|
الآيات المحكمات والمتشابهات فى دراسة عملية : (رؤية الله تعالى )
أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 2370 - 2008 / 8 / 11 - 10:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أولا : عن المنهج العلمى لفهم القرآن الكريم قلنا إنه يفرض على الباحث : 1 ـألا يبدأ بحثه بأحكام مسبقة يريد إثباتها . 2 ـ أن يلتزم بمصطلحات هذا الكتاب ومفاهيمه، لأن المفاهيم التى يعتمدها المؤلف فى كتابه تكون بمثابة عقد بين المؤلف والباحث، فإذا التزم الباحث بتلك المفاهيم والمصطلحات التى يقوم على أساسها نسق الكتاب أمكن للباحث بسهولة، أن يستوعب كل حقائق الكتاب المبحوث. هذه هى أصول المنهج العلمى التى نراعيها فى بحث المصادر والكتب البشرية. وهى نفسها أصول المنهج العلمى التى يطالبنا رب العزة باتباعها فى تدبرنا للقرآن. أن الله تعالى يأمرنا فى القرآن بالتدبر لآياته (محمد 24) ( النساء 82) ( المؤمنون 68) والمنهج العلمى للتدبر يكمن فى بنية الكلمة نفسها. فالتدبر يعنى أن تكون فى دبر الآية، أو خلفها، أى أن تكون الآية القرآنية أمامك (بفتح الهمزة) وأن تكون إمامك (بكسر الهمزة) والمعنى أن تبدأ بآيات القرآن، وليس بفكرة مسبقة، وأن تتبع كل الآيات فى الموضوع المراد بحثه فى القرآن، و أن يخلو ذهنك تماماً من كل أحكام ومفاهيم مسبقة ومن كل هوى تريد مسبقا إثباته بالتلاعب بآيات القرآن الكريم ، طالما تريد أن تتعرف ـ مخلصا ـ على الرأى القرآنى المجرد . وحينئذ ستجد أمامك كل الآيات المحكمة والآيات المتشابهة تقول نفس الرأى وتؤكد نفس الحقيقة، غاية ما هناك أن الآيات المحكمة تؤكد الرأى القرآنى بإيجاز وصرامة، أما الآيات المتشابهة فهى تعطى تفصيلات تؤكد ما قررته الآيات المحكمة. ثم فى كل ما تبحث تتعرف على مفاهيم القرآن من خلال القرآن نفسه. وفى النهاية تجد كل الآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد نفس المعنى ، وتؤكد لك أيضاً أن القرآن الكريم كتاب أحكم الله تعالى آياته بعد أن فصلها على علم وحكمة. ( الأعراف 52 ) سبحانه جل وعلا. هذا هو المنهج القرآنى ، وهو أيضا المنهج العلمى العادل و الموضوعى . وعليه، فإن لم يتبع الباحث هذا المنهج الموضوعى فالأغلب أن يقع فريسة المنهج التراثى السائد فى فهم القرآن ، وبالتالى فسينتقى من الآيات ما يتفق ظاهرها مع المعنى الذى يريد إثباته ، ويتجاهل الآيات الأخرى التى تناقض رأيه ، كما لن يتوانى عن تحريف آيات أخرى فيقع فى التناقض مع القرآن ومع المنهج العلمى أيضاً. ثم يعلل هذا الخطأ بخطيئة كبرى يتهم فيها القرآن الكريم بأنه حمال أوجه . ولو أنصف لأتهم نفسه بالتلاعب بآيات الله جل وعلا . أما إذا اتبع المنهج العلمى القرآنى وقام بفهم مصطلحات القرآن من خلال القرآن نفسه، واتجه لكتاب الله تعالى طالباً الحق والهداية دون رأى مسبق وبتصميم على أن يعرف الحقيقة مهما خالفت الشائع بين الناس، فإن من اليسير عليه أن يعرف رأى القرآن، وسيفاجأ بأن مفاهيم القرآن ومصطلحاته تخالف بل وتتناقض أحياناً مع مفاهيم التراث ومصطلحاته، وأنه من الظلم للقرآن والمنهج العلمى أيضاً أن تقرأ القرآن وتفهمه بمفاهيم ومصطلحات تخالف وتناقض مفاهيم القرآن ومصطلحاته. ونأخذ أمثلة عملية تبدأ بموضوع رؤية الله جل وعلا فى الاخرة.
ثانيا : إختلاف علماء التراث فى موضوع رؤية الله تعالى
1 ـ أبوالحسن الأشعرى ت 330 فى كتابه الأشهر ( مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين ) نثر بين ثنايا كتابه اختلاف أئمة التراث فى موضوع رؤية الله جل وعلا . وننقل عنه قوله : ( واختلفت المرجئة في الرؤية على مقالتين: فمنهم من مال في ذلك الى قول المعتزلة ونفى ان يرى البارئ بالابصار. وقالت الفرقة الثانية منهم ان الله يرى بالابصار في الاخرة.وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية ان الله لا يرى بالابصار في الدنيا والاخرة ولا يجوز ذلك عليه. واختلفوا في الرؤية لله بالابصار هل يجوز ان تكون او هي كائنة لا محالة على مقالتين: فقال قائلون: يجوز ان يرى الله سبحانه في الاخرة بالابصار وقال: نقول انه بتاتاً وقال: نقول انه يرى بالابصار. وقال قائلون: نقول بالاخبار المروية وبما في القران انه يرى بالابصار في الاخرة بتاتاً يراه المؤمنون. ....ذكر قول الضرارية : اصحاب ضرار بن عمر وكان يزعم انه جائز ان يحول الله سبحانه العين الى القلب ويجعل في العين قوة القلب فيرى الله سبحانه الانسان بعينه اي يعلمه بها وكان ينكر الرؤية لله عز وجل بالابصار على غير هذا الوجه.) ثم يقول عن رأى الدين السّنى : (هذه حكاية جملة قول اصحاب الحديث واهل السنة جملة ما عليه اهل الحديث والسنة الاقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً ..ويقولون ان الله سبحانه يرى بالابصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لانهم عن الله محجوبون قال الله عز وجل: " كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " وان موسى عليه السلام سال الله سبحانه الرؤية في الدنيا وان الله سبحانه تجلى للجبل فجعله دكاً فاعلمه بذلك انه لا يراه في الدنيا بل يراه في الاخرة. ) 2 ـ اساطين الدين السّنى أهملوا المنهج الحقيقى فى التدبر القرآنى وفى التعامل مع المحكمات والمتشابهات ، ودخلوا على القرآن الكريم بآراء سابقة تصيدوا لها من الايات القرآنية ما يوهم ظاهره بالاتفاق مع رأيهم ، ثم صنعوا أحاديث تؤكد آراءهم . وبدون الدخول فى تفصيلات مملة فاننا لن نناقش أكاذيبهم فى أحاديثهم المصنوعة والموضوعة ، ونكتفى بأن نوجز تعاملهم مع القرآن الكريم وحجتهم فى زعمهم برؤية الله جل وعلا . فالدليل القرآنى لديهم هو قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ( القيامة 22 : 23 )، ويرون ان كلمة (ناظرة ) تفيد الرؤية ، ويستدلون بطلب موسى عليه السلام أن يرى ربه :( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ )(الأعراف 143) بحجة أنه لولا ان موسى علم بامكانية أن يرى ربه ما طلب رؤية الله ،هنا تجاهلوا قول الله تعالى لموسى (قَالَ لَن تَرَانِي ) وأهملوه مقابل افتراضهم أن موسى كان يعلم إمكانية رؤية الله جل وعلا ، وتجاهلوا أيضا أن موسى تاب وعلم أنه أخطأ حين طلب رؤية الله سبحانه وتعالى (قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين)، بل أكثر من ذلك تجاهلوا الآية المحكمة القاطعة ، وهى قوله تعالى ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) ( الأنعام 103). المهم هنا أنهم تعاملوا مع القرآن باستخفاف شديد ؛ يقتطعون من سياقه ما يريدون ويتجاهلون ما جاء حتى فى نفس الآية ، بل ويستشهدون بآية أخرى لا صلة لها بالموضوع إذ تتحدث فى موضوع آخر تماما ، وهى قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) ( المطففين 15 ). هذا هو منهجهم الزائغ فى التلاعب بآيات الله تعالى ، والذى أنبأ به الرحمن مسبقا حين قال (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ..)( آل عمران 7 ). ونأتى الى تطبيق المنهج القرآنى فى قضية رؤية الله جل وعلا .. ثالثا : الآيات المحكمات و المتشابهات فى القرآن الكريم تنفى قدرة البشر على رؤية الله تعالى فى الدنيا والآخرة.
1 ـ الآية المحكمة هنا هى قوله تعالى ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) ( الأنعام 103) والآية الكريمة هنا تضع فاصلا وفارقا بين الله تعالى وخلقه ، فمن صفات الخالق أنه يدرك الأبصار ، وهذا له وحده ، وبذلك يفترق عما عداه. والآية الكريمة فى إعجازها المذهل لم تقل ( لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار ) ولكن استعمل الله تعالى لفظ (الإدراك ) لأنه الأوقع فى وصف الفارق بين قدرة الخالق وقدرة المخلوق، فالله تعالى لا تدركه الأبصار بمعنى أنها لا تلحقه. وكلمة أدرك الشيء بمعنى لحقه بعد أن أسرع واجتهد فى اللحاق به وبالتوضيح العلمى ـ وهذا من إعجاز القرآن الكريم فى الزمن و سرعات الضوء ـ أن العين البشرية قد تحدد مداها فى الرؤية بسرعة الضوء ، أى 300 ألف كيلو متر فى الثانية ، فالكائن الذى يتحرك أسرع من هذا لا يمكن أن تلحقه أو تدركه لمح العين البشرية بالبصر أو النظر . وهناك مستويات مخلوقة لا تدركها العين فى عالمنا لأن سرعتها أسرع من سرعة الضوء .. وهذا فى المخلوقات فكيف بالخالق جل وعلا. إذن فالله تعالى لا تدركه الأبصار ، أي ليس فقط أبصار البشر ولكن كل من له بصر حتى من الكائنات العلوية ـ كالملائكة ـ التى تتخطى سرعة حركتها تصور عقولنا المحددة بالمادة ، والتى لا نستطيع رؤيتها فى هذا العالم .
2 ـ والله تعالى هو الذى يدرك الأبصار ، ليس فقط يرى المخلوقات صاحبة الأبصار و لكن يدرك أيضا أبصارها وعيونها ، يدركها فى سرعتها ،فالكلام هنا ليس عن مجرد المخلوقات ولكن أبصار تلك المخلوقات ، أى بالنسبة لنا العين البشرية وما تراه وما لا تراه، منه ما يدخل فى مجال رؤيتها مكانيا ولكن لا تراه ، وما يبعد عنه جدا فلا تراه وما يقترب منها جدا فلا تراه ، ومنه ما تراه ماديا بالعين المادية ثم يتحول إلى صورة مقلوبة ثم إلى معنى فى المخ ..ونوعية الألوان وتغيرها كل ذلك فى إطار ما تراه العين البشرية ، وهى ليست أقوى عيون المخلوقات فى القدرة على الرؤيو والإبصار ، فهناك من الكائنات الحية حولنا كالحشرات و الحيوانات ما ترى أفضل من الإنسان فى النور والظلمة. ثم هناك ما لا نراه وما لا نعرفه من مستويات أخرى من الخلق مثل الجن والملائكة و الشياطين والقرين ، وكلها حولنا وفى نفس المكان ولكن فى مستويات مختلفة ترى بعيونها ـ ولكنها لا تدرك الله تعالى ، ولكن يدرك الله تعالى أبصارها مهما بلغت السرعة التى تتحرك بها أعين تلك الكائنات العلوية أوالسفلية.
3 ـ يطول الكلام هنا فى قوله تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) كآية محكمة تقطع باستحالة أن يرى أي مخلوق الله تعالى ، ولكن يعززها قوله تعالى لموسى عليه السلام حين طلب أن يرى ربه :( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) (الأعراف 143) فالنفي هنا (لَن تَرَانِي) قاطع ومستمر إلى المستقبل أي لن يراه فى حياته الدنيوية ولا فى حياته الأخروية ، وانتهت الآية الكريمة بموسى عليه السلام وقد خر صعقا ، وأقر بأنه لم يكن فى أحسن حالاته الإيمانية حين طلب رؤية ربه جل وعلا . ولنتدبر قوله تعالى : (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) هذه هي الآيات المحكمات فى موضوع رؤية الله تعالى.،والتى أغفلها أساطين الدين السّنى أو تلاعبوا بها .
4 ـ وهناك آيات متشابهات التقط منها أساطين الدين السنى آية وحيدة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ( القيامة 22 : 23 ) وقطعوها عن سياقها و حوروا معناها لتناسب هواهم ،أى ناظرة بمعنى تنظر الى الله جل وعلا ، وكان واجبا طبقا لمنهج التعامل مع المحكمات والمتشابهات أن نعرض الآيات المتشابهات بعد معرفة سياق كل منها ، وأن نخضعها للآيات المحكمات. هذا إذا أردنا معرفة الحق القرآنى طبقا للمنهج الصحيح فى تدبر القرآن الكريم.
دعنا نتوقف مع الآيات المتشابهة التى جاء فيها كلمة (نظر ) ومشتقاتها . والمؤمن بالقرآن بعد أن يتعرف على الآيات المحكمات عليه ـ وهذا ما سبق ـ عليه أن يتتبع الآيات المتشابهات ليفهم هذا بذاك. كلمة (نظر ) لها فى الاستعمال اللغوى العربى والاستعمال القرآني معنيان :( نظر) بمعنى (رأى) ، و( نظر) بمعنى (انتظر ) ، والسياق هو الفيصل الذى يحدد المعنى . ونتتبع مثلا كلمة (نظر ) ومشتقاتها فى سورة البقرة وحدها ، فنراها تاتى بمعنى (رأى)تارة وبمعنى (إنتظر) تارة أخرى ، والسياق هو الذى يحدد بصرامة المعنى المراد . جاءت كلمة (نظر ) ومشتقاتها فى سورة البقرة بمعنى (رأى) كالآتى : يقول تعالى (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ) (فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) (البقرة 50 ، 55 ، 69 ، 104 ، 259 )
وتاتى ( نظر) ومشتقاتها فى نفس السورة بمعنى (انتظر)كقوله تعالى :( خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ ) (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) (البقرة 162 ، 210 ، 280. ) ومن هنا نفهم أن السياق القرآنى فى مجىء كلمة (نَاظِرَة) فى قوله تعالى (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ( القيامة 21 : 23 ) لا يعنى الرؤية و لكن يعنى انتظار أهل الجنة لدخول الجنة يوم القيامة ، بينما ينتظر أصحاب النار مصيرهم فى قلق وجزع ، يقول جل وعلا عن اهل النار بعدها : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( القيامة 24 : 25 ). وليس فقط لأن السياق يجعل (ناظرة ) هنا بمعنى منتظرة ، ولكن أيضا لأن تفسيرها بالرؤية يعارض قوله تعالى :( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) وقوله تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) . 5 ـ نأتى بعدها الى فهم قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) . هم يؤولون معناها بأن أهل النار محجوبون عن رؤية الله تعالى يوم القيامة بينما ينظر اهل الجنة الى الله عز وجل . وهنا نقرر الآتى : * إن وجود الحجب والحجاب لا يرتبط بالرؤية ، فقد يوجد حجاب مع انعدام الرؤية كقوله تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ) ( الأحزاب 53 ) فالحجاب هنا يوجد مع انعدام الرؤية ، ومثله قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) ( الشورى 51 ) *ولكن يوجد معنى الحجاب فى القرآن الكريم مرتبطا بالرؤية وامكانية الرؤية كقوله تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ) (الاسراء 45 ) فهنا حجاب مستور بين المشركين وخاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، ولكن هذا الحجاب غير المرئى لا يمنع المشركين من رؤية النبى محمد ولا يمنع النبى محمدا من رؤية المشركين . ونفس المعنى فى قول المشركين لخاتم النبيين : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) (فصلت 5 ). فقد اعلنوا انه ( محجوب ) عنهم وانهم ( محجوبون ) عنه ، وان بينهم وبينه ( حجاب ) . قالوا هذا وهم ينظرون اليه ويرونه ، فالحجاب هنا مصاحب للرؤية وليس حاجبا للرؤية. * أما قوله تعالى ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) فلم يأت فى سياق رؤية الله جل وعلا بل جاء فى سياق العذاب والنعيم يوم القيامة حيث تكون رحمة الله جل وعلا قريبة من أصحاب الجنة تحميهم من العذاب :(إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ )(الأعراف 56 )حيث ينقسم الناس الى ثلاثة أقسام بحسب القرب من الله جل وعلا ،فأقربهم السابقون فى الايمان والعمل وهم(المقربون) أى أقرب الناس الى رحمة الله جل وعلا ونوره ، ثم يليهم أهل اليمين ، ثم فى النهاية أهل الشمال أصحاب النار وهم المحجوبون عن رحمة الله ، وهنا يتحول النور بالنسبة لهم الى نار ، ويتم ضرب سور بينهم وبين أهل الجنة يكون حجابا فاصلا يمنع نور الله ورحمة الله وغفرانه عن أصحاب النار . التفاصيل ستأتى فى بحث قرآنى متكامل عن آلية التعذيب فى الجحيم وآلية التنعيم لأهل الجنة. ومن هنا نفهم السياق القرآنى الذى جاء فيه آية( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) فقد جاء فى موضع المقارنة بين اهل الجنة المقربين من رحمة الله والذين يحتلون المقام الأعلى وبين أهل النار المحجوبين عن رحمة الله جل وعلا وهم فى الدرك الأسفل ، يقول تعالى : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) ( المطففين 15 : 21 ). ففى الآيات ترى المحجوبين هم اصحاب الجحيم ، وترى الأبرار المقربين فى عليين .. وفى هذا السياق يقول تعالى فى وصف اصناف البشر الثلاثة يوم القيامة : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ( الواقعة 7:11 ). وتفصل سورة الواقعة احوال الأصناف الثلاثة تبدأ بالحديث عن السابقين المقربين ونعيمهم ثم نعيم أصحاب اليمين ، ثم عذاب أهل الشمال. وموقع أهل اليمين فى آخر الجنة ، وبعدهم أصحاب النار المحجوبون من رحمة الله جل وعلا ، وبسبب هذا القرب بين أصحاب اليمين وأهل النار فان الحجاب بينهما لا يمنع من التخاطب بينهم ،إذ يقول تعالى : (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) ( المدثر 39 : 47 ). فهنا حوار بين اصحاب الجنة من أهل اليمين واصحاب النار .. فهناك حجاب بين أهل الجنة وأهل النار، ولكنه لا يمنع من تخاطب الفريقين ،إذ يقول رب العزة (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) ( الأعراف 44 : 46 ). إذن بينهما حجاب ، وهذا الحجاب جاء وصفه فى قوله تعالى (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) ( الحديد 12 : 13 ). أى حجاب باطنه الرحمة ، يجعل رحمة الله جل وعلا نورا يتنعم به المؤمنون حسب اعمالهم من سابقين مقربين الى أهل اليمين ، ثم هو من الناحية الأخرى حجاب عازل يمنع الرحمة و النور ،أو هو سور باطنه الرحمة للمؤمنين والعذاب للكافرين ، أى يتحول النور الى نار. هذا هو معنى قوله تعالى ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) ( المطففين 15 : 21 ). ولا شأن لذلك برؤية الله جل وعلا إذ تستحيل رؤية الخالق فلا تدركه الأبصار وهو جل وعلا يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الآيات المحكمات والآيات المتشابهات فى دراسة عملية :( موضوع ا
...
-
معنى ( الصلاة الوسطى ) بين التدبر القرآنى ومزاعم الدين السنى
...
-
معنى ( الصلاة الوسطى ) بين التدبر القرآنى ومزاعم الدين السنى
...
-
معنى ( الصلاة الوسطى ) بين التدبر القرآنى ومزاعم الدين السنى
...
-
معنى ( الصلاة الوسطى ) بين التدبر القرآنى ومزاعم الدين السنى
...
-
التأصيل القرآنى : أملا فى غد أفضل .!!
-
أسس البحث التاريخى ( الحلقة الأخيرة ) : كيفية كتابة البحث ال
...
-
أسس البحث التاريخى ( 4 من 5 ) : رابعا : جمع المادة التاريخية
...
-
أسس البحث التاريخى ( 3 من 5 )ثالثا : التعامل مع المصادر التا
...
-
أسس البحث التاريخى ( 2 من 5 ): ثانيا: اختيار موضوع البحث
-
أسس البحث التاريخى ( 1 من 5 ) : اعداد الباحث قبل البحث
-
خرافات الدين الأرضى (4 ) : يسألونك عن الدجل ..!!
-
فقه العجز
-
فرج فودة و الشيخ الأحباس
-
إعلان إفتتاح قاعة البحث القرآنى .. معا لمواجهة ثقافة التطرف
...
-
عندك كم سنة ؟؟ ?? How old are you
-
متخصص فى السيئات !!
-
خرافات الدين الأرضى (3) الكيمياء تحولت بالدين الأرضى الى شع
...
-
ويسألونك عن فيروز !!
-
السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط بين الهرشمة و المرشلة
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|