|
دور المثقف العراقي في مواجهة الطائفية
صادق إطيمش
الحوار المتمدن-العدد: 2370 - 2008 / 8 / 11 - 10:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هذا هو عنوان الندوة التي أعدها نادي الرافدين الثقافي العراقي في برلين ضمن مهرجان ايام الرافدين الثقافية العراقية الرابع في برلين والتي اشتركت فيها بمداخلة لم استطع إكمال عرضها نظراً لضيق الوقت الذي كان مخصصاً لهذه الندوة . لقد طلب مني بعض الأصدقاء إكمال الحديث على صفحات المواقع الألكترونية ، خاصة فيما يتعلق بالنصوص التي تناولتها في البحث والمتعلقة بالتربية الدينية ( ألإسلامية ) المُطبقة في المدارس العراقية في الوقت الحاضر والتي اعتبرتها الحاضنة الأولى للتوجه الطائفي المقيت الذي تمارسه أحزاب الإسلام السياسي اليوم في وطننا المُبتلى بها . حينما نتطرق إلى الدين كعامل لتنظيم علاقات الفرد ، ينبغي النظر إلى ذلك من خلال تأثير هذا العامل في مجالين من مجالات الحياة . المجال الأول الذي يتعلق بتنظيم علاقة الفرد من وجهة النظر الغيبية بالقوة الإلهية التي يؤمن بها أو وُلد عليها ، إذ لم يُسئل أي وليد عما يريده من دين ، فهو بذلك لصيق بهذا الدين شاء ام أبى ، والدين ألإسلامي هو أبرز الأديان في هذا التبني المبكر منذ الولادة . أما المجال الثاني الذي يساهم فيه الدين فإنه ينطلق من تنظيم علاقة الفرد مع المجتمع الذي يتواجد فيه من خلال العلاقات والمعاملات التي يعتبرها ألإسلام جزءً من مهامه في أي مجتمع يسود فيه . وفي الحالتين فإن تنطيم هذه العلاقات غيبية كانت او واقعية لا تتعدى الصفة الشخصية البحتة للفرد الذي يسعى إلى ذلك برغبة أو برهبة . وحينما يتم إختزال هذه العلاقة الشخصية البحتة إلى تبني فكرة معينة وحيدة الجانب ينشأ عنها الإعتقاد الراسخ بامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا وجود لها أساساً ، كما عبر عن ذلك أحد الفلاسفة الذي قال : ان الحقيقة المطلقة الوحيدة هي عدم وجود حقيقة مطلقة . فعندما يجري تبني هذه الحقيقة الوهمية يبرز ضمن هذا التبني الإنحياز الأكثر وهمية والمتمثل بتجزئة ألأصل إلى أجزاء يتخذ كل منها الشكل الجديد للحقيقة المطلقة التي أصبحت في هذه الحالة تعبر عن الإنحياز إلى الجزء من خلال الإبتعاد عن العام والدخول في الخاص ، حيث يُفهم هذا الخاص على أساس انه الوحيد الذي يمتلك الحق . وكلما إزداد التوغل في وهم ألإنفراد بامتلاك الحقيقة الغير موجودة أصلاً , كلما تركز الإستقطاب الذي يمكن صياغته في معادلة بسيطة يمثل حدها ألأول التعصب الديني وحدها الثاني التطرف المذهبي . أي اننا سنكون بمواجهة حل هذه الرموز بطرح السؤال : هل يقود التعصب الديني إلى التطرف المذهبي...؟
تميز الخطاب الإسلامي في جميع مفاصل تاريخه على ألإطلاق بهذه الظاهرة التي تمخضت عنها عشرات الفرق والمذاهب والنِحل والمِلل ، ولم تقتصر على الفرق الثلاث والسبعين المذكورة في الحديث المنسوب إلى النبي محمد ( ًص) والذي يقول : تفترق امتي من بعدي ثلاثاً وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، وإثنان وسبعون في النار . لا نريد أن نناقش صحة أو عدم صحة هذا الحديث الذي يبرر به الخطاب الديني الإسلامي الإنقسام والتناحر بين أصحاب الدين الواحد ، ويكفي أن نقول أنه يتعارض مع النص القرآني القائل : وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( ألأنعام 153 ) . لقد تجاوز بعض الباحثين هذا الرقم ، ثلاث وسبعون فرقة ، حيث توصل الباحث شريف يحيى ألأمين في كتابه الموسوم : معجم الفرق الإسلامية / من منشورات دار الأضواء في بيروت لعام 1986 إلى الرقم 428 حينما بوَب أسماء الفرق والمذاهب وما أنجبته كل فرقة واستمرار هذا التكاثر ألإنشطاري ضمن الفرقة الواحدة والمذهب الواحد . ما نواجهه اليوم في وطننا العراق هو صورة مصغرة لهذه الإنشطارات المذهبية لا ضمن الكل الأكبر فقط المتمثل بالدين ألإسلامي الذي يدعي الخطاب الديني وحدته أينما وُجد ، بل ضمن الجزء الأصغر أيضاً لتستمر ضمن جزء الجزء وهكذا .... وبما أن ظروف هذه الإنشطارات إرتبطت في الغالب بخلافات لم تستطع القوى المتنازعة تجاوزها بحلول وسطية عامة تتفق عليها هذه الأطراف ، أي عدم وجود الإستعداد لتقبل الآخر ، أو لتقبل الجزء ضمن الكل ، فقد نشأ الإنشطار مرتبطاً بالتطرف الذي أصبح العنف وسيلته في محاولات إيصال حقيقته الوهمية من خلال رفض الآخر ومحاولة إلغاءه . لقد نشأت الطائفية التي تريد أن تقود وطننا اليوم إلى ظلام الجاهلية الجديدة على هذا ألأساس الفكري الوهمي بامتلاك الحقيقة التي ما بعدها حقيقة وأصبحت كل مجموعة تدّعي بأنها الفرقة الناجية المقصودة بالحديث النبوي أعلاه .
الطائفية الدينية التي نواجهها اليوم في وطننا العراق تُعبر عن الإنتساب الديني ضمن إسلام الفقهاء لا إسلام السماء ، تتبلور عندها وتتطور دوماً وحسب الظرف فكرة إلإلغاء لكل ما يخرج عن نطاق المحور الذي تدور حوله ، إنساناً كان ذلك أو فكراً أو ممارسةً . وأصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة تقريباً المُتبعة في هذا الإلغاء الذي يستند على وضع الآخرين في مواقع الضلال التي تُجيز توظيف هذا العنف . وعلى هذا ألأساس أيضاً يتجه الفكر الطائفي وممارساته اليومية لخلق أديان متعددة ضمن ما يدعون وحدته الثابتة التي يفهمونها من خلال وحدة العبادات الدينية الإسلامية كالشهادة والصوم والصلاة والزكاة والحج ، فيختزلون الدين بذلك إلى عبادات فقط ، في حين أن هذا الجزء من الدين لم يأخذ إلا القليل جدا من الخطاب القرآني ومن التراث الذي أتت به الشعوب المختلفة التي دخلت الإسلام بحيث أصبح من المهم جداُ التمييز بين ما هو ديني وما هو تراثي . وهنا تكمن صعوبة التمييز بين هذين العاملين المؤثِرين في القناعة الدينية لدى الكثير من بسطاء الناس الذين ينجرّون نحو ألإستقطاب الطائفي ظناً منهم بأن ذلك هو الدين بعينه ، وما يسميه البعض شعائر دينية من جلد الذات وشق الرؤوس وغرز الخناجر في البطون والزحف على الوجه وغيرها الكثير من الخزعبلات البدائية إلا دليلاً على الخلط بين ما هو ديني وما هو ممارسة تراثية نقلتها وتناقلتها الشعوب المختلفة التي دخلت ألإسلام . وعلى هذا ألأساس يمكننا أن نميز بين مجموعتين من الناس الذين يتبنون الفكر الطائفي : المجموعة ألأولى التي تضع نفسها في موضع قيادة هذا التوجه وتجعل من الإرتباط بالدين وسيلتها التي لا تخلو من العنف للوصول إلى أهداف مخطط لها مسبقاً تعمل على الكسب السياسي والإنتفاع الإقتصادي وتبوء المركز الإجتماعي من هذا المنطلق الذي غالباً ما يتم تسويقه إلى البسطاء من الناس على أنه الدين نفسه . أي انها المجموعة التي تعلم كيف تستغل الدين لبلورة خطاب ديني يؤدي إلى تحقيق ما تريد تحقيقه وبكل الوسائل المتاحة التي يشكل العنف أساسها . أما المجموعة الثانية فهي المجموعة المنقادة ، دون وعي غالباً ، إلى المجموعة ألأولى والتي تمثل دور المتلقي والمنفذ ، إذ انها تتلقى ما تشرعنه المجموعة ألقائدة وتعمل به دون أي نقاش لأنها لا تملك مقومات ووسائل النقاش . ولكن كيف يتم ذلك....؟
لمعرفة أسباب هذا ألإنقياد ألأعمى أو المصحوب بالخوف دون القناعة ينبغي تقصي المصادر التي تقود إلى ذلك. ما من شك ان الجهل بالحقائق يوفر المجال الكافي للبعض للخروج على الملأ بأفكار لها فعل السحر خاصة إذا ما تعلق ألأمر بالغيبييات المرتبطة بالدين ، والخطاب الديني الإسلامي يحوي منها الكثير . إلا أن المهم في مثل هذا الأمر يتبلور من خلال التربية الدينية التي يُخطط لها حملة الفكر الطائفي لكي تكون ألأساس الذي يبنون عليه صرح طائفيتهم وتوجهاتهم لإلغاء الآخر .
يسعى فرسان الطائفية في عراق اليوم إلى بذر بذارهم القبيح في عقول الناشئة في مرحلة الطفولة . إنهم يسيرون بذلك على نفس النهج الذي رسمته البعثفاشية بطرحها شعار كسب الشباب لضمان المستقبل ، وها نحن نرى ماذا جنت البعثفاشية من شعاراتها هذه التي أوصلت الوطن والشعب إلى هذه المآسي التي يستمر الطائفيون على ديمومتها بتبنيهم لنفس منهج الجريمة هذا . لقد تحول درس التربية الدينية إلى التربية ألإسلامية التي تُحقق الحد الأول من المعادلة التي طرحناها والتي تقول بأن التعصب الديني يقود إلى التطرف المذهبي . ولنحاول هنا ألإطلاع على بعض النصوص في مادة التربية ألإسلامية التي تقود إلى تربية أطفال المدارس الذين لم تزل عقولهم متفتحة على تقبل كل شيئ . ففي درس التربية الإسلامية للصف الخامس الإبتدائي نقرأ النص المقرر التالي : " ألم يحن الوقت للذين آمنوا بالله ورسوله أن ترق قلوبهم عندما يذكرون الله سبحانه ويسمعون القرآن الكريم،فيسارعوا إلى طاعة أوامر الله والإنتهاء عن نواهيه ، ولا يكونوا كاليهود والنصارى من قبلهم حين طال الزمن بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم ، ولم تقبل موعظة وكثير منهم خرجوا عن دينهم ....." تمهل في قراءة هذا النص في كتاب التربية الدينية للصف الخامس إبتدائي لترى التنكر إلى الديانتين المسيحية واليهودية اللتان تواجدتا على أرض الرافدين قبل ألإسلام بمئات السنين واللتان تشكلان المفاصل الهامة في تاريخ العراق القديم وإلى التواصل مع هذا التاريخ المتمثل بالمسيحيين واليهود العراقيين الذين أُغتصِب بعضهم حق المواطنة من قبل حكومات العهد الملكي البائد بالتواطئ مع الإستعمار الإنكليزي والصهيونية العالمية حيث أُسقطت الجنسية العراقية عن اليهود العراقيين الوطنيين الأصلاء وذلك لتحقيق سياسة الصهيونية العالمية بإيجاد شعب لدولة دون شعب . إلا ان العراقيين المسيحيين الذين يجري التنكر لهم ولوطنيتهم ودينهم على هذه الصورة المليئة بالحقد والكراهية لا يمكن تفسيره إلا على أساس التدرج في الحقد ليحقق إلغاء غير المسلمين أولاً وتأجيج أجواء الحقد عليهم . وهناك نص آخر تناول اليهود بالذات ، تضمن أكاذيب تاريخية سيقت كمبرر للحقد على اليهود ودياتنهم التي يراوغ الطائفيون بإعلان الإحترام لها ، إلا أنهم سرعان ما يربطونها بالحركة السياسية الصهيونية التي تسير على نفس المنهج الطائفي الإسلامي الذي يتسلق على الدين لتحقيق أهداف سياسية بحتة لا علاقة للدين الحق بها . يقول النص في مقرر التربية ألإسلامية للسادس الإبتدائي في العراق الجديد : " كان اليهود في المدينة المنورة ذوي سلطة فقد كانوا أغنياء أقوياء , وكانوا أهل دين سماوي ولهذا كان الرسول يأمل ان يصدقوه وأن يتعاونوا معه ضد الشرك والمشركين فبادر إلى إقامة علاقات طيبة معهم . ولكن اليهود ظلوا يثيرون الفتنة بين المسلمين وأخذوا يسعون إلى إضعاف الإيمان في نفوسهم ، وزعزعة ثقتهم بدينهم وذلك بإثارة الشكوك حول عقائد ألإسلام ، ولم يشترك اليهود في الدفاع عن المد ينة في معركة أحد ، بقصد هزيمة المسلمين ، ودبروا مؤامرة لإغتيال الرسول ، ونقضوا عهدهم مع النبي ، وأخذوا يحرضون المشركين على قتال المسلمين ، ويمد ونهم بالمال والعتاد ، ويتجسسون على المسلمين ، ويسخرون منهم ، مما إضطر المسلمين إلى خوض عدة معارك معهم ، وكان النصر فيها للمسلمين ، وكانت الهزيمة والجلاء عن المدينة "
وهذا نص آخر يسعى إلى بث الحقد والكراهية على ألأديان ألأخرى ، حتى تلك التي يعترف بها ألإسلام كأديان سماوية . وحتى لو إفترضنا جدلاً صحة ما جاء به النص ، بالرغم من ألأكاذيب التاريخية الواردة فيه ، فإن هذا النص ينطلق من بث الحقد على دين يعتبره معادياً للدين الإسلامي إستناداً إلى تصرفات بعض مَن يتنمون إليه كأشخاص ولم يفرق هذا النص بين الدين وبين مَن يتكلمون أو يتصرفون باسم الدين . ومثل ذلك ينطبق على المسلمين أيضاً حينما خاطبهم القرآن قائلاً " قالت ألأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ....." الحجرات 14 . فالمواطن العراقي اليهودي حسب هذا النص هو عدو للإسلام ، وعلى هذه الروحية من الحقد وإلغاء الغير يسعى الطائفيون لإقتتال أبناء الوطن الواحد ، هذا الوطن الذي تعايشت فيه مختلف الأديان والقوميات لآلاف السنين مع بعضها البعض .
هنا يدور الحديث حول السؤال عن الطرق والوسائل التي يمكن بواسطتها مواجهة مثل هذا التثقيف العدائي للآخرين متخذاً من الدين وسيلة لذلك من خلال السلوك الطائفي الساعي لإلغاء الآخر . ولكن قبل التطرق إلى هذا ألأمر يجدر بنا الآن الإنطلاق من الوضع السائد في وطننا اليوم ما دام الحديث هنا يتعلق بدور المثقف العراقي في مواجهة الطائفية ، ولابد من التعرف على أهم وأنجع السبل المتعلقة بدور الثقافة العراقية والمثقف العراقي لمواجهة الفرز الطائفي الذي يعاني منه مجتمعنا اليوم .
إذا إعتبرنا الثقافة على أنها مجموع ما يتمخض عنه الفكر الإنساني في مجالات العلوم والفنون على إختلافها ، والتواصل الذي يتم من خلال ذلك عبر ألأجيال ، فإننا والحالة هذه نقف امام التفتيش عن ألإجابة على السؤال القائل : هل توجد هذه الثقافة اليوم في العراق بحيث تستطيع ان تحاكي الوضع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي السائد على ارض الوطن وتتفاعل معه ؟ اي بعبارة أخرى هل أننا نستطيع ان نرى اليوم بوضوح تأثير اللوحة الفنية او النحت أو القصيدة الواعية او الفكر الفلسفي المتنور او النتاج العلمي او المسرحية الرائدة على مجريات الحياة اليومية في وطننا ؟ نعم...هناك تناجات ونشاطات جديرة بالتقدير والدعم والمساندة على كافة الأصعدة هذه ، إلا انها لا زالت تناضل نضالاً صعباً وعسيراً لتتبوء المركز اللائق بها بين الثقافات الظلامية التي تعج بها الساحة العراقية اليوم . تسود اليوم ثقافة ألإسلام السياسي بكل مفاصله ومذاهبه وفرقه التي تتقاتل فيما بينها لتقود إلى التمحور الطائفي الظلامي التسلطي الذي يشيع ثقافة التناقض وانفصام في شخصية المؤسس والمتلقي لهذه الثقافة على حد سواء . إذ تتبجح طروحات هذا النوع من ألأفكار الطائفية باحترامها لحقوق الإنسان وتصرفاتها الواقعية تشير إلى عكس ذلك تماماً . ويكذب الخطاب الطائفي على الناس حينما يدعي إحترامه للأديان ألأخرى وكل توجهاته تشير إلى التثقيف بإلغاء الأديان ألأخرى . ويهذي الفكر الطائفي بالديمقراطية وحرية الرأي إلا أنه يقمع بكل ما لديه من وسائل العنف كل من تسول له نفسه مواجهة هذا الفكر بالحجة والمنطق ، إذ أن الطائفية والحجة المنطقية على طرفي نقيض . إن مثل هذه الظواهر في ثقافة ألإسلام السياسي ليست إنعكاسات آنية ، بل انها ظواهر ملازمة لهذا النوع من جعل الدين مصيدة للآخرين تبدأ بالمقدس لتنتهي بالمسدس . إن جميع أحزاب الإسلام السياسي هي أحزاب طائفية شاءت ذلك أم أبت ، إذ أن مجرد تصارع عدة أحزاب تدعي إنتماءها لدين واحد يبعد عنها صفة الإنتماء إلى هذا الدين ككل ، بل إلى جزء منه وهو ذلك الجزء الذي يدعي إمتلاكه وحده لحقيقة هذا الدين ، أي تبني وهم الحقيقة المطلقة الجزئي . ولو لم تكن جميع أحزاب اُلإسلام السياسي طائفية التوجه لما كانت هناك ضرورة عملية لوجودها طالما أنها تؤمن بوحدة الدين ، إذ ان وحدة الشيئ نظرياً يجب ان تنعكس على وحدة وجوده الفعلية التي يراها ويمارسها الناس ، وهذا ما لم يستطع الإسلام السياسي تحقيقه لأنه يتعارض ومساره الطائفي . خطاب الإسلام السياسي لفرقه المتناحره يصل بها إلى تبني التطرف ويدعو أساساً إلى نفي الآخر حتى وإن كان هذا الآخر مسلماً . وهذا ما نعيشه كل يوم حتى بين من ينتمون إلى طائفة واحدة ، ناهيك عن إدعائهم بانتماءهم إلى دين واحد . كما لا ينبغي لنا ان نتجاهل دور المؤسسة الدينية المرتبطة من قريب او بعيد بسلوك وتصرفات الإسلام السياسي اليومية على الساحة العملية . إن هذه ألمؤسسة الدينية بشكل عام مؤسسة إنتهازية تقليدية تجعل من تقلبها بين الحاكم وأحزاب الإسلام السياسي مادة وجودها واستمرارها حيث انها عاجزة عن تقديم خطاب ديني يتطرق إلى مشاكل المجتمع في الفقر والجهل والمرض والخدمات ، وأصبحت كالببغاء تردد وتكرر ما اصبحت الناس تعاف سماعه . وحتى في المجال الذي هو بحت إختصاصها وحقل عملها عجزت هذه المؤسسة عن تقديم المفردة الدينية العلمية التي تأخذ بيد المجتمع نحو الحداثة التي يعيشها العالم اليوم، وعلى هذا ألأساس نرى تفعيل الجوامع بدل الجامعات التي تحولت في كثير من مواقعها إلى جوامع أصلاً ، واصبح الفكر لديها مرادفاً للكفر ، لأنها ترى في تفعيل العقل تهديداً لوجودها وفي تنشيط الثقافة الواعية تعرية لأطروحاتها التي لا تنسجم وحداثة القرن الحادي والعشرين . حين يجري الحديث عن الشأن العراقي سواءً في هذا المجال الذي نتناوله اليوم والمتعلق بموقف المثقف من الطائفية أو في المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية المرتبطة جميعاً ببعضها البعض ، يجري دائماً طرح السؤال الذي أصبح ملازماً لهذه الأحاديث وهو : ما العمل .....؟؟؟ * إن إسترداد او تفعيل أهمية الثقافة في المجتمع ومن ثم بروز المثقف الواعي يستدعي اولاً وقبل كل شيئ نشر الوعي التعليمي والمعرفي الهادف إلى النهوض بالمجتمع والسير به للتلاحم مع الثقافة البشرية التي فرضتها ظروف الحياة الجديدة بكل شيء . * لا يمكن هضم وممارسة هذه الثقافة وفهم دور المثقف إذا لم تتوفر الضمانات التي تسمح برعاية وحماية المُنتج والمتلقي لهذه الثقافة على السواء ، إذ ما فائدة الثقافة التي لا تجد صدى لها في المجتمع إما بسبب الخوف أو الإنهماك بالسعي وراء الحصول على متطلبات الحياة اليومية . * إذاً ممارسة هذا النوع من الثقافة وجعلها جزءً من الغذاء اليومي لكل فرد في المجتمع سيشكل القاعدة التي يمكن بناء الفكر الواعي الحديث عليها ، الفكر الذي يرفض التطرف ويعيش مع الآخر من منطلق الحوار والقناعة والإلتزام . * الخطاب الديني الفاشل سوف لا يرضى بالموقع الذي يصل إليه بعد إنتشار الوعي المعرفي الذي سيحوله إلى خطاب هامشي . إذ من الممكن والحالة هذه ان يتبلور الخطاب الديني إلى خطاب طائفي محض بعد ان كان مختباً تحت عباءة الإنتهازية . وهنا لابد من إيجاد الخطاب الثقافي البديل السهل الهظم والتقبل من قبل المجتمع الذي أوقعته إنتهازية خطاب المؤسسة الدينية بين تقلبات الفكر الظلامي . * ولتوجيه التصدي الناجح للخطاب الديني المشوش لابد من التصدي لأهم أطروحات هذا الخطاب المتعلقة بالدين والدولة التي جعلها هذا الخطاب إحدى ركائزه ألأساسية في تعبئة الفكر الشعبي بالتحليل الخاطئ المضلِِل للتاريخ الإسلامي الذي شرعن بعض فقهاؤه عقلية التسلط والخنوع لهذا التسلط إنطلاقاً من تأويل : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. * كشف التضليل المتعمد الذي يمارسه الخطاب الديني سواءً من فصائل الإسلام السياسي أو من المؤسسة الدينية من خلال ربطه المتعمد بين التعاليم الدينية ، اي الدين ألإسلامي، والتاريخ الذي مر به هذا الدين خلال اكثر من 1400 سنة . إذ أن ما مورس خلال هذا التاريخ باسم الدين لا يمكن تجاوزه دون الإشارة إليه على حقيقته التي لا تخلوا من الصفحات السوداء في كثير من مفاصله . * التصدي لمفردات الخطاب الديني اليومية المتعلقة بالحياة العامة ، وليس بالممارسات الدينية فقط . فلا يمكن السكوت مثلاً عن تحريم الخطاب الديني ألإنتفاع من التطور التقني والعلمي والإجتماعي الذي وصلت إليه البشرية اليوم في كافة مجالات الحياة . فعلى سبيل المثال تسعى الإنسانية اليوم إلى تحقيق المساواة التامة بين البشر بغض النظر عن الجنس واللون والقومية ، في حين يؤكد الخطاب الديني على أفضلية المسلمين على البشر عموماً إستناداً إلى رؤيته للحقيقة المطلقة الوهمية من خلال تأويله مقولة : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، متجاهلاً او متحايلاً على نصوص أخرى يعتبرها هو من ضمن حقيقته المطلقة المقدسة ، كالنص القائل : يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين ( البقرة 122 ) ، حيث تلعب إنتهازية الخطاب الديني باجمعه المؤسساتي والحزبي لعبة التضليل والمرواغة السياسية عند مواجهتها نصاً كهذا. * تفعيل دور المتلقي نفسه لمواجهة الخطاب الديني وعدم ترك ذلك للنخبة . وهذا يتطلب ما ذكرناه آنفاً من التأكيد على نشر الوعي المعرفي الهادف بين أفراد المجتمع وعدم تركهم فريسة لتضليل المُضَللين . * من خلال تفعيل كل ذلك أعلاه على الواقع العملي لابد من إيجاد الخطاب الديني الواعي كبديل عن الخطاب الديني المُضَلِل . إن ذلك يعني وجوب إحترام الشعور الديني لدى المؤمنين حقاً وتوفير كل ما من شأنه تمتعهم بالحرية التامة لعكس هذا الإيمان على حياتهم الخاصة ، وذلك لن يتم دون التوجيه الديني الهادف الذي يصب في صلب التعاليم الدينية الحقة التي جعلت من أهدافها الإنتقال من ألأسوء إلى ألأحسن ، لا كما يفسرها الخطاب الديني السائد اليوم والتي جعلها سلاسل تعيق المجتمع عن أي تحرك جديد ليظل يراوح على أفكار ومفاهيم القرون الأولى من عمر البشرية فتمنعه بذلك عن اللحاق بالركب البشري الذي يواصل المسيرة دون الإلتفات إلى المتخلفين عنه . * لا يمكن تحقيق ذلك كله دون وجود سلطة سياسية قادرة على رعاية هذا التوجه ومؤهلة لمواصلة مسيرة الفكر الإنساني المتجدد ، لا مجال فيها للمتقاعسين والطفيليين والمتطرفين واللصوص . حكومة تعمل بجد وحق على إعلاء شأن الوطن أولاً وآخراً وتحقيق سعادة أهله بتوفير أجواء حياة القرن الحادي والعشرين لهم في الوقت الحاضر . من هنا نستطيع ان نتحرى العلاقة الجدلية بين السلطة السياسية والثقافة ودور الثقافة والمثقف في المجتمع . وطالما يتعلق الأمر بموقف المثقف العراقي من التوجه الطائفي السائد اليوم في المجتمع العراقي ، مع ألأسف الشديد ، فإن حدود معادلة : التعصب الديني يقود إلى التطرف المذهبي تصبح بوجود السلطة السياسية القائمة على تهميش الثقافة والمثقفين معادلة قائمة على الواقع العملي . هذا الواقع الذي لا ينبغي ألإستكانة له وقبوله كأمر واقع ، فكل واقع متغير لا محالة وما على الثقافة العراقية وروادها إلا إلى السعي نحو هذا التغيير .
#صادق_إطيمش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهرجان نادي الرافدين الثقافي في برلين
-
اهازيج الشارع العراقي اليوم
-
يا اهل العراق....هل انتم مؤمنون حقاً...؟ فالمؤمن لا يُلدغ من
...
-
دروس تموز
-
مدينة الثورة ....الإنجاز المسروق
-
القضية الكوردية وإشكالات المسيرة 2/2
-
القضية الكوردية وإشكالات المسيرة 1/2
-
أصحوة أم كبوة....؟
-
كتاب جدير بالدراسة والتأمل.....3/3
-
كتاب جدير بالدراسة والتأمل.....2/3
-
كتاب جدير بالدراسة والتأمل....1/3
-
هوس التكفير في عقول أعداء التفكير
-
ألقصف التركي لقرى جبل قنديل له ما يبرره....!!!!!
-
سعي الرأسمالية لعولمة العمل بعد عولمة رأس المال
-
لقد أهنتَ الشهداء قبل ألأحياء....يا سيادة الرئيس
-
لماذا إمتنع السيد ألسيستاني عن ألإفتاء في هذا ألأمر.....؟
-
هل مَن كان يتنظر غير ذلك من أحزاب الإسلام السياسي...؟ القسم
...
-
هل مَن كان يتنظر غير ذلك من أحزاب الإسلام السياسي...؟ القسم
...
-
يا وليد الربيع.....نشكوا إليك غيبة ربيعنا
-
شهاب التميمي......مناضل حتى النفس ألأخير
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|