أو ذاك ، ناسين أن من نرثيه كان الى الآمس القريب بيننا، يمارس حياته وسط إهمالنا وغفلتنا، وإنه كان ينتظر أن يسمع بعضاً مما نقوله له وعنه، لقد إنتبهنا، نحن الذين كنا نعمل في إدارة البيت العراقي في كوبنهاكن لهذه الحقيقة، في وقت مبكر نسبياً ( أي عام 1996 ) حيث قررنا تكريم الآحياء من مبدعينا، وبدأنا بتكريم الفنان المبدع سامي كمال، وكانت إلتفاتتنا تلك ربما أول مبادرة لبيت عراقي ثقافي، لتوجيه الآنتباه للمبدع العراقي الحي، الذي يفترض أن يشعر بأن جهده الثقافي وما قدمه لم يضيعا هباءاً. وهنا في برلين، وفي رابع أيام المهرجان كان الحشد شديداً في القاعة الخاصة بالمسرح، فالكراسي تزدحم بالجالسين، وفي الخط الآمامي يجلس ثلاثة من ممثلي السفارة العراقية في برلين ( جزاهم الله خيراً على حضورهم المبكر لفعاليات المهرجان !! ) الصديق الفنان طه رشيد يقف خلف المكرفون، معلناً تكريم المهرجان للفنان المبدع سامي كمال، وبعد كلمة قصيرة عن سامي ومكانته في الغناء العراقي، طلبني للحديث عن هذه المناسبة السعيدة، فقلت بين ما قلت، إن سامي يقف اليوم في برلين، وقفة مشابهة لوقفته تلك في كوبنهاكن، يوم كرمناه، ويستمع لكلمات أخرى تحمل نفس مضمون الكلمات التي سمعها هناك ، وهي أن سامي كمال باق في ذاكرة العراقيين، وليس في ذاكرة أصدقائه ومحبيه فقط ، وإن ما قدمه من فن وإبداع هو في موقع الآعتزاز والتقدير والآحترام لدى أبناء وطنه الذين أسعدتهم الحانه، والذين رافقوه مشوار عمره الفني الذي كان حافلاً بالعطاء والتحدي ، ثم أعطيت الكلمة للفنان المسرحي المعروف (منذر حلمي) الذي تم تكريمه في المهرجان الثقافي الثالث قبل عام، فتحدث عن الثقافة العراقية وما تعانيه في ظل حكومة المحاصصة والطائفية، وما يتعرض له المثقفون العراقيون من إرهاب وتهميش وإهمال، حيث تسود مفاهيم التخلف والظلامية والجهل وطقوس الموت، كما أشاد في كلمته بدور الفنان سامي كمال وقيمته في ذاكرة الغناء العراقي الآصيل ، بعده تحدث الفنان قاسم حسن عن محطات من رحلة سامي كمال، وأشاد بدوره في تكوين الفرق الغنائية والموسيقية العراقية والفلسطينية، وما قدمه من الحان ستظل خالدة، وقد فاجأ الشاعر أشتي الحاضرين، عندما حمل المكرفون ليقرأ ويغني زهيريات جميلة كتبت خصيصاً ليوم تكريم سامي، وأستقبلت بالتصفيق والآعجاب ، ثم تلقى الفنان سامي كمال هدية نادي الرافدين من رئيس النادي الفنان ناصر خزعل، والتي كانت لوحة تشكيلية كبيرة تحمل صورته، كما تلقى هدية رابطة الآنصار الشيوعيين قدمها الفنان النصير هادي الخزاعي ، وباقات ورد من أخرين، وبصوته الذي أتعبه المرض وسنين الغربة والترحال رد الفنان سامي كمال على مكرميه والمحتفلين به شاكراً ومعاهداً على خدمة الفن العراقي والثقافة العراقية.
المهرجان التصحيحي!!! لقد وصل معظم المشاركين في المهرجان الى برلين، قبل يوم من بدء فعالياته، وغادروها بعد يوم من إنتهاء أعماله، أي أنهم أمضوا ست ليال حافلة في برلين، وإذا تجاوزنا ما هو رسمي ومعلن من الفعاليات والنشاطات التي أسهبت في الحديث عنها قبل قليل، فإن هناك مهرجاناً أخر للفرح العراقي ، كان يقام ليلياً في مكان السكن، وتبدأ أعمال هذا ( المهرجان التصحيحي ! ) بعد الساعة الثانية عشر ليلاً ويستمرحتى تتكشف ملامح الفجر! ففي حديقة السكن الواسعة ، حيث المصطبات الخشبية تتسع لعشرات الجالسين ، تصطف القناني المختلفة أمام الحاضرين، وقبل أن تنضج أفخاذ الدجاج وحبات السجق على فحم الموقد،وهو طقس يومي إعتدناه طوال ليال المهرجان، تكون البطون قد إحتست ما يؤهل أصحابها للتحليق والطيران! وإذا زخت السماء بعضاً من جود أمطارها، فلا تأفف ولا إمتعاض، فالقاعة الرئيسية تتسع لآضعاف الموجودين !ولن نخسر من الوقت سوى دقيقة واحدة للآنتقال! في الحديقة أو القاعة يتجلى الكرم صفة لصيقة بالعراقيين، فالآقداح تتوالى عليك يميناً وشمالاً، وحين تجازف وتقول إنك لا تحب الشرب كثيراً، تنفتح العيون بإتجاهك متعجبة !! وكأن هناك خدش في عراقيتك! فتضطر للسكوت محتسياً كشكولاً عجيباً من المشروبات التي تختصر الكثير من سنك ووزنك! فتنسى سنواتك الستين ووزنك الذي يجاورالتسعين، وتحلق مع السرب في سماء ألاغنية العراقية الآليفة والنكتة الداعرة !
ربما كنت، في معظم الليالي التي أتحدث عنها ، أكثر الجميع صحواً ويقظة، لعدم قدرتي على مجاراة الآخرين في الشرب، بسبب وضع صحي وميل قديم، لكني كنت مثل معظمهم مسكوناً بالبهجة والفرح، أراقب هذا الفرح الطاغي على وجوه الجميع محاولاً تفسيره، وإكتشاف من أي نبع يأتي؟ كنت أسجل على ورقة صغيرة بعض تفاصيل ما أراه، ألاغاني، من يؤديها ألآن؟ والى أي زمن تعود؟ ولماذا هذا الزمن بالذات؟ النكات، من يقولها ويجيد روايتها؟ ولماذا هذا النوع المفضوح؟ هذا المزاج الرائق الذي يوحد الجميع، ما هي أسبابه؟ هل هو بسبب ما يُحتسى من مشروب؟ لا أعتقد ذلك، فالجميع يشربون قبل أن يجيئوا الى هنا، ربما يومياً، فلماذا لا يسكنهم مثل هذا الفرح؟ ولماذا لا يُحلقون على نفس هذا المستوى من الآرتفاع؟ أعتقد أن ( اللَمّة العراقية ) هي سر هذا المزاج الذي يوحد الجميع، فالجميع محتاج لمثل هذه اللمّة، الجميع أمضوأ عشرات السنين في الغربة، والجميع عاشوا في أوساط غريبة عنهم ( لغة وتقاليد وسلوك ) وهم محرومون من ممارسة عراقيتهم، التي وجدوها هنا، حتى ولو كانت في شكل مختصر ومكثف، الجميع محرومون منذ عقود من وطن أحبوه وعشقوا أرضه وأنهاره وناسه، لكنه مُصادر ومخطوف ألآن ! إنها محاولة لسد شرخ في الروح ، محاولة للتعويض عن عراق غائب، عراق مسروق! لقد إنتبهت للآغاني التي رددها الجميع ، أغاني تنتسب للخمسينات والستينات، للزمن الجميل، ( أنا وخلي تسامرنا وحجينه ، سمره وسيعة عين ،على الميعاد إجيتك، عمي يبياع الورد ، سلم بعيونك الحلوة ، ياصياد السمج صيدلي بنيه، يردلي سمره قتلتيني ) والعشرات من الآغاني الآخرى التي تنتسب لنفس تلك المرحلة، بل حتى الآغاني العربية ، كانت لآم كلثوم وفريد الآطرش! فلماذا هذه ألآغاني بالذات؟ هل هو حنين لتلك الفترة التي ظهرت فيها هذه الآغاني؟ أم هو إستعادة روحية لوطن وأهل وأصدقاء وزمن عزيز ؟ ! كان الجميع يشترك في الغناء، ويكمل البعض ما ينساه غيرهم من كلمات، وكان الفنان ( فيصل لعيبي ) جوكر هذه الليالي التي لا تنسى، فقد تحول ل ( مجرشة ! ) تطحن الآغنية والنكتة الفاضحة والحدوثة الموحية، يقف بطوله الفارع وشعره الطويل ولباسه المميز، يغني وينكت ويروي بصوته ويديه وجسده، وكأنه ممثل محترف، دافعاً الجميع لضحك لا ينقطع! القاضي الجليل ( زهير كاظم عبود ) ولطيف المشهداني ( ابو بهيجة ) وطه رشيد حاولوا مجاراة فيصل إلا أنهم عجزوا عن اللحاق بذاكرته العجيبة وبقدرته وطريقته في الرواية وإنتزاع الضحكات ! رغم إنهم لم يقصروا في ألآمتاع والتشويق ! لقد كانت محاولة تفسير ما أحسه من متعة غير عادية وما يحسه جميع المحيطين بي، هو ما يشغلني وأنا أراقب الجميع، لقد رأيت الشاعر( عدنان الصائغ ) ملتصقاً بالفنان ( لطيف الدبو ) الذي كان يغني ويعزف على العود، كما يلتصق عابد بمنبر لخطيب جامع! كانت عينا عدنان ( الصامت الخجول ) تلمعان فرحاً ودهشة بهذا الجو الساحر من الطرب والآنسجام! أما الدكتور قاسم العكايشي، فكان يجلس بين المغني والعازف، مؤشراً بيده وكأنه يوزع الآيقاع بين الآثنين ! ماجد الخطيب وأسعد راشد وطه رشيد هز الطرب أوساطهم، فنزلوا الساحة راقصين! الشاعر الجميل( سامي عبد المنعم ) أجهز في ليلة واحدة على قنينتين كان قد جلبهما لكل أيام المهرجان! فبات يرى كل الحاضرين أبناء ( ناصريته ! ) أما أشتي فقد إستيقظت في روحه لا شعورياً مهمته كسكرتير لرابطة الآنصار الشيوعيين ، فأخذ يصدح بصوته الجميل من بين الاف المواويل، موال جبار ونيسه الشهير ( لون لي بالعشيره ربع وأنصار ! ) الشاعر طارق حربي وناصر السماوي، كانوا أكثر الجميع حفظاً لكلمات الآغاني، فما أن يشعرا بفتور الحماس، حتى ينبريان للمواصلة والتكميل! ناصر خزعل وسمير خلف إستعارا من عمهما وإبن مدينتهما ( داخل حسن ) دقاً رناناً على الآصابع! فيصل لعيبي يسلك هذه المرة طريق المقام العراقي فيصدح ( يلماخذ الروح خذها بيا ذنب حالي! ) وقبل أن يكمل مواله يبادره طارق حربي قائلاً ( جا شلك بعد بالرسم ؟! ) الفنان غازي يكلكل بالناي في الحان شجية، معيداً إياي نصف قرن للوراء، فقد كان أبي واحداً من أكثر مُجيدي العزف على الناي الذي لم يفارقه طوال حياته! وحين يغني فيصل لآم كلثوم أغنية ( الحلم ) يعيدني أربعة عقود ، يوم التقينا أول مرة، وبصحبة صديقنا المشترك الفنان كاظم إبراهيم، في تموز عام 1969 وتمشينا في شارع الرشيد ، كان فيصل وقتها يردد نفس الآغنية ! وجه الفنان نور الدين فارس كان يلمع إشراقاً، لقد غافل عقده الثامن وعاد فتى نشيطاً وهو يردد مع الجميع ما تستيقظ في ذاكرته من أغنيات! وكانت فرحته لا حدود لها عندما قدم الفنان المبدع ( لطيف الدبو ) المنلوج الشهير لوالده الفنان ( علي الدبو ) سكران بالك عنه ... فلوس العرك مو منّه ! لقد أصر العزيز ( أبو يقظان ) أن لطيف يؤدي المنلوج أحسن من أبيه !! الكاتبة فخرية صالح كانت ( تراوس ) بين رغبتها في البقاء والتمتع بهذا الجو الآستثنائي، وبين الوقت الذي يركض كعداء، وضرورة عودتها للبيت فهي من سكنة برلين، لذلك تراها نصف جالسة ، نصف متجهة نحو الباب، ولكنها وقبل أن تغادر، تقترح على لطيف الدبو أن يشاركها الغناء فتصدح بغنيلي شوي شوي .. غنيلي وخذ عيني ! ثم تنسل نحو بيتها مع أخر باص أو قطار!! الدكتوران صادق إطيمش وحسين كركوش، تستيقظ الشطرة والقلعة في أعماقهما، إذ أن كل ألآطوارالتي يسمعانها ( من ذيج الواجهة ! ) لذلك فإن أصواتهما ترتفع مع المغنين، وأكفهما تشارك في التصفيق! لقد كان الفرح سيد تلك الليالي المجيدة، التي لم يسألني فيها أحد عن قوميتي أو ديني أو طائفتي، ولم أفعل الشيء نفسه ، فهذا هو العراق موحد ومختصر في هذا الخليط الجميل من العراقيين الذين لا يتذكرون سوى وطن واحد، ولا يجمعهم سوى حنين مشترك للقاء قريب فيه ! شعر وغناء ونكات وذكريات وإستعادة لآهل وأصدقاء وأمكنة ، كل ذلك وغيره كان يتجدد كل ليلة، ورغم أن العمر والصحة لا تسمحان لآكثرنا بمثل هذا التمادي من السهر المتواصل، إلا أن الرغبة في مط الليل وتطويله وإستنفاذ كل دقيقة فيه، كانت هاجس الجميع حتى أخر ليلة، ولسان حال كل منا يقول : فما أطال النوم عمراً ولا.... قصر في الآعمار طول السهر! ولآن( العرك كلش زين لا تكلي موزين .... والشمر لو سكران جا باس الحسين ! ) فأن العزيز حسين الموسوي في لحظات تجليه الدائمة، إقترب من ( أبو بهيجة ) قائلاً له ( عاشت إيدك أبو نهران، جان تقديمك اليوم للشعراء رائع !! ) ويبدو أن أبو بهيجه أعجبه المديح ( فغلس وبلعها !) كما إن مفعول ما تناوله العزيز الموسوي ظل لآخر يوم من أيام المهرجان ، فقد تطوع لآيصالنا لمحطة الباصات، لكي نعود الى كوبنهاكن، وقال إنه يعرف المحطة جيداً فهي قريبة من بيته، وبعد أكثر من ساعتين من التبديل المتكرر للقطارات والباصات والمترو، وجدنا أنفسنا وبمعية العزيز حسين خارج برلين! وحين عاتبناه أن باصنا سيغادر من دوننا، قال ببساطة (مو مشكله ..تمتعوا بالريف الآلماني!! ) ثم أكمل (الحقيقة أنه اليوم كعدت من الصبح أغني ما أندل دلوني يبويه!!) وكان علينا أن نقطع بطاقات جديدة ، ونعود لكوبنهاكن في باص أخر، بعد ساعات من موعد الباص الذي كان يفترض أن نستقله !!
وأخيراً لقد حاولت أن أكتشف كيف إن نادي ثقافي عراقي ، مثل نادي الرافدين في برلين ، ينجح وللمرة الرابعة، معتمداً على إمكاناته الذاتية، في إقامة مثل هذا المهرجان الثقافي، الذي أجزم أن مؤسسات ووزارات ترتبك في تحقيق ما حققه، كنت أتابع العراقيين من أعضاء الهيئة الآدارية وأصدقائهم، أؤلئك العاملون بصمت وبنكران ذات، أؤلئك الذين يسحبون ( جنطتك ) داخل ممرات المترو، ويطبخون الطعام الذي ستأكله، ويغسلون الكأس التي ستشرب بها، ويكنسون قشور فستقك وأعقاب سكائرك، وينظمون فوضى ليلتك السابقة! فهم وراء هذا النجاح ، لقد شاهدت نخبة من العراقيين الذين تشبه أخلاقهم أخلاق الشهداء، فهم يمنحون دون أن ينتظروا كلمة ثناء أو مديح! لقد تطوع (رحمن) بسيارته التي كانت في خدمة المهرجان طوال أيامه، ينقل فيها الطعام والشراب وديكور المسرحيات، وجنط المسافرين والقادمين، وكان ( علي ولي وشاكر سلمان وماجدة الخياط ولطيف الحبيب ومصطفى قرداغي، والشيخ السبعيني عامر الشيخلي ، الذي لم يفارق المطبخ، وعوائلهم ) وكثيرين غيرهم لم أتشرف بمعرفة أسمائهم ، لقد كان كل هؤلاء، مع رئيس النادي الصديق العزيز ناصر خزعل والقيسي والحكيم، والدكتور كاظم حبيب ، هم محور هذا النجاح، وهم سر هذه اللمة التي سأكون بينها كل عام، دعيت للمهرجان أو لم أدعى !!
#داود_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصحافة الأنصارية - صحيفة (النصير) نموذجاً !
-
على هامش المؤتمر الرابع لرابطة الانصار الشيوعيين في جنوب الس
...
-
دقات خفيفة على ابواب الستين - حوار مع الاعلامي داود امين
-
عزيز عبد الصاحب.. فنان صادق بإمتياز !
-
اللومانتيه ... مُجدداً اللومانتيه !
-
مؤتمر ومهرجان الآنصار الشيوعيين حدثان لا ينسيان !
-
قصائد
-
إلهام سفياني !!
-
في الطريق نحو المؤتمر الوطني الثامن للحزب
-
مثقفو الخارج جزء من الثقافة العراقية الواحدة *
-
مهرجان ( المدى ) الرابع - المثقفون العراقيون ينتصرون على الط
...
-
الكونفرنس الثاني لشبكة العراق الجديد ينهي أعماله في السويد
-
إلى من لا يهمه ألآمر !!!
-
بمناسبة رسالة برزان- وجهان لعملتين مختلفتين !!!
-
لكي لا ننسى ما يفترض أننا إتفقنا عليه !!
-
مهرجان (اللومانتيه ) عرس باريس السنوي !
-
مادة صحفية تُثلج القلوب !!
-
اخوانيات
-
لأجلِكُمْ !
-
الشهيد الدكتور ( ابو ظفر ) حياة مثمرة .. واستشهاد نبيل
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|